حسن البنا ومشروع نهضة الأمة
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.وبعد؛ يقول الله تعالى ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).
في حياة الأمم والشعوب يظهر قادةٌ أفذاذ يصنعهم الله على عينه، ويؤلِّف مَن حولهم القلوب فيقومون بمهمة إحياء هذه الأمم، وقيادة نهضتها وإعلاء مكانتها.
ولقد كان الإمام الشهيد حسن البنا شهيد فلسطين أحد هؤلاء الذين أوقفوا حياتهم منذ نعومة أظافرهم من أجل نهضة مصر والأمة العربية والإسلامية، ولقد بنى مشروعه للنهضة، والذي انطلق من مصر، ثم التَّف حوله الملايين في كل أنحاء العالم على أسس ثلاثة هي: 1- إن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شئون الناس في الحياة الدنيا، وما يترتب على ذلك من سعادة في الآخرة، فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجيش، ودين ودولة، وروحانية وعمل، ومصحف وسيف، والقرآن الكريم ينطق بذلك كله ويعتبره من لُبِّ الإسلام ومن صميمه ويوصي بالإحسان فيه جميعًا، وإلى هنا تشير الآية الكريمة ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص: من الآية 77).
2- إن أساس التعاليم الإسلامية ومعينها هو كتاب الله تبارك وتعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبدًا، وإن كثيرًا من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها والشعوب التي عاصرتها.
لذا يجب أن تستقي النظم الإسلامية التي تحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية النبوية حتى لا نقيد أنفسنا غير ما يقيدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جميعًا.
3- إن الإسلام كدين عام انتظم شئون الحياة في كل الشعوب والأمم لكل الأعصار والأزمان، جاء أسمى وأكمل من أن يعرض لجزئيات هذه الحياة وخصوصًا في الأمور الدنيوية البحتة، فهو إنما يضع القواعد الكلية في كل شأن من هذه الشئون، ويرشد الناس إلى الطرق العملية للتطبيق عليها والسير في حدودها.
وقد عني الإسلام عنايةً تامةً بعلاج النفس الإنسانية، وهي مصدر النظم، ومادة التفكير والتصوير والتشكيل.
"رسالة المؤتمر الخامس".
على هذه الأسس الثلاثة بنى الإمام البنا بنيان مشروع النهضة عند الإخوان المسلمين، فكانت أهم خصائصه المرونة والبساطة والشمول والتكامل والربانية والواقعية، وهي من أهم خصائص الإسلام نفسه.
لقد درس الإمام البنا تاريخ المسلمين ووقف على أهم عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية التي صمدت في وجه الأنواء حتى القرن السادس الهجري، عندما مزقتها جحافل التتار، ثم جاء الغزو الأجنبي في القرن الرابع عشر الهجري ليترك وراءه ما نراه اليوم من أمم مبعثرة ودويلات صغيرة تتوق إلى الوحدة وتتوثب للنهوض.
لقد كان تشخيص الداء مرحلةً مهمةً قبل وصف العلاج وهو ما رسمه البنا عليه رحمة الله فذكر أهم العوامل التي أدت إلى تحلل الدولة الإسلامية وفي مقدمتها ومن أهمها: 1- الخلافات السياسية والعصبية وتنازع الرياسة والجاه.
2- الخلافات الدينية والمذهبية والانصراف عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة، وإهمال كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والجمود والتعصب للآراء والأقوال والولع بالجدل والمناظرات والمراء.
3- الانغماس في الترف والنعيم، والإقبال على المتعة والشهوات.
4- انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن لصعوبة إدراك معانيه.
5- إهمال المعارف الكونية والعلوم العلمية، وصرف الأوقات والجهود في فلسفات نظرية عقيمة وعلوم خيالية سقيمة.
6- غرور الحكام بسلطانهم، والانخداع وإهمال النظر في التطور الاجتماعي للأمم من غيرهم حتى سبقتهم في الاستعداد والأهبة وأخذتهم على غِرَّة.
7- الانخداع بدسائس المتملقين من خصومهم والإعجاب بأعمالهم ومظاهر حياتهم، والاندفاع في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع، مع النهي الشديد عن التشبه بهم والأمر الصريح بمخالفتهم، وضرورة المحافظة على مقومات الأمة الإسلامية، (رسالة بين الأمس واليوم).
ثم شرح الإمام الشهيد كيف يمد الإسلامُ الأمةَ الناهضة بما تحتاج إليه من نظم وقواعد وعواطف ومشاعر بما لا يدع مجالاً للشك أمام كل مسلم وعربي بل وكل إنسان بأن مزايا التوجه الإسلامي تحقق للأمة الكثير من الفوائد؛ لأنه قد جُرِّب من قبل وشهد التاريخ بصلاحيته، وله من القدسية والاستقرار في النفوس ما يسهل على الجميع تناوله وفقهه والاستجابة له والسير عليه، فضلاً عن الاعتزاز بالقومية والإشادة بالوطنية الخالصة؛ حيث نبني حياتنا على قواعدنا وأصولنا ولا نأخذ عن غيرنا، وهذا أرقى معاني الاستقلال الاجتماعي والحيوي بعد الاستقلال السياسي.
وأنّ السير على هذا المنهج وتشييد النهضة على أصول الإسلام يأتيان تقويةً للوحدة العربية أولاً ثم للوحدة الإسلامية ثانيًا.
وإن هذا المنهج تام شامل يضع نظم الحياة للأمم على أساسين مهمين: أخذ الصالح وتجنب الضار.
وفي بيان ما تحتاجه الأمة الناهضة من أسس ودعائم وكيف يمدها به الإسلام قال الإمام الشهيد في رسالة "نحو النور" وهي خطاب للزعماء وقادمة الأمة: 1- الإسلام والأمل: تحتاج الأمة الناهضة إلى الأمل الواسع الفسيح والقرآن يبين لنا أن اليأس سبيل إلى الكفر والقنوط من مظاهر الضلال ويقول الله لنا: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5)﴾ (القصص)، ويقول لنا: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 140).
2- الإسلام والعزة القومية: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾ (البقرة: من الآية 143)، ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: من الآية 8).
والوطن في عُرف الإسلام يشمل: * القطر الخاص أولاً.
* الأقطار الإسلامية الأخرى، كلها للمسلم وطن ودار.
* الإمبراطورية الإسلامية الأولى التي شادها الأسلاف بدمائهم.
* ثم يسمو حتى يشمل الدنيا جميعًا.
وبذلك يكون الإسلام قد وفَّق بين شعور الوطنية الخاصة وشعور الوطنية العامة بما فيه الخير كل الخير للإنسانية جمعاء.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
3- الإسلام والقوة والجندية: حيث جعلها الإسلام فريضة محكمة من فرائضه، ولم يفرق بينها وبين الصلاة والصوم في شيء.
4- الإسلام والصحة العامة: ﴿وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ (البقرة: من الآية 247) ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف" .
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إن لبدنك عليك حقًّا" .
5- الإسلام والعلم: حيث يجعله فريضة من فرائضه كالقوة ويناصره، وكانت أول آية نزلت ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)﴾ (العلق).
6- الإسلام والخلق القويم الفاضل.
حيث يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ (الشمس).
﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
7- الإسلام والاقتصاد: والشئون الاقتصادية أهم الشئون في هذه العصور وقد أولاها الإسلام أكبر الاهتمام وأعظم التقدير، ووضع لها القاعدة العامة التي تكفل سلامة البنيان الاقتصادي، فحرَّم الربا والاحتكار وأحل البيع والشراء.
8- نظم الإسلام العامة: إن نظم الإسلام فيما يتعلق بالفرد أو الأسرة أو الأمة حكومته وشعبها أو صلة الأمم بعضها ببعض، جمعت بين الاستيعاب والدقة وإيثار المصلحة وإيضاحها، وأنها أكمل وأنفع ما عرف الناس من النظم حديثًا أو قديمًا.
هذا حكم يؤيده التاريخ ويثبته البحث الدقيق في كل مظاهر حياة الأمة، وردًّا على من يقول إن بناء نهضة مصر والعرب والمسلمين قد ينتقص من حقوق الأقليات غير المسلمة، أو يعكر صفو العلاقة مع الغرب وبقية الدنيا.
يقول الإمام: إن الإسلام وضع نصوصًا صريحةً واضحةً لحماية الأقليات وفي متنها ﴿لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)﴾ (الممتحنة).
والإسلام قدَّسَ الوحدة الإنسانية العامة في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات).
وقدَّسَ الوحدة الدينية العامة وقضى على التعصب في قوله تعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)﴾ (البقرة).
ثم قدَّسَ الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)﴾ (الحجرات).
وحدّد بوضوح ودقة من يحق لنا كمسلمين أن نناوئهم ونقاطعهم في قوله: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (9)﴾ (الممتحنة).
أما الغرب والغربيون؛ فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون فهي لا ترضى عنا سواء اتبعنا الإسلام أم غيره، وهذا ما حدث خلال قرنين من الزمان فانهارت تجارب النهضة التي بناها مؤسسوها على غير قواعد الإسلام.
إن أصول النهضة في الشرق غير أصولها في الغرب، ورجال الدين غير الدين نفسه، وإن بداية النهضة يجب أن تبدأ بإنشاء قواعدها على دعائم قوية من الخلق الفاضل والعلم الغزير والقوة السابغة وهو ما يأمر به الإسلام.
وعلينا أن نتخذ خطوات عملية في كافة المجالات مع البحث الدقيق والصبر على العلاج وتخطي العقبات، مع ما يحتاجه ذلك من طول الأناة وعظيم الحكمة وماضي العزيمة.
ونعلم أنه إذا صدق العزم وضح السبيل، وأن الأمة القوية الإرادة إذا أخذت في سبيل الخير فهي لا بد واصلة إلى ما تريد إن شاء الله تعالى، فلنتوجه إلى النهضة والله معنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.