في استقبال رمضان شهر الإصلاح والتجديد الروحي
رسالة من محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان المسلمين رمضان شهر الرُّوحانية الفاضلة: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد؛ فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، لَعَلَّهُ أَنْ يُصِيبَكُمْ نَفْحَةٌ مِنْهَا، فَلا تَشْقَوْنَ بَعْدَهَا أَبَدًا" (الطبراني).وفي رواية: "لَعَلَّ دَعْوَةً أَنْ تُوَافِقَ رَحْمَةً يَسْعَدُ بِهَا صَاحِبُهَا سَعَادَةً لاَ يَخْسَرُ بَعْدَهَا أَبَدًا" .
وها نحن على مسافة ليال معدودات من أعظم مواسم الخير وأجلها قدرًا؛ حيث يهل علينا رمضان بهلال الخير والرشد والبركة، فتغتبط به القلوبُ، وتفرح به النفوسُ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَظَلَّكُمْ شَهْرُكُمْ هَذَا، بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا مَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ شَهْرٌ قَطُّ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْهُ، وَمَا مَرَّ بِالْمُنَافِقِينَ شَهْرٌ قَطُّ أَشَرُّ لَهُمْ مِنْهُ، بِمَحْلُوفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَيَكْتُبُ أَجْرَهُ وَنَوَافِلَهُ وَيَكْتُبُ إِصْرَهُ وَشَقَاءَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُدْخِلَهُ، وَذَاكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يُعِدُّ فِيهِ الْقُوَّةَ مِنْ النَّفَقَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَيُعِدُّ فِيهِ الْمُنَافِقُ ابْتِغَاءَ غَفَلاَتِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَوْرَاتِهِمْ، فَهُوَ غُنْمٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَنِقْمَةٌ لِلْفَاجِرِ" (أحمد وصححه ابن خزيمة).
والنبي صلى الله عليه وسلم بذلك يُبين وجه خيرية هذا الشهر لأهل الإيمان، الذين يقضون هذا الشهر في روحانياتٍ راقيةٍ من صلاةٍ وصيامٍ وتلاوةٍ وقيامٍ ومسارعةٍ إلى الخيرات، وإحسان وصدقات، ويجتهدون في تصفية أرواحهم وتهذيب نفوسهم وتزكية معاني الإنسانية النبيلة فيهم، ويعملون على التخلص من أَسْر الشهوات، والتغلب على كل نوازع الشر في نفوسهم، فهو ليس مجرد شهر لتغيير مواعيد الطعام والشراب، ولكنه (شهر الثورة) على البطون النهمة والشهوات المشتعلة، والأخلاق الرديئة المنفلتة ، وشهر تضييق مجاري الشيطان من ابن آدم، والتخلص من الضعف النفسي والتراجع الروحي، والتعالي على الاستئثار والبخل والإغراءات المادية وزهرة الحياة الدنيا الفانية، وتجاوز الأنانية والتفرق إلى التعاون على البر والتقوى والاعتصام بحبل الله المتين.
إنه شهر الاستجابة للنداء العلوي: "يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ" (الترمذي).
وأنت ترى هذه الرُّوحانيات الفياضة واضحةَ الملامح في المساجد الممتلئة بالشيب والشبان والفتيات والفتيان، وفي المصاحف المفتوحة في المساجد والبيوت ووسائل المواصلات في أيدي الصائمين، وتراها بادية على الوجوه ومتجسدة في حفلات الإفطار العائلية والجماعية في المنازل والمساجد حيثما نزلت، وفي البرامج الدينية المتنوعة التي تتنافس أجهزة الإعلام في تقديمها، وتراها ماثلةً شاخصةً في السخاء والكرم والعطاء الذي يطبع حياة الأمة في هذا الشهر حتى ليتبادل الجميع تلك المقولة المعبرة (رمضان كريم)، ويبقى أن نرى آثارها العملية في حياتنا وفي المرور بأمتنا من حالة التأخر والتخلف إلى السيادة والتقدم ، ولم لا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ" (متفق عليه).
فهل ينتهز الموفقون من الدعاة هذه الفرصة ليغرسوا لدينهم ولدعوتهم في قلوب الناس غرسًا مميزًا موفقًا؟ وهل ينتهز المستبدون الذين ظلموا أنفسهم وإخوانهم ومواطنيهم وأمتهم ودينهم هذه الفرصة لمراجعة مواقفهم والتخلي عن مظالمهم والتعاون مع المخلصين للنهوض بحاضر الأمة ومستقبلها؟ لنتذكر جميعًا قوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِى أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ" (البخاري).
رمضان شهر الكتب السماوية: في هذا الشهر الكريم نزلت كل الكتب السماوية، وآخرها وأجلُّها القرآن الكريم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أُنْزِلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِى أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ، وَالإِنْجِيلُ لِثَلاَثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ" (أحمد)، وفي رواية "وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ عَلَى دَاوُدَ فِي إِحْدَى عَشْرَةْ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ" (أبو يعلى)، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن هذا الشهر الكريم هو شهر اتصال الأرض بالسماء، وشهر التجديد والتطور الروحي والحضاري، فالنهضات الكبرى في تاريخ البشرية والتي قادتها ووجهتها تعاليم السماء كانت تبدأ من هذا الشهر الكريم.
فأين أمة الإسلام صاحبة الكلمة الإلهية الأخيرة للبشرية (القرآن الكريم) من هذا المعنى في ظلِّ هذا المعترك الصاخب من الخصومات والجهالات التي تسود حياة الناس، وماذا قدمنا للإنسانية التي تكتوي بنيران المادية الطاغية، وتغرق في أتون الإباحية الفاجرة؟ إن البشرية اليوم لفي أمسِّ الحاجةِ لمَن يُعيد إليها الطمأنينة، ويحقق على الأرض السلام، ويحيي فيها قيم العدالة والحرية والمساواة وكرامة الإنسان، ولا سبيلَ إلى ذلك إلا بتطبيق مبادئ القرآن، لو بدأ المسلمون بتطبيقها، ثم أحسنوا عرضها على البشرية، كما فعل المؤمنون الصادقون من قبل.
فيا أيها الإخوان المسلمون، ويا أيها الصائمون القائمون، إذا قعدت الحكومات والهيئات الرسمية عن القيام لهذه الرسالة بحقها فكونوا أنتم لها الأوفياء، وكونوا أنتم عليها الأمناء، وكونوا أنتم لها العاملين وفي سبيلها المجاهدين، وكونوا أنتم خير خلف لخير سلف، و ﴿لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: من الآية 105).
رمضان شهر الانتصارات الكبرى: إن أكبر الأحداث التي دعَّمت دعوة الإسلام كانت في هذا الشهر المبارك، إذ كان لرُوحانيته العالية الفياضة أثرُها الكبير في الانتصار في ميدان النفس والروح من خلال إصلاح النفوس وتجديد العزائم والإرادات، وتلك هي مقدمة النصر في معارك الحياة، ومن ثَمَّ رأينا انتصارات الإسلام الكبرى في هذا الشهر بدءًا من غزوة بدر يوم الفرقان وفتح مكة، ومرورًا بموقعة عين جالوت، وانتهاءً بمعركة العاشر من رمضان.
فهل تعي الأمة هذا المعنى الكريم، وتنطلق مرةً أخرى انتصاراتُها من رمضان عبر تجديد الإيمان والصلح مع الله، حتى نتجاوز الانكسار المخزي الذي صار يطبع الأمة؟.
أمامنا قضايا كثيرة تشغل بال كل مسلم حر كريم: أهمها قضية فلسطين والمسجد الأقصى، الذي لا يمر يوم إلا والصهاينة يعملون على إنهاء القضية وإغلاق ملفاتها الساخنة وتحقيق التطبيع الشعبي العربي مع الصهاينة، وهدم المسجد المبارك وإزالته لصالح الهيكل المزعوم، مستثمرين التنازع الفلسطيني، والتشرذم العربي، والتردد الإسلامي، والتآمر الدولي، ويقيننا أن المجاهدين القابضين على الزناد من أحفاد فوارس بدر والفتح وعين جالوت والعاشر من رمضان ومن ورائهم الأحرار والشرفاء من أبناء هذه الأمة؛ لن يسمحوا للمحتل الغاصب وأذنابه أن يحقق شيئًا من أغراضه، وما تحريرُ غزة إلا بداية تتبعها انتصارات، وإن يوم النصر الكبير لآتٍ لا ريبَ فيه بإذن الله ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51).
وأمامنا كذلك قضايا الصومال والسودان والعراق وأفغانستان وباكستان وتركستان الشرقية وغيرها من قضايا أمتنا العربية والإسلامية، وإن على المسلمين الذين يوحدهم الصوم مع طلوع الفجر والفطر مع غروب الشمس أن يستشعروا وحدة أمتهم، ويعملوا على أن تسترد عافيتها، وتأخذ قراراتها بأيديها، وتنفض عن نفسها غبار الوهن والضعف، حتى ترد عن نفسها الأكلة الذين تداعوا على قصعتها .
أيها المسلمون الصائمون القائمون في كل مكان: لقد عقد الإخوان العزم على السير بدعوة الله من غير ترددٍ ولا وَجل، والعمل على إنقاذ أمتهم بلا يأس ولا كسل، والاجتهاد في استثمار (مدرسة الثلاثين يومًا) في الرقي بأرواحهم وبإخوانهم بلا توانٍ أو ملل، وهم يهيبون بكل مسلمٍ أن يضع يده في أيديهم لتطهير القلوب وإصلاح النفوس، وشحذ الهمم وتقوية العزائم، وانتهاز هذه الفرصة للقرب من الله أكثر وأكثر، ليكون الله معنا بتأييده ونصره، وأملُنا بعد الله تعالى لا حدود له في أبناء أمتنا الأحرار الأبرار الأطهار، فإلينا إلينا أيها الأحبة، نتحد على الحق ونتعاون على البر والتقوى، فتتحقق بنا ولنا جميعًا بإذن الله الآمالُ المنشودة، والعزة المفقودة.
إلى الإخوان المسلمين: يقول الأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله: "انتهزوها فرصة، وادخلوا المدرسة لأول يوم، وأنتم عازمون على الجد، مترقبون للنجاح آخر الدرس، آخذين في وسائله وأسبابه، جددوا التوبة في كل الأوقات، واقرءوا القرآن بتدبرٍ وإمعان، وأشعروا النفوس فائدة الصوم، واطلبوا القيام ما أمكنكم، وأكثروا من الذكر والفكر، وارتفعوا بأرواحكم عن محيط المادة، واجعلوا نصب أعينكم هذه العلامة التي تميز بين الصائمين في قول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾ (البقرة) واخرجوا من صومكم متقين".
في موسمِ الطُّهْرِ في رمضانَ الخيرِ تجمعُنا محبةُ اللهِ لا مالٌ ولا جاهُ مِنْ كل ذي خشـيةٍ للـه ذي وَلَـعٍ فِي الخيرِ تعرفُه دومًا بسيماهُ قد قـدَّروا موسمَ الخيراتِ فاستبَقوا والاستباقُ هنا المحمودُ عُقباهُ صامـوه قامـوه إيمانـاً ومُحْتَسَبًا أَحْيَوْه طَوْعاً وما في الخيرِ إكراهُ وكلُّـهم بـات بالقـرآنِ مندمجـًا كأنَّه الدم يَسْـرِي في خـلاياهُ فالأُذْنُ سامعـةٌ والعيـنُ دامعـةٌ والروحُ خاشـعةٌ والقلـبُ أوَّاهُ إلى فرسان الحق خلف أسوار الظلم: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن رمضان: "هُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ الْجَنَّةُ" (ابن خزيمة) فأهنئكم بقدوم شهر الصبر، وأقول لكم: أنتم الأحرار بإيمانكم وبعقيدتكم، القائمون بالحق حين قعد غيركم، الأوفياء لأمتكم ولوطنكم حين تخاذل ظالمكم، فأقبلوا في هذه الأيام المباركة على ربكم، واجعلوا أيامه ولياله سياحةً ربانيةً ومغسلةً روحية، ولا يضركم مَن ضلَّ إذا اهتديتم، واحتسبوا عند الله ما نزل من الظلم بكم وبدعوتكم وبأمتكم، وانتظروا من بعد العسر يسرًا، وثقوا بأن الله جاعلٌ لكم وللأمة من بعد الشدة والضيق فرجًا قريبًا ومخرجًا.
والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
القاهرة في: 22 من شعبان 1430هـ= الموافق 13 من أغسطس 2009م