الأوطان.. بين تراجُع الدَّور وفجور الخصومة!
رسالة من: محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين إنَّ الحمد لله تعالى.نشكره ونحمده على ما أنعم وابتلى، ونصلِّي ونُسلِّم على رسول الله الكريم محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد.
إنَّ المُطَّلع منَّا على أوضاع مصر، سواء العامة منها، أو السِّياسيَّة؛ يجدُ أمامه صورةً مؤسفةً، لا يمكن لأي أحدٍ كان أنْ يتوقَّع ما آل إليه حال هذا البلد الحضاريّ صاحب التَّاريخ المديد، والمواقف المشهودة في محاربة الظُّلم والعدوان والقهر والاستعمار في مختلف المراحل التي مرَّ بها.
هذا الوطن، أصبح بشرفائِه ومُقدَّراتِه أسيرًا لاستبداد أحال الوطن سجنًا كبيرًا.
لا يُرجى من سجَّانيه لحظة رحمةٍ أو بارقة أملٍ.
وإنَّ المُطَّلع منَّا أيضًا على حال أوطاننا العربيَّة والإسلاميَّة، يدْرِكُ أنَّ هذه الحالة التي تحياها مصر ليست استثناءً؛ بعدما تباعدت الفجوة ما بين الحكومات والشعوب، وباتت الأُمَّة تفقد كل يوم أغلى ثرواتها.
أبنائَها المخلصين الشرفاء، بسبب فجور الخصومة وعنف العداوة من جانب الأنظمة إزاء أصحاب كلمة الحق والإصلاحيِّين من أبناء أوطاننا العربيَّة والإسلاميَّة.
فما بين ما يجري في مصر بحق الإخوان المسلمين من تصعيدٍ غير مُبرَّرٍ في حملات الاعتقالات والتشويه، وما يجري على الجانب الآخر من ضفة العالم الإسلامي في باكستان؛ حيث تستعمل الدَّولة- استجابة لإملاءات أمريكيَّة مباشرة- قواتها المُسلَّحة التي من المفترض أنَّها موجودةٌ لحماية الوطن وأبنائه، في قتل النَّاس وتدمير منازلهم في وزيرستان ووادي سوات.
ما بين الصُّورتَيْن خيطٌ، يكشف حالة التَّردِّي والتَّخبُّط التي وصلت إليها مواقف وسياسات أنظمتنا الحاكمة.
وقد أدَّت هذه الحالة المُزمنة من الاستبداد والظُّلم إلى حالةٍ غير مسبوقةٍ من الضَّعف في مصر، وعلى مستوى العالم العربيِّ والإسلاميِّ، وأضعفت من العلاقات فيما بين بلدان الأُمَّة وبعضها البعض، وكذلك أضعفت التَّفاعُل فيما بين الأُمَّة العربيَّة الإسلاميَّة وبين الأمم الأخرى، على مختلف المستويات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة والحضاريَّة، بما أخرج الأُمَّة من السِّباق الحضاريِّ العالميِّ، ومن رَكْب مسيرة الإنسانيَّة.
وبالتَّالي بات العرب والمسلمون بعيدين تمام البُعد عن قضايا عالمنا المُعاصر؛ التي صارت مناقشتها، واتِّخاذ القرار فيها يتم بمعزلٍ عنَّا.
من منَّا سمع أو قرأ في وسائل الإعلام عبارة "الموقف العربي وموقف الدِّول الإسلاميَّة في قضيَّة التَّغيُّر المناخيِّ" أو فيما أشبه؟! لا أحد بطبيعة الحال؛ لأنَّه لا أحدَ بات يهتم بنا أو يعمل لنا ولموقفنا وآرائنا حسابًا، بفعل سياسات أنظمتنا.
والأدهى والأمرُّ من ذلك أنَّ الهوان بلغ بالأُمَّة- بفعل بعض الأنظمة في بلداننا- أنْ أصبحت قضايانا المصيريَّة يتم البتَّ فيها واتخاذ القرارات الخاصَّة بها في عواصم العالم الأخرى!! فعلى سبيل المثال: هل يوجد عضوٌ عربيٌّ واحدٌ في "اللّجنة الرباعيَّة الدَّوليَّة" التي هي معنيَّةٌ بما يسمَّى بعمليَّة السَّلام في الشرق الأوسط؟ هل يوجد عضوٌ عربيٌّ أو مسلمٌ واحدٌ في مجموعة الخمس زائد واحد الدَّوليَّة المعنيَّة بالملف النَّوويِّ الإيرانيِّ؟ الإجابة في هاتَيْن الحالتَيْن، وغيرها ممَّا شابَه من حالاتٍ، هي كلا بطبيعة الحال! بل إنَّ حالة الضَّعف وصلت بنا إلى درجة أنْ أصبحت مكامن ثروات العرب والمسلمين في حماية الأجنبي، سواء أكان هذا الأجنبي الغريب غازيًّا أو صديقًا، أو حافظًا بقوته للسَّلام على حدودنا! وفي حالة مصر؛ فإنَّ سياسات الحكم الجاثم على أنفاسنا، أضعفت الانتماء الوطنيِّ والقوميِّ والدِّينيِّ، وأدَّت إلى تغييبٍ شبه كاملٍ لمصر عن محيطها العربي والإسلاميِّ، ومختلف دوائر السِّياسة الخارجيَّة والأمن القومي لمصر، وبالتَّالي فقد ضَعُفَ الدَّوْر الخارجيِّ لمصر بشكلٍ مُرَوِّعٍ، طال حتى صميم القضايا التي تمس الأمن القومي المصريِّ، كما هو الحال في السودان والقضيَّة الفلسطينيَّة.
وكنتيجةٍ طبيعيَّةٍ لذلك، ومع حذف مصر الكنانةِ من معادلةِ القوَّة العربيَّة والإسلاميَّة فقدت الأُمَّة درعها الرَّئيسيِّ، باعتبار أنَّ مصر كانت عبر تاريخها بمختلف مراحله، قاطرة المنطقة، وانفتح الباب على مصراعيه أمام التَّدخلات الخارجيَّة في شأننا العربيِّ والإسلاميِّ.
إن الأمن القومي للوطن في أبسط تعريفاته يتضمن: 1) حماية نمط الحياة القائم في المجتمع التي يحدِّدها الدستور والقانون، وتسهر عليها المؤسسات الشرعية المختلفة.
2) حماية الحدود من الاختراقات تحت أي مبرر.
3) حماية كيان الوطن بكل رموزه الوطنية وكياناته المادية والمعنوية.
وخلافًا لهذا المنطق؛ فإنَّ حكومتنا بدلاً من أنْ تعمل على تقوية الجبهة الدَّاخليَّة، التي من دونها يكون الأمن القومي للوطن شديد الانكشاف؛ فإنَّها تقوم باعتقال الشُّرفاء وإسكات أصوات الإصلاحيِّين لا لشيءٍ، إلا لحماية أجندة أهداف مشبوهةٍ، على رأسها حماية زمرة الفساد والمفسدين الذين يسرقون ثروات الوطن وينهبون خيراته.
وإذا نظرنا إلى ما يتم بحق الإخوان المسلمين من اعتقالاتٍ ومصادراتٍ للأموال والرأي، وما يتم إزاء الجماعة من حملات تشويهٍ سياسيٍّ وتضييقٍ إعلاميٍّ، فسوف نجد أنفسنا أمام حالةٍ واضحةٍ من فقدان البوصلة والاتجاه من جانب النِّظام، وعدم رغبةٍ حقيقية في الإصلاح أو التَّغيير.
ومن منطلق ديكتاتوريَّة النِّظام، ورغبته في الانفراد بالحكم من دون منازعٍ، بما يخالف كل نواميس الكون التي خلقها الله تعالى، والتي تنص على حتميَّة وضرورة المشاركة والتَّغيير، بدأ النظام يمُارس حملته الشَّعواء الحالية ضد الإخوان المسلمين؛ لأنهَّم كشفوا الفساد، ولأنَّه استشعر خطورة مِصداقيَّة خطابهم وبرامجهم على خُطَطِه لتزوير إرادة النَّاخبين في الانتخابات التَّشريعيَّة القادمة، ولأنَّ الإخوان كشفوا موقف النِّظام في القضيَّة الفلسطينيَّة، والذي مثَّل- هذا الموقف- مرحلةً شديدة السَّواد في تاريخ ناصع البياض من النِّضال القوميِّ والإسلاميِّ لهذا الوطن الشَّريف، وهو الذي تمثَّل في الموقف المخزي للنِّظام خلال العدوان الصُّهيونيِّ الهمجيِّ على قطاع غزَّة في ديسمبر ويناير الماضيَيْن.
فباسم المصلحة الوطنيَّة وشعاراتٍ كاذبةٍ أُخرى زُجَّ فيها باسم هذا الوطن الشَّريف زورًا وبهتانًا، تواطأ النظام المصريَّ مع أبشع كيانٍ استعماريٍّ غاصبٍ عرفه التَّاريخ، ولسوف تلعن أرواح الأطفال والعجائز الشُّهداء في قطاع غزَّة، كل مَنْ أجرمَ في حقِّهم، وحرمهم الحياة، وحتى حرمهم من حقِّهم في ميتةٍ بعز الجوار.
والأخطر أنَّ الإخوان المسلمين كشفوا تواطؤ النِّظام وتماهيَه مع المُخطَّط الصهيونيِّ الأمريكيِّ لترتيب الأوضاع في الشَّرق الأوسط في المرحلة الرَّاهنة ومستقبلاً.
ولأنَّ الإخوان كشفوا كل ذلك، ولأنَّ الإخوان المسلمين يدعون إلى الفضيلة التي يكرهها النِّظام العالمي وأذنابه، ولأنَّ الإخوان يقولون ما يفعلون، ولأنَّ الإخوان نظيفو اليد، طاهرو السَّريرة، فقد كان من الَّلازم مُحاربتهم، وتشويه صُورتهم، وصُورة رموزهم، لا لشيءٍ إلا لأنهَّم من هذه الجماعة التي تسعى لخير البلاد والعباد، وهو ما لا يريده هذا النِّظام الاستبداديِّ الذي يمارس كل ما بوسعه لضرب الإخوان؛ لأنَّه يعلم تمامًا أنهَّم أمل هذه الأُمَّة في النهضة واليقظة بعد قرونٍ من السُّبات الطَّويل! إلا أنَّ الإخوان المسلمين يؤكدون أنَّهم على الحقِّ ثابتون، وأنَّهم ماضون في طريق الإصلاح الذي اختاروه وأعلنوه في مبادرتهم في يوم 3 مارس من العام 2004م، ماضون: - يرفضون كل صور الهيمنة الأجنبية، ويدينون كافة أشكال التدخل الأجنبي في شئون مصر والمنطقة العربية والإسلامية.
- ويرون أن الإصلاح الشامل هو مطلبٌ وطنيٌ وقوميٌ وإسلاميٌ، وإن الشعوب هي المعنية أساسًا بأخذ المبادرة لتحقيق الإصلاح الذي يهدف إلى تحقيق آمالها في حياةٍ حرةٍ كريمةٍ ونهضةٍ شاملةٍ وحريةٍ وعدلٍ ومساواةٍ وشورى.
- والإصلاح السياسي يجب أن يكون بداية الانطلاق لإصلاح بقية مجالات الحياة كلها، والتي تُعاني في مصر والوطن العربي والإسلامي تدهورًا متسارعًا يكاد يصل بنا إلى القاع.
- ولأن القيام بريادةِ هذا الإصلاح لا تقوى عليه حكومة، ولا أي قوة سياسية منفردة؛ فإنهم يدعون جميع شرفاء الوطن لحمل مسئولياته، معلنين المصالحة الوطنية العامة التي تؤدي إلى تضافر الجهود جميعًا ليس لمجرد الوقوف ضدَّ المخططات الهادفة إلى استباحة المنطقة؛ بل للنهوض من عثراتنا، وعلاج مشاكلنا.
وإنِّي لأدعو الإخوان في كلِّ مكانٍ إلى الصَّبر والثَّبات على الحق، مهما كلَّفهم ذلك من صعابٍ، وإلى ممارسة أدوارهم كلٌّ في مكانه؛ لحين أنْ يتحقَّق هدفنا الأسمى، وهو تحقيق المشروع النَّهضويِّ الإسلاميِّ في بلادنا وفي كل بلدان الأُمَّة، وهو الهدف الذي لن يتحقَّق إلا من خلال الشُّعوب، والشُّعوب وحدها؛ حيث هي القادرة على تغيير الحالة التي تعيشها الأُمَّة، بعد انكشاف موقف بعض الأنظمة الحاكمة التي ضيعت الأمانة، وتحالفت مع الخصوم والأعداء ضد مصالح البلاد والعباد، لا لشيءٍ إلا لتظل على عروشها.
ونختم بأنْ نذكِّر كل سائر على درب الإصلاح بوصية رب البرية لحملة مشاعل النور والأمل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾ (آل عمران).
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ .
.
والله أكبر ولله الحمد.