قاوموا الهدم بتماسك البناء
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمدُ لله رب العالمين، والصلاةُ والسلامُ على محمد بن عبد الله؛ النبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.إن حالةَ العدوانِ المشهرِ من قِبل مشروع الاستكبار والاستعمار والدمار الذي تتبنَّاه الحملة الصهيوأمريكية على العالم عامةً والأمة الإسلامية خاصةً؛ صارت أكثرَ ضراوةً وأشدَّ فتكًا عنها من قبل؛ لا لشيء إلا لأنها استطاعت أن تكوِّن رأيًا عامًّا عالميًّا يؤكد أنها الحضارة الأقوى بعدتها وعتادها، ثم راحت تصوغ القوانين واللوائح والقواعد التي تُدير العالم كله صوب غايتها، ووفق مصالحها وأطماعها؛ تردِّد مقالة فرعون المغرور: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد﴾ (غافر: من الآية 29)، وأضحت منظمات العالم واتحاداته خادمةً لمشروع الصهيونية الأمريكية؛ تشجب كل محاولة للمساس به، وتدين كل من يدير له الظهر، وتجرِّم كل من واجهه أو قاومه.
إن حدود هذا المشروع وأطماعه لا تنتهي، كما أن استكبارَه وجبروتَه أفرز حوله جيلاً من التابعين الأقزام؛ اشتروا رضاه بسخط شعوبهم، وقدموا مصلحته على مصالح أوطانهم، وارتضوا رعايته لاستبدادهم عن التترُّس ببني جلدتهم، وراحوا يقدمون التنازلات الواحدةَ تلو الأخرى مخافةَ مصير القبو المظلم، والتهديدات المتلاحقة بتجميد المعونة، وإثارة حقوق الأقليات والحريات الجنسية والدينية والسياسية.
ومن هنا كان على العالم الإسلامي كله أن يستوعبَ حقيقةَ المشروع الصهيو أمريكي؛ الذي لا يضع عينيه على أراضي ومقدرات الأمة فحسب؛ بل يوجه سهامه صوب العقيدة؛ ليفرغها من مضمونها، ويحولها إلى شعائر وطقوس، لا تتعدى حدود رُكيعات في المساجد، ولا تتجاوز مدى أوقاتها، وتارةً ثانيةً ترى سهامه موجهةً ضد أخلاق الأمة؛ ليعيد رسم أسسسها وقواعدها وفق فوضى الأخلاق التي بنى عليها إمبراطوريته؛ حيث الإعلام بوسائله، يضغط على الغرائز ليتحول عصره إلى فوضى لا أخلاقية في عصر الثورة الجنسية، والإباحية التي تجسِّدها الثقافة الجديدة، وتارةً أخرى يوجه سهامَهُ إلى خصوصيات الشعوب لتتميع الهوية، ويندثر من النفوس الانتماءُ فتصبح الساحةُ خاليةً لـ(فوضى خلاَّقة) تجني ثمارَها أيادٍ صهيوأمريكية.
وكما على عالمنا الإسلامي أن يعيَ حجمَ خطورة المشروع الصهيو أمريكي على مستقبله؛ فإن عليه أيضًا أن يستوعب جيدًا أن مقاومة هذا المشروع لن تنال رضى أصحابه، بل سيتحركون صوب كل مقاوم؛ شعوبًا أو أنظمةً أو رموزَ حركةٍ وفكرٍ، رافعين رايات عدة لتشويه صورته والنَّيل منه، وتضييق السبل عليه بفرض العقوبات، مستخدمين قدرة الإعلام على قلب الحقائق، وتحريف الكلم عن مواضعه، ورسم صورٍ ذهنيةٍ لكل رافض للمشرِّع على أنه (الإرهابي- المخرب- العميل- الرجعي- المتخلف- العدواني)، وغيرها من صورٍ كثيرةٍ يرسمها الاستكبار في مواجهة المقاوم، وتنحتها معاولُ الهدمِ من أعمدةِ البناء، وهي العادة القديمة التي يلجأ إليها الظلامُ في مواجهة النور.
﴿كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)﴾ (الذاريات).
نيران الفتن غير أن أشدَّ ما يفتُّ في عضد الأمة من أسلحة المشروع الصهيوأمريكي هو سلاحُ الفتن؛ الذي تعارف الشر دومًا على استخدامه تحت شعار (فرق تسد)؛ لأنهم يؤمنون أن سرًّا ربانيًّا من أسرار قوة أمة الإسلام يكمن في توحُّدها وإيمانها بالوصية الربانية ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، كما يوقن هذا المشروع بأن أعظم ما مُنِيَ به المسلمون الفرقةُ والخلافُ، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة، ومن ثم يسعى بكل وسائله لاجتثاث كل معالم الوحدة والارتباط في أوطاننا؛ فتراه في فلسطين يسعى بالفتنة بين المرابطين في خندق أرض الرباط، وفي العراق يشعل نار المذهبية، ويصبُّ زيت الكراهية على نيران الطائفية والعرقية، وفي لبنان يعمل عمل السوس في عضد بنِيه بفعل العصبية السياسية والطائفية، وفي السودان يدسُّ في وديانه سمَّ القبلية والعرقية، وفي كل بلد عربي وإسلامي تراه يسير متستِّرًا بعباءات الحريات والأقليات؛ ليحييَ الفتن في النفوس المريضة، وذوي المصالح.
إن الإخوان المسلمين اليوم وهم يسلِّطون الضوء على أهداف هذا المشروع، ويحذرون من فتَنِه التي باتت تُسقطُ كل يوم لبنةً من أساس وحدة الأمة؛ لا يطالبون الشعوب العربية والإسلامية بمجرد ضرورة إخماد الفتن وتناسِي خلافات بينية فقط، بل يؤكدون أن وحدة الأمة فرضٌ من فرائض إسلامنا الحنيف، وواحدٌ من أسس الحياة للأمة الإسلامية التي لا يتساهل الإسلام فيها بحال حين يراها قرينًا للإيمان ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: من الآية 10)، كما يرون الخلاف والفرقة قرينَ الكفر حين قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)﴾ (آل عمران)، وفسرها العلماء بقولهم: "أي بعد وحدتكم متفرقين".
وبالتالي يستوجب الوقت على الجميع أن يراجعوا حالَهم مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم وجوه بعض" ؛ ليقفوا عند حدود تعبيره صلوات الله وسلامه عليه بكلمة الكفر عن الفرقة والخلاف، وأن يضرب بعضهم وجوه بعض.
أما أنتم يا صانعي الهمم كلَّ معبِّر عن رأي من أبناء هذه الأمة، وكلَّ صاحب قلم يشكِّل به وعيَ أبنائها، وكلَّ متحدثٍ من على أي منبر من منابر الإعلام والثقافة والفنون فيها.
إليكم جميعًا يتوجه الإخوان المسلمون بالنداء؛ لتكونوا عند حدود مسئولياتكم تقفون، وعلى درب الحقيقة سائرون، وفي ساحة البناء تعملون.
فلتكن كلماتكم السياج الذي يحمي، والساعد الذي يبني، والوطن الذي يجمع، ولا تجعلوا من منابركم أبواق فتنة، أو عيونًا على العورات ونوافذ للشائعات؛ حتى لا تكونوا قبلةَ غواية من تلك التي قال عنها الحق جل في علاه: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ (226)﴾ (الشعراء)، وإن كان لكم من مكان فليكن هو الاستثناء من هذا المثل الرباني والدخول إلى الذين قال عنهم رب البرية: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (227)﴾ (الشعراء).
واجعلوا من المقاومة ثقافةً وفنًّا وإبداعًا تعمر به عقول الناس، وتقوى به شوكةُ الأوطان، وواجهوا قاموس الانهزام والانبطاح والتبعية بمصطلحات: المقاومة والخيرية والأمل؛ لتوقظوا عزيمةَ الأمة، وتُحيوا مواتها، وتُوقظوا غافلها، وبِذا تكونوا قد نِلتم شرف البناء قبل أن ترميَكم الأجيال القادمة بالمشاركة في الهدم.
وأنتم أيها الإخوان يا من ارتضيتم الله غايةً والرسول صلى الله عليه وسلم قدوةً وقائدًا، والقرآن دستورَ حياةٍ، والجهادَ سبيلَ عزٍ، والشهادةَ في سبيل الله أمنيةً غاليةً.
إن كانت هذه محددات حياتكم فلتعلموا أن حبَّ الأوطان من الإيمان، والعملَ لها من شعائر الإسلام، وبالتالي فدورُكم في إخماد نيران الفتنة عظيمٌ، وأمانتُكم ثقيلةٌ، وواجباتُكم كثيرةُ على ما يواجهكم- وأمتكم- من استبداد وامتحانات وضِيق في الرزق؛ فاحرصوا على أن تكونوا ممن قال الله فيهم: ﴿رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)﴾ (النور)، واجعلوا بيعكَم وتجارتَكم مع الله، واثقين في نصره ثقةً لا يشوبُها قلقٌ أو استعجالٌ، ولا يَحُل بينكم وبين السير نحو تأجيج حمية الحق والحرية في نفوس أقوامكم تشكيكُ مشكِّك، أو تثبيطُ حاقد، أو ادعاءاتُ تابعين، وواجِهوا دعاوى الركون والخنوع والفرقة وشائعاتِها بالامتثال للنصيحة الربانية ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63)﴾ (الفرقان)، ولا تستصغروا شمعةً تحملونها لتضيئوا الطريق؛ فأول السير خطوة، وأول الغيث قطرة ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51)، و ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾ (الروم).
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.