القدس والأقصى.. والمؤامرة الخاسرة
رسالة من: محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين المؤامرة على فلسطين والأقصى مستمرة الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.فإن فصول المؤامرة على قضية العرب والمسلمين الكبرى، قضية فلسطين، لا تزال تفاصيلها تتوالى وتتكشَّف، وينكشف المتورِّطون فيها يومًا بعد يوم، ومن آخر ما انكشف: ذلك العمل الخياني المتمثل في طلب السلطة- التي يفترض أنها تمثل الشعب الفلسطيني- سحب أو تأجيل مناقشة تقرير القاضي "ريتشارد جولدستون"؛ بشأن جرائم الحرب التي ارتكبها الصهاينة ضد أهلنا في غزة، تحت سمع العالم وبصره؛ لتهدر السلطة- التي يفترض أنها فلسطينية- الجهود المضنية لمئات المنظمات والهيئات وألوف المناضلين الحقوقيين الشرفاء من مختلف أنحاء العالم، الذين تحمَّلوا عناءً كبيرًا لإعداد ملفات الإدانة للصهاينة، ونجحوا في كسب تعاطف وتأييد أغلبية كبيرة في مجلس حقوق الإنسان لصالح التقرير، وجاهدوا لمقاومة الضغوط الصهيوأمريكية، حتى باتت محاكمة المجرمين قاب قوسين أو أدنى من الحصول.
فإذا بالسلطة- التي يفترض أنها فلسطينية- تقوم بما فشل فيه الأمريكان والصهاينة، فتنقذ رقاب المجرمين والصهاينة، وتعيد ذبح الشعب الفلسطيني بهذا الطلب الأثيم؛ الأمر الذي دفع رئيس لجنة تقصي الحقائق "جولدستون" إلى البكاء حينما علم بالطلب الفلسطيني، ولم يستوعب أن هذا الجهد القانوني والإنساني والدولي الذي قامت به اللجنة برئاسته يذهب بهذا الشكل.
وإذا كان هذا الأمر قد أصاب أمين الجامعة العربية بالغثيان، فكيف كان وقعُه على أولئك الشرفاء الذين واصلوا الليل بالنهار في جمع أدلَّة الإدانة للمجرمين وحشد التأييد الدولي لقضيتنا العادلة، وكيف كان وقعه على الضحايا من أهلنا في غزة؟! ولا يخفف من ألم هذا العمل الخياني ادِّعاء رئيس السلطة إنشاء لجنة تحقيق لكشف ملابسات الموضوع، خصوصًا بعد أن أعلن كثير من رموز السلطة أنفسهم مسئولية محمود عباس شخصيًّا ومسئولية سلطته عن هذه الخطيئة الأثيمة في حق الشهداء والشعب الفلسطيني.
النظام العربي والإسلامي يشارك في المهزلة كان الأجدر بالدول العربية والإسلامية الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان ألا تستجيب لهذا الطلب الخياني لقضية فلسطين، وأن تمضي في رفع التقرير إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحكمة الدولية، لا أن تردد تلك المقولة الممقوتة: "لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين"؛ فهم يعلمون أن هذه السلطة ليست هي الممثل الحقيقي لشعب فلسطين ولا لقضيته، وأن عموم الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية كانت ولا تزال تنتظر بفارغ الصبر أن يقدَّم مجرمو الحرب الصهاينة للمحاكمة، وأن يتلقوا العقاب المناسب.
الآثار الكارثية لهذا العمل الخياني واقتحام المسجد الأقصى كعادتهم لم يفوِّت الصهاينة الفرصة، وسارعوا إلى استثمارها، فتجمعت قطعان المتطرفين لمحاولة اقتحام الأقصى مرةً بعد أخرى، ويومًا بعد يوم، تحت حراسة الشرطة الصهيونية، التي استغلت هذا الموقف الانهزامي للسلطة، التي جعلت أهمَّ واجباتها مطاردة المقاومين وسحب سلاحهم، وملاحقة المجاهدين وقتلهم، واعتقال الوطنيين وتعذيبهم، وتقديم المعلومات والخدمات الأمنية للصهاينة المجرمين، وحماية جنود الاحتلال والمغتصبين، وإغلاق المؤسسات الخيرية، وإعاقة عمل المجلس التشريعي، وإفشال كل محاولات التصالح والتوافق مع حماس وفصائل المقاومة الوطنية والإسلامية.
كل ذلك هيَّأ للصهاينة الأسباب للإسراع إلى محاولة تنفيذ المشروع الصهيوني بهدم الأقصى وإقامة الهيكل المزعوم مكانه.
أين الأنظمة من حماية الأقصى؟! لم تجد تلك العصابات الصهيونية من يتصدَّى لها سوى أولئك المؤمنين المرابطين الصامدين، الذين يتصدَّون بصدورهم العارية للرصاص الصهيوني الغادر، والذين يقدمون نموذجًا فذًّا ورائدًا في التمسك بالحقوق والتصدي للاحتلال، في الوقت الذي اتخذ فيه النظام العربي والإسلامي مواقفَ سلبيةً، صارت أقرب إلى التواطؤ مع العدو الصهيوني.
ولهذا فإن النظام العربي الرسمي مُطالَبٌ بنصرة قضية الأقصى وفلسطين، وسحب المبادرة العربية للسلام تمامًا، والتوقف الكامل عن ممارسة كل أشكال التطبيع، وتدعيم الوحدة العربية والإسلامية، وتوظيف العلاقات مع دول العالم المختلفة؛ للضغط على الكيان الغاصب، والسماح للشعوب العربية والإسلامية بالتعبير عن دعمها للمرابطين، ودعم جهادِ المقاومةِ الفلسطينيةِ ماديًّا ومعنويًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا، وتثبيت قوتها، وتسهيل التواصل الرسمي والشعبي معها؛ حتى لا تظلَّ وحيدةً في ميْدانِ المعركة، وخصوصًا بعد الإنجازات الرائعة التي حققتها، ووقف كل صور الاستبداد والاعتداء على الشرفاء من أبناء الوطن الذين يناصرون إخوانهم في فلسطين وغزة.
وقد صار واضحًا للجميع أن الحقوق لا تُنال بالاستجداء والتسوُّل، بل ببذل الدماء والتضحيات، وأن العدو الصهيوني والقوى الدولية لا يقدِّرون إلا من يملك أدوات القوة لنَيل حقوقه، وما فعلته حماس مؤخرًا خيرُ شاهد على ذلك؛ حيث استطاعت تحرير عشرين أسيرةً في مقابل شريط قصير مصوَّر عن حالة الجندي الصهيوني الأسير، الذي أوشكت صفقة تحرير ألف أسير من ذوي المحكوميات العالية في مقابل إطلاق سراحه على التنفيذ.
فهل يعي الحكام هذا الدرس العظيم؟! حان دور الشعوب إذا كانت النظم الحاكمة قد اعتادت على التفريط في قضايا الأمة الكبرى، وفي مقدمتها قضية الأقصى وفلسطين؛ فإن ذلك لا يعطي مبررًا للشعوب للتخلي عن واجبها، بل هو بالأحرى يضاعف الواجب على الشعوب التي يجب أن تضغط على الحكومات؛ لتتخذ الموقف المناسب المشرِّف حيال القدس والأقصى، ويجب أن تنتفض هذه الشعوب لتعبِّر عن اعتزازها بمقدساتها، وغضبتها لدينها، ونصرتها لحق الشعب المجاهد في القدس وفلسطين، ولنا في الصامدين العزَّل المرابطين في المسجد الأقصى أسوةٌ وقدوةٌ، فقد استطاعوا بصمودهم صدَّ الهجمات المتلاحقة، وهم في أمسِّ الحاجة لدعم صمودهم ماديًّا ومعنويًّا، ورعاية أسرهم وذويهم، وإنشاء صناديق تمويل عربية وإسلامية حكومية وأهلية؛ لدعمهم في أرض الرباط.
هذا هو دور الشعوب الذي يجب أن تقوم به، ولو كلَّفها بعض التضحيات، ولهذا: - أدعو كافة المثقفين في الأمة.
إلى العمل على دعْمِ القضيةِ ونشرِها، من خلال دراسات علمية وتاريخية حقيقية، بمختلف اللغات، وعبر كلِّ وسائل الإعلام وصناعة الرأي العامِ المؤثرة، وفضح المخططات الصهيونية، وعقد المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش العلمية؛ لتأكيد هويَّة القدس وعروبتها وإسلاميتها، والاجتهاد في استقطاب الرأي العام الغربي والعالمي لنصرة الحق الفلسطيني العربي الإسلامي، خصوصًا مع اعتبار القدس عاصمة الثقافة العربية لهذا العام.
- أدعو علماء الأمة في الأزهر.
وفي سائر المجامعِ العلميَّةِ والفقهيَّةِ وهيئات الفتوى واتحاد العلماء؛ إلى القيام بدورهم في إحياء الروح الإسلامية في الأمَّة، وإصدار وتجديد الفتاوى الشرعية التي تُلْزِمُ الأمة حكامًا ومحكومين بالعمل لاستنقاذِ المسجد الأقصى، ومساعدة المرابطين فيه وحوله؛ باعتبارِ ذلك واجبًا دينيًّا ومسئوليةً شرعيةً وأخلاقيةً، والاستمرار في توعية الأمة بحقيقة الصراع حول القدس، ودور المسلمين في حماية الأقصى.
- أدعو سائر أفراد الأمة.
إلى أن نبدأ بتحرير أنفسنا وقلوبنا من الخوف والجبن والذلِّ، وتصحيح التوكل على الله، والثقة في نصره وتأييده لعباده المؤمنين، والانطلاق في تحقيق مشروع صندوق الأقصى وتفعيله؛ بحيث تتبنَّاه جميع الهيئات والأسر والأفراد في الأمة، والمقاطعة الحقيقية للبضائع التي تنتجها شركات ودول تدعم الكيان الصهيوني الغاصب، والتوجه المخلص إلى الله تعالى بالدعاء عقب الصلوات وفي الأسحار؛ حتى يُنزل الله نصرَه على المرابطين المجاهدين، ويردَّ كيد الصهاينة المعتدين.
بشائر النصر القريب أيها الأحرار والشرفاء على امتداد ساحتنا العربية والإسلامية.
كونوا على يقين أن الحق هو الذي سيكتب الحلقة الأخيرة في مسلسل الصراع ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ﴾ (الرعد: 17) ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ (الأنبياء: من الآية 18)، وأن المؤامرات سترتد على من حاكها ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ (فاطر: من الآية 43)، والاحتلال إلى زوال لا شك في ذلك.
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: 81).
فمتى تحرَّرت إرادة الأمة وقامت بواجبها وتحمَّلت رسالتها وأدَّت دورها؛ فإن نصر الله قريب.
﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40)، وقد رأينا ذلك في حرب أكتوبر 1973م؛ حيث عادت الأمة بعد النكبات المرة والهزائم القاسية إلى رفع شعار الإسلام، وتصحيح العقيدة القتالية للجنود، فتحقَّق النصر بإذن الله تحت راية (الله أكبر)، ولو أن النظام المصري والعربي أحسن استثمار هذا النصر لَكَان للأمة الآن شأنٌ غير الشأن، ولَكَان حالُها غيرَ هذه الحال، ولكن حصل ما حذَّر منه القرآن.
﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ﴾ (آل عمران: 152).
إن روح أكتوبر جديرةٌ إذا نُفخت في شباب الأمة أن تعيدها إلى النصر، وأن تعيد النصر إليها، وما ذلك على الله بعزيز، وأسأل الله أن يجمعنا في الأقصى المحرَّر قريبًا.
إنه على كل شيء قدير.
والله أكبر ولله الحمد.
وصلى الله على سيدنا محمد النبيِّ الأميِّ، وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين