ذلكم الله ربكم الحق
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه، وبعد.فقد ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم جيلاً من أصحابه تربيةً خاصةً؛ فكان الواحد منهم أُمّةً، واستطاعوا بفضل الله أن يفتحوا بالإسلام مشارقَ الدنيا ومغاربَها، فقد أيقن صلى الله عليه وسلم أنه لا يمكن أن يؤدي هذا الجيل رسالته في إخراج الناس من الظلمات إلى النور بغير يقظةٍ روحيةٍ قويةٍ؛ تحرِّك المشاعر الساكنة، وتحمل النفوس الكليلة العليلة.
ذلكم الله ربكم.
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم عملية الإيقاظ الروحي بتعريف الخلق بربهم، وأنه وحده الحق المطلق، وأن دينه وحده هو دين الحق، وكل الدعوات الأخرى زائفةٌ باطلةٌ ﴿فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ (يونس: 32).
وأدرك الجيل الأول أن عزَّهم في الاستمساك به، ولم يعُد هناك أيُّ استعداد للمساومة عليه أو التراجع عنه، أو التردُّد في نصرته والتضحية بالغالي والنفيس من أجله.
أخرج الحاكم فيما صحَّحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "إِنا قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام؛ فلن نبتغيَ العزَّةَ بغيره".
الله تعالى في القرآن يكفيك أن تقرأ القرآن لتقف على ما غرس الإسلام في قلوبهم من معرفة حقيقية بالله جل وعلا، صحَّحت سلوكَهم في الحياة، وجعلتهم خيرَ أمة أُخرجت للناس، ولتعرف كيف سيكون حال الأمة لو عادت إلى هذه المعرفة الوثيقة بالله؛ حيث تتحرَّر القلوب من عبودية الأهواء والشهوات والجبابرة والطواغيت، وتمتلئ بالقوة والعزة، وتتداعى إلى حفظ الحقوق والكرامة الإنسانية، فلتنظر معي، أيها الإنسان، إلى بعض جوانب التعريف بالله تعالى في القرآن في النقاط العشرة التالية: 1- الله هو الحق وما عداه باطل.
تلك هي الحقيقة التي ملأت كيان الجيل المسلم الأول، والتي يجب أن تملأ كيان كل مؤمن، قال تعالى ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ (الحج: 62).
2- الله وحده المالك لكل شيء والخالق لكل شيء والمدبر لكل أمر قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ (الزمر: من الآية 6)، وقال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ (غافر: 62)، والله تعالى يذكِّر عباده بهذه الحقيقة؛ فيقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ (فاطر: 3).
وينقل لنا على لسان الخليل إبراهيم إيمانه بهذه الحقيقة ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ (الشعراء: 78: 82).
3- بيده الأمر ومن سواه لا يملكون شيئًا.
قال تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 54)، وقال تعالى: ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ (يونس: من الآية 3).
ويدعو الله كل مؤمن أن يردِّد ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ* تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران: 26، 27)، ويهدد سبحانه المتجبرين في الأرض.
﴿إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ﴾ (إبراهيم: 19، 20).
أما غيره مهما بلغت قوتهم فهم لا يملكون قليلاً ولا كثيرًا.
قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ (فاطر: من الآية 13).
4- الله عليم بما في نفوس العباد لا يخفى عليه شيء.
قال تعالى: ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ (الإسراء: من الآية 25)، ويناجي الخليل ربه فيقول: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ (إبراهيم: 38).
5- دعوته وما جاء من عنده هو وحده الحق المطلق.
قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ (يونس: من الآية 94).
6- لا يغيب عنه ما يفعل الظالمون.
لأن الظالم تغلبه شهوة الظلم على التسلط على الخلق، ويغرُّه إمهال الله تعالى له؛ فإنه سبحانه يؤكد أنه بالمرصاد لكل طاغٍ نسي ربه وتسلَّط على عباد الله بغير حق، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم: 42)، ويهدد الله سبحانه المجرمين فيقول: ﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ (الأنعام: 147).
وقال بعض الحكماء: "الظلم على ثلاثة أوجه: ظلم لا يغفره الله عز وجل فهو الشرك به، وظلم لا يتركه الله تعالى فمظالم العباد بعضهم بعضًا، وظلم لا يعبأ به فظلم العبد بينه وبين الله تعالى".
7- الكل سيرد إلى الله الحق.
فالكل إليه صائر وأمامه محاسَب.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ﴾ (الأنعام: 62).
ولذلك لا ينبغي لمن عرف أنه صائرٌ إلى ربه أن يتخذ غيرَه ربًّا ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (الأنعام: 164)، وينعى الله على أولئك الغافلين الذين يظنون أن أحدًا لا يقدر عليهم فيقول: ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (المطففين: 4-6).
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول محذِّرًا الظالم من يوم اللقاء: "يوم العدل (أي يوم القيامة) على الظالم أشدّ من يوم الجور على المظلوم".
8- هو وحده المستحق للعبادة.
فما دام هو الحق، وما دام هو وحده الخالق المالك المدبِّر، وما دام الأمر كله بيده، ولا يخفى عليه شيء من أمر خلقه، وما دام الحق هو ما جاء به، وما دام الكل إليه راجعًا، فينبغي إفراده وحده بالعبادة، قال تعالى: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ (الأنعام: 102).
9- الله وحده الذي يُخشى عقابُه يوم الدين.
قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾ (النور: 25)، ومن ثم فالمؤمن يردِّد دائمًا: ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ (الأنعام: 15 والزمر: 13).
وجاء في بعض الآثار: "يقول الله تعالى: اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد له ناصرًا غيري".
وقال أبو أمامة رضي الله عنه: "يجيء الظالم يوم القيامة، حتى إذا كان على جسر جهنم لقيه المظلوم وعرف ما ظلمه به، فما يبرح الذين ظُلِموا بالذين ظَلَموا حتى ينزعوا ما بأيديهم من الحسنات؛ فإن لم يجدوا حسناتٍ حُمِلَ عليهم من سيئاتهم مثل ما ظلموا، حتى يرِدُوا الدرك الأسفل من النار".
10- ولا مجال في قلب المؤمن للخوف مما سواه.
فالمؤمنون به على الحقيقة ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (النحل: 50)، ولذلك فخليل الرحمن يرفض التهديد الذي يوجِّهه إليه من لا يعرف الله ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ* وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (الأنعام: 80، 81).
وموسى عليه السلام حين تضيق حوله الدائرة ويخشى أصحابه أن يدركهم فرعون: ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ (الشعراء: 62) فينفلق البحر أمامه، حتى إذا نجا بمن معه انطبق البحر على فرعون وجنوده.
تحذير القادر على الظلم من الظلم وبعد.
فهل لمؤمن بالله يقرأ هذه الآيات أن يتجاوز قدره، وأن يعصي ربه، وأن يعتدي على خلق الله بما في يده من سلطان، متناسيًا سلطان الله عليه وقدرةَ الله من فوقه، جاء في صحيح مسلم عن أَبي مسعودٍ البدْرِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: "كُنْتُ أضْرِبُ غُلامًا لِي بالسَّوْطِ، فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنْ خَلْفِي: " اعْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ "؛ فَلَمْ أفْهَمِ الصَّوْتِ مِنَ الغَضَبِ، فَلَمَّا دَنَا مِنِّي إِذَا هُوَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا هُوَ يَقُولُ: "ا عْلَمْ أَبَا مَسْعُودٍ أنَّ اللهَ أقْدَرُ عَلَيْكَ مِنْكَ عَلَى هَذَا الغُلامِ "، فَقُلتُ: لا أضْرِبُ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ أَبَدًا"، وَفِي روايةٍ: فَسَقَطَ السَّوْطُ مِنْ يَدِي مِنْ هَيْبَتِهِ، وفي روايةٍ: فَقُلتُ يَا رسولَ الله، هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى، فَقَالَ: " أمَا لَوْ لَمْ تَفْعَلْ لَلَفَحَتْكَ النَّارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النَّارُ "!!!.
أين هذا مما تفعله بعض الأجهزة في التعامل مع المواطنين من إيذاء وحبس بغير حق، وتلفيق لقضايا مزعومة؟! مستغلةً سطوتَها وقوتَها، ضاربةً عُرضَ الحائط بكل ما جاء في الدستور والقانون من رعاية للحرمات وحفظ لكرامات الناس.
﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (المطففين: 4- 6).
النبي يحذر من يؤذي مسلمًا أو يعذبه أو يظلمه أَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ جَرَحَ ظَهْرَ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ "، وأخرج أَيْضًا عَنْ عِصْمَةَ بن قيس قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ظَهْرُ الْمُؤْمِنِ حِمًى إِلا بِحَقِّهِ "؛ يعني إلا أن يرتكب ما يوجب العقوبة.
ولم يكن الجيل الأول من صحابة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم يتأخرون عن تذكير من وقع في شيء من هذه الخطيئة، ولم يكن المنصوح يتردَّد في مراجعة نفسه وتصحيح خطئه، أخرج ابن أبي عاصم عن خالد بن حكيم بن حزام، أنه أتى أبا عبيدة، وإذا رجل من أهل الأرض بشمس (أي يعذبه أبو عبيدة بإيقافه في الشمس الحارقة)، فنهاه عنه خالد بن الوليد، فقالوا لخالد: أغضبت أبا عبيدة! فقال: إني لم أُغضبه، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن أشدَّ الناس عذابًا للناس في الدنيا أشدُّهم عذابًا عند الله عز وجل يوم القيامة ".
وفي مسند أحمد وصحيح مسلم: مَرَّ هِشَامُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ بِأُنَاسٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَدْ أُقِيمُوا فِي الشَّمْسِ بِالشَّامِ (على سبيل التعذيب) فَقَالَ: مَا هَؤُلاَءِ؟ قَالُوا: بَقِيَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَرَاجِ (أي تأخَّروا في دفع بعض ما عليهم) فَقَالَ: أشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعَذِّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ "، وَأَمِيرُ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ عَلَى فِلَسْطِينَ، فَدَخَل عَلَيْهِ فَحَدَّثَهُ، فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ.
أين هذه التربية الإيمانية التي صبغت هذه القلوب المؤمنة مما تفعله بعض الأنظمة من تسليط أجهزتها الأمنية وإطلاق يدها في النَّيل من كرامة الناس وتعذيبهم، ثم تكابر وتجادل عن هذا السلوك المشين؟! وحتى حين تُعرَض عليها وعلى الملأ الحقائق الدامغة والقصص المروِّعة لما جرى من تلك الأجهزة؛ تنطلق في الإنكار أحيانًا، وتبرير هذا الظلم أحيانًا.
!! ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (المطففين: 4-6).
احذروا دعوة المظلوم إنني أذكِّر كل من شارك أو يشارك في الإساءة لبني وطنه بقول الله تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم: 42)، ولْيحذر من يمارس هذا الفعل الشائن من دعوة المظلوم، فقد روى أحمد والترمذي بسند حسن عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ فَوْقَ الْغَمَامِ وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ".
ولما نُكب أحد الظلمة ودارت عليه الدوائر قيل له: أرأيت هذه النكْبة؟ هل تدري ما سببُها؟ قال: لعلَّها دعوةُ مظلومٍ، سَرَتْ في ظلامِ الليلِ ونحنُ عنها غافلون، فهل يستمر الظالمون وأعوانهم في هذا الظلم إلى أن يحلَّ بهم سخط الله ﴿أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ* يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (المطففين: 4-6).
هل الطغيان والاستبداد يحفظ هيبة الدولة ويحميها؟ تلك هي الخطيئة الأخلاقية والفكرية والإنسانية التي يقع فيها من لم يعرف ربه، ولم يدرك حقيقة نفسه، فيستمر في ظلمه وبطشه؛ متوقعًا أنه يحمي نظامه أو يحفظ هيبته، وذلك هو الجهل بعينه، فلا شيء أحفظ لهيبة الدولة من إقامة العدل الذي يزرع الحب والمودة بين الولاة والرعية.
يقول الحق جل وعلا ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ (الكهف: 59) إنه لا يؤدي إلى تراجع الأمم وإلى زوال الدول قدر تفشي الظلم فيها وغياب العدل عن مؤسساتها وأفرادها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا رأيت أمتي تهاب الظالم أن تقول له: أنت ظالم، فقد تودِّع منهم "، وقد سئل صلى الله عليه وسلم: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم، إذا كثر الخبث "، وقديمًا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الدولة الظالمة تفنى وإن كانت مسلمة، وإن الدولة العادلة تبقى وإن كانت كافرة"، والله أكبر ولله الحمد.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلّم، والحمد لله رب العالمين.