رمضان.. شهر الانتصار
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين..
أما بعد؛ فإننا نعيش في حنايا هذا الشهر الكريم، في أجواء الطاعة والإنابة والإخبات لله تعالى، وفي تنوع العبادات، من صيام طوال ساعات النهار، يرقق القلب ويحرر الروح وينعش النفس، ومن قيام بالليل ووقوف بين يدي الله تعالى، ننهل من فيوضات القرآن ورحماته وإشراقاته، وفي جميع الأوقات نسعد بالدعاء والاستغفار والابتهال والذكر.
في كل لحظة من هذا الشهر الكريم يشعر الإنسان الطائع العابد بقربه من الله عز وجل، فينعم بمعيَّته ويحتمي بجنابه ويستلهم توفيقه وهدايته في كل شأنٍ من شئون حياته العاجلة والآجلة، وأجمل ما في هذا الشهر الكريم أنه يجمع الأمة كلها في صعيد الطاعات وبستان المعرفة ويذكِّرها بهويتها ويشعرها بعزتها ويسمو بمكانتها، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية110).
ولئن اشتدت بهذه الأمة الكروب وتفاقمت الأزمات وتكالبت عليها قوى الشر من كل جانب- سواء في فلسطين أو العراق أو أفغانستان أو السودان- فإن هذا الشهر الكريم يأتي ليداوي الجراح ويخفف الأحزان ويبعث الأمل ويجدد العزم ويرفع الهمة، ويذكر المؤمنين بهذا النداء العلوي الجليل ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)﴾ (آل عمران) "إن كنتم مؤمنين" أو عدتم مؤمنين صادقين تائبين مخبتين، طائعين لله، منفذين لأوامره مهتدين بهديه محتكمين إلى شريعته، عادت لكم العزة والكرامة وتبدَّد الحزن والهوان وجاءكم النصر المبين.
أليس بعجيبٍ أن تكون أعظم انتصارات هذه الأمة المسلمة قد تحققت في ظلال هذا الشهر الكريم، بدءًا من غزوة بدر الكبرى في العام الثاني للهجرة إلى فتح مكة في العام الثامن إلى موقعة عين جالوت، وانتهاءً بنصرٍ قريبٍ منا في العاشر من رمضان 1393هـ 6 أكتوبر 1973م- على أرض سيناء المباركة.
هذا الشهر الكريم، الذي قد يظنه البعض شهر الهدوء والدعة والراحة، هو الذي تحققت فيه أعظم الانتصارات وأقوى المعارك وأكبر النتائج في مواجهات الحق مع كل قوى الباطل.
إن رهبان الليل وعُبَّاده كانوا هم فرسان النهار وقوَّاده، والشعوب التي صنعتها المحاريب ووحدتها صفوف الصلاة، هي التي صمدت أمام كل قوى الشر حتى مزقتها وبددتها، وأرست راية النصر عالية خفَّاقةً في ميادين العزة والشرف.
إن للنصر قوانين إلهية ثابتة تعلمتها هذه الأمة من كتاب ربها وسنة نبيها، لا تتخلف مهما تطاول الزمان وامتدت القرون، لقد علَّمنا القرآن الذي نحرص جميعًا على تلاوته في شهر رمضان: 1- أن النصر من عند الله وحده، لا يُطلب إلا منه ولا يمنحه أحد سواه.
﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران: من الآية 126).
2- أن ما عند الله تعالى يُنال بطاعته لا بمعصيته أو مخالفة أمره.
﴿فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (النور: من الآية 63).
3- أن للنصر ثمنًا غاليًا لا بد أن يدفع من جهاد صادق ونصرة للدين.
﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ (الحج: من الآية 78).
4- وأنه لا بد من التغيير والإصلاح في كل مناحي الحياة ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
5- أن الله تعالى يمكن للأمة التي تستكمل عوامل النهضة في روحها وإيمانها وثقافتها والتزامها بقيم الحق والعدل والحرية، فيكون للتمكين لها خدمة للبشرية ونهضة بها ﴿.
.
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ (41)﴾ (الحج).
6- أنه لا بد من بذل أقصى الطاقة وإعداد أقوى العدة- سواء للدفع أو للردع- فلا مجال للإهمال أو التفريط ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ (الأنفال: من الآية60).
7- أنه لا بد من تولية الأكفاء الأمناء في كل مناحي الحياة لإصلاحها ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾ (القصص: من الآية 26)، ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)﴾ (يوسف: من الآية 55) ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ (البقرة: من الآية 247).
8- أن وحدة الأمة فريضة ربانية وتكاتفها وتكافلها واجب شرعي ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)﴾ (الأنبياء)، ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا﴾ (الأنفال: من الآية 46).
9- أنه لا مجال للهزيمة النفسية أو التراجع أو التردد مهما علا صوت الباطل وارتفع ضجيجه ﴿ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (المائدة: من الآية 23) ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: من الآية 249).
10- أنه لا بد من الصبر والمصابرة والمرابطة وطول النفس وقوة الإرادة والثقة واليقين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾ (آل عمران).
تلك سنن النصر وقوانينه، نتعلمها من كتاب ربنا الذي نزل في هذا الشهر العظيم، فلنجعل من رمضان فرصة ًسانحةً لإعادةِ بناء هذه الأمة على أساسٍ من منهج الله تعالى، فهذا المنهج هو الذي يجمع شتاتها ويُوحِّد صفَّها ويُشحذ هممها ويستجمع قواها ويجدد شبابها، ويحيي مواتها ويرهب أعداءها.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 24)، والله أكبر ولله الحمد.