تعويق المشروع النهضوي الإسلامي خسارة للأمة
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه.يقول الله تعالى: ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ (الإسراء: من الآية 105)، ويقول تعالى: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ﴾ (يونس: من الآية 32).
لقد أرسل الله تعالى رسله بالبيِّنات، وأنزل كتبه بالحق ليقوم الناس بالقسط والعدل، وكان الإسلام العظيم هو خاتم الرسالات السماوية؛ لتبقى كلمة الله بالحق إلى يوم الدين، يحمل هذا الدين من كلِّ خلف عدولُه، يبلِّغون رسالة الله، ويجاهدون في سبيل الحق، ويضحُّون في سبيل تلك الغاية بكل غالٍ ونفيس، لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم.
وفي مواجهة هذا الحق الناصع المؤيَّد من الله؛ يقف أهل الباطل ليس لهم منطق إلا سبيل البغي والظلم والعدوان، يقفون بقوتهم المادية في طريق أهل الحق.
شعارهم هو شعار الفرعون في كل عهد وعصر وزمان ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى﴾ (غافر: من الآية 29) ﴿وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى﴾ (طه: من الآية 71).
واليوم ونحن نعيش في القرن الخامس عشر للهجرة والحادي والعشرين للميلاد؛ نرى بأمِّ أعيننا كيف أصبحت القوة المادية هي سبيل أهل البغي والظلم؛ فلا حجة ولا برهان، ولا عدل ولا إحسان، ومنذ حسمت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب الثانية عام 1945م بإلقاء القنبلتين الذرية والنووية على هيروشيما ونجازاكي في اليابان، لتحصد في دقائق عشرات الآلاف من الأرواح البريئة، دون تمييز بين مقاتل ومسالم، ولتدمر كل شيء على الأرض.
من زرع ونبات وبشر وحيوان ومساكن ومصانع لتبقى آثارها المدمرة إلى يومنا هذا.
أصبحت "القوة المادية" هي شعارَ هذه الحضارة المادية الطاغية، التي أفسدت نفوس البشر، ودمَّرت أرواحهم، وغيَّرت أخلاقهم.
ولم تستطع الكنيسة المسيحية ولا بقايا اليهودية أن تقف في وجه هذه الموجة العاتية من الحضارة المادية الطاغية؛ فكان قدرنا نحن المسلمين، وعلى الأخص حَمَلة الدعوة من الإخوان المسلمين ودعاة الإسلام في كل مكان أن يعلنوا بقوة الحقَّ في مواجهة منطق القوة المادية المجرَّدة من الأخلاق والقيم، والمتحلِّلة من الدين والعقيدة.
وكان مشروعنا للنهضة على أسس الإسلام العظيم لبناء هذه الأمة الإسلامية؛ لتقوم بدورها الإنساني، ولتحمل مشعل الهداية لبني البشر جميعًا؛ لتنقذهم من حضارة المادة التي لم تحقِّق لهم سلامة النفس ولا هدوء البال ولا راحة الضمير، ولم تقربهم من طريق السعادة والهناء في الدنيا، وأبعدتهم عن معرفة الله تعالى، فحرمتهم نعمة الإيمان التي تحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة.
وأعلن الإخوان المسلمون منذ فجر دعوتهم أنهم يمدُّون أيديَهم لكل مخلِص في أوطانهم وفي العالم كله من أجل سعادة البشرية؛ تحقيقًا لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
ورسم الإخوان خطتهم كما علَّمهم الله؛ بأن البداية هي تغيير النفوس وامتلاك إرادة التغيير ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11)، وأن الله تعالى لم ينزع عن قومٍ رعايته وهدايته إلا بسبب انحرافهم ونكوصهم عن طريق الإيمان ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الأنفال: الآية 53).
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾ (النحل).
انطلق الإخوان المسلمون يدعون إلى شمولية الإسلام، وإقامة الحق والعدل في كل ميدان، والتحلي بالقيم الأخلاقية والإيمانية على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، ونشر الفضائل ومحاربة الرذائل، والتأكيد على استقلال القضاء، ووحدة الأمة، واحترام إرادتها.
يدعون في ذلك إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلون قومهم بالحسنى، فلمست دعوتهم الفطرة السوية، واستجابت لهم العقول السليمة؛ فانتشرت فكرتهم، وازدهرت دعوتهم، وكان لهم دورُهم في تحرير الأوطان، وشحذ الهمم، وإيقاظ الروح، وبدأت ثمار مشروعهم للنهضة تظهر للعيان؛ فماذا كان موقف خصومهم؟! لقد واجهوا دعوة الحق والقوة والحرية بكل صنوف البطش والعدوان، ولم يكن لهم إلا منطق البغي والقوة المجردة عن كل حق؛ فكانت المطاردات والاعتقالات والسجون والإعدامات ومصادرة الأموال وإغلاق المنشآت وتشريد البيوت الآمنة؛ فصبروا وتحمَّلوا في سبيل الله كلَّ ما أصابهم من أذى، وكان شعارهم قول الله تعالى: ﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ (إبراهيم: من الآية 12).
ولكن الخسارة الكبرى لم تكن في النفوس والأرواح والأموال التي احتسبها الإخوان عند الله، بل كانت الخسارة من نصيب أمتنا الإسلامية بل العالم كله؛ بتعويق ذلك المشروع النهضوي الإسلامي وحرمان الأمة من إقامة نهضتها على أسس الإسلام العظيم.
لقد فشلت النخب المتغرِّبة منذ قرنين من الزمان في كل مشاريع النهضة؛ التي حاولت فيها استنساخ مشاريع غربية تحت شعار التحديث، والتي ابتعدت فيها عن عقيدة الأمة وتراثها الحضاري العظيم، وجرت وراء سراب التقليد الأعمى دون نظر إلى الاختلافات الجوهرية بين مسار تاريخ النهضة في الغرب والصراع بين الكنيسة من جهة، وبين بارونات الإقطاع والملوك من جهة أخرى، والعداء المستحكم بين جحود الكنيسة الكاثوليكية وبين العلم، وذلك لم يشهده تاريخنا ولم تعهده أمتنا، بل إن ديننا يحث على العلم والمعرفة، ولا يجعل لبشر كائنًا من كان قداسةً وليس عندنا كهنوت.
وها قد وصلت أمتنا إلى الاقتناع بأنه ليس لها سبيلٌ إلا إقامة نهضتنا على أساس الإسلام، والتفت جموع غفيرة وأغلبية كبيرة من الشعوب الإسلامية حول شعار دعوتنا (الإسلام هو الحل) كهوية حضارية وشعار للنهضة المرجوَّة؛ لتقف أمتنا في مصافِّ أمم العالم المتقدمة؛ تتعاون معها على إقامة عالم آمن مسالم متعاون في سبيل العدل والحق والمعرفة.
فماذا كان الجواب؟! لقد امتدت يد البطش والبغي والعدوان لتزرع الفتن والأحقاد والمشاكل والنزاعات في كل أرجاء وأمتنا، وها نحن نرى كيف أصبحت القوة الباطشة من جانب أعداء الأمة في العراق وأفغانستان والصومال وفلسطين هي أداتهم لتمزيق كل البلاد! وكيف أصبحت القوة الباغية هي أداة الحكام في بقية بلادنا لقمع الأصوات المعارضة وحرمان الشعوب من التعبير الحر عن إرادتها! وكل ذلك لتعويق مشروع النهضة الذي اختارته الأمة، وعبَّرت عن ذلك الاختيار في كل مناسبة بتأييد دعاة الحق والقوة والعدل والحرية.
إننا على ثقة تامة بتأييد الله الحق القوي المتين لدعوته وحمَلة رسالته إلى البشرية، وطالما اتصلت قلوبنا بالله تعالى مصدر القوة الوحيد في هذا العالم؛ فإننا سنظل ثابتين على دعوتنا، ونعلم أن النصر في نهاية المطاف هو للحق المؤيد من الله تعالى.
أيها الإخوان المسلمون.
آمِنوا بالله الحق، واعتزُّوا بمعرفته، وجدِّدوا صلتَكم به، واصبروا وصابروا ورابطوا، وانتظروا نصر الله بهذه الأمة ولو بعد حين، ولا تغرنَّكم هذه القوة المادية العارية عن أي حق؛ فإنها إلى زوال ﴿لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197)﴾ (آل عمران).
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.