الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

 الشَّهادة والتَّضحية في مواجهة الفساد والصَّهاينة

الشَّهادة والتَّضحية في مواجهة الفساد والصَّهاينة

  رسالة من: محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين إنَّ الحمدَ لله.

نستغفره ونستهديه، ونعوذ به من شرورِ أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا.

مَنْ يهدِ الله فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضْلِلُ فلا هادي له.

ونُصلِّي ونُسلِّم على سيدنا مُحمَّد، النَّبيِّ الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعَيْن.

أمَّا بعد.

  فإنَّ كلَّ حصيفٍ يُجيلُ النَّظر من حوله في عالمنا المُعاصِر، يجد أمامه مظاهر الابتلاء تُحاصرُ هذه الأُمَّة.

فما بين مُحتلٍّ غاصبٍ ينهب الخيرات وينتهك الحُرُمات ويقتل الأبناء، وبين حاكمٍ ظالمٍ مُستبدٍّ، يستغل خيرات هذه الأُمَّة ومقدراتها لترسيخ حكمه، ولو على حساب أمن واستقرار الأوطان، ولو على حساب كرامة مواطنيه؛ بل وحياتهم نفسها في كثيرٍ من الأحيان.

  وليس ما يجري في باكستان وأفغانستان والعراق وفلسطين ولبنان ومصر، وغيرها من بلدان هذه الأُمَّة المُبتلاة والمُفترى عليها من الأعداء ومن بني الجلدة، إلا صورةً واحدةً على اختلاف الأطر التي وُضِعَتْ فيها هذه الصُّورة.

  ففي أفغانستان والعراق وفلسطين، محتلٌّ غاصبٌ.

هو ذاته ذات المحتل، المُكوَّن من أطراف التَّحالُف الشَّيطاني الأمريكيِّ- الصُّهيونيِّ، ومن ورائه الغرب، الذي لا يخرج حاله عن ثلاثٍ.

إمَّا متواطؤ وداعم للمشروع الاحتلالي، أو يلعب دور مُحامي الشَّيطان، أو هو الشَّيطان ذاته، ولكنَّه شيطانٌ أخرس!.
  أمَّا في بقية بلدان الأُمَّة العربيَّة والإسلاميَّة، إلا من رَحِمَ ربِّي؛ فإنَّ المعتدي هو الوجه الآخر للعُمْلة.

هو الحاكم الفاسد المُستبدُّ.

ولقد وَصَلتْ هذه الفئة من الشَّراذِم الحاكمة في بلداننا إلى مُنتهاها من الظُّلم والعُدوان على شعوبها.

فما بين أنظمةٍ فاسدةٍ تنهب الخيرات والثَّروات لحساب فئةٍ قليلةٍ من المُنتفعين، وصولاً إلى أنظمةٍ تضرب شُعوبها بالطَّائرات، وتطحن أجسادهم بالدَّبَّابات، وتُشرِّدُهم، مثلما يفعل المُستعمر، ورُبَّما بشكلٍ أكثر فظاعة وبشاعة في عصر حقوق الإنسان!!   إخواني.

لا يمكن أبدًا الفَصَل ما بين وجهَيْ العُملة، ليس لأنَّ الظُّلم واحدٌ، ولأنَّ الضَّرر واحدٌ فحسب؛ بل لأنَّه صار هناك نوعٌ من التَّحالُف غير المُقدَّس ما بين حُكْمٍ ظالمٍ واستعمارٍ غاشمٍ؛ حيث التقتْ أجندة الطَّرفَيْن، بما استوجب قيام نوعٍ من أنواع الشَّراكة السَّوداء ما بين كلا المشروعَيْن.

المشروع الأمريكي الصُّهيوني ومشروع الاستبداد والفساد الجاثم على صدور أبناء هذه الأُمَّة.

  ولذلك صار المُخلصون والشُّرفاء والبُسطاء على حدٍ سواءٍ مُستهدفين من هذا وذاك، بالتَّضييق والاعتقال ومصادرة الأرزاق، وبالقتل كما يجري في جبال أفغانستان وباكستان واليمن، سواء من قوَّات المُستعمِر الغاشِم أو من جانب القوَّات الوطنيَّة التي من المفترض أنَّها جُعِلَتْ للدفاع عن الأوطان وأبناء الجَلْدَة(!!)، وتحوَّل الإصرار الغربي على تركيع المسلمين إلى هدفٍ مُوحَّدٍ بين قوى الاستكبار العالمي وقوى الفساد والاستبداد الدَّاخليِّ!!   مشهدٌ أسود!! والمشهد الرَّاهن لا يثير الأحزان فحسب على ما آلت إليه أوضاع أُمَّةٍ كانت ذات يومٍ أعظم الأُمم وخير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للنَّاس، بل يثير أيضًا الغضب.

الغضب ممَّا يُرتَكَب من جرائم بحق شعوبنا وثرواتنا، ومن إصرار البعض على الاستمرار في سياساتٍ لم تجرُّ علينا إلا الويلات والمصائب.

ولنأخذ ممَّا يجري في الملف الفلسطينيِّ نموذجًا.

فمن المدهش أنَّه لا يزال البعض يُصدِّق أنَّ الكيان الصهيوني والولايات المتحدة جادون فيما يدَّعونه حول الوهم المسمَّى بـ"عملية السَّلام في الشَّرق الأوسط"!!   والأكثر إثارة للدَّهشة والغضب والاستنكار أنَّه لا يزال من بني العرب والمسلمين من يُصدِّق بالرَّغم من أنَّ الطَّرف الآخر يعلن كل يومٍ صراحةً مواقف لا تدع مجالاً للشَّكِّ في حقيقة النَّوايا الأمريكيَّة والصُّهيونيَّة إزاء حقوقنا في فلسطين السَّليبة.
  فالإدارة الأمريكيَّة الحالية تتبنَّى سياسةً تقوم على أساس إعطاء الكلام والوعود فقط للطَّرَف الفلسطينيِّ الذي ارتضى خيار التَّفاوُض مع العدو، فيما يأخذ الكيان الصُّهيونيُّ الغاصب في فلسطين كلُّ ما يريد من أفعالٍ وسياساتٍ ودعم وممالأة وتدليس من البلد الأعظم في عالم اليوم.
  وكان آخر هذه المواقف والسِّياسات ما أعلنته وزيرة الخارجيَّة الأمريكيَّة هيلاري كلينتون في زيارتها الأخيرة المشئومة للمنطقة؛ حيث نكصت على كلِّ ما سبق أنْ أكَّدت عليه الإدارة الأمريكيَّة في موضوع المستوطنات في الضِّفَّة الغربيَّة المحتلة، ووقفت بكلِّ وقاحةٍ لتُعْلِن تخلِّيها عن شرط تجميد الاستيطان في الضِّفَّة المُحتلَّة، والذي وضعته بنفسها، لاستئناف "مفاوضات السَّلام".
  وبلغت درجة الوقاحة بالوزيرة الأمريكيَّة أن أعلنت تبنِّيها الكامل لموقف رئيس وزراء الكيان الغاصب المجرم الإرهابي بنيامين نتنياهو؛ لتقول إنَّه مُحقٌّ من النَّاحية التَّاريخيَّة في موقفه الرَّافض لربط استئناف المفاوضات مع السُّلطة الفلسطينيَّة بوقف بناء وتوسيع المُغتصبات في الضِّفَّة!!   وليس من الغبْنِ لأحدٍ القول إنَّ القضيَّة الفلسطينيَّة تشهد بالفعل تراجُعًا كبيرًا منذ أنْ تولَّي الرئيس الأمريكيُّ الحالي باراك أوباما للمسئوليَّة في البيت الأبيض، فالأرقام تُؤكِّد والحقائق على الأرض تقول إنَّ فترة الإدارة الأمريكيَّة الحالية على كونها لم تتجاوَز بضعة أشهرٍ، هي الأسوأ بالنِّسبة للفلسطينيِّين؛ حيث شهدت أكبر عمليَّة ترحيلٍ في تاريخ القدس المحتلَّة للفلسطينيِّين من ديارهم، مع تراجُعٍ كاملٍ في الموقف حتى من الوعود الهزيلة المُتعلِّقة "بالدَّولة" الفلسطينيَّة.
  ولكن وعلى سوء الوضع؛ فإنَّ هناك جانبًا مشرقًا للأمور كسُنَّة من سُنَنِ الله في الكون وقوانين الخلْق الإلهي؛ حيث أثبَتَتْ الأحداث بالفعل أنَّ الرَّهان الذي راهنه البعض على الولايات المتحدة، إنَّما هو رهانٌ فاشلٌ، وأنَّه لو استمر هذا الطَّرف الفلسطيني أو ذاك على ذات النَّهج- التفاوض العقيم-، لن يكون إلا كاشفًا لموقفه، إمَّا عميلٌ أو تابع أو ديكتاتور مستبد لا يرغب سوى في تحقيق مصلحته الذَّاتيَّة على مصلحة شعبه وقضيَّته الشَّريفة.
  تاريخٌ من الشَّهادة والتَّضحية يا أيُّها المسلمون.

إنَّنا إذا ما نظرنا إلى الحالة من وجهةِ نظرٍ أكثر شمولاً، فسوف نجد أنفسنا مُطالبين في الوقت الرَّاهن بتحديد الأولويَّات.

والأولويَّات هنا أوضحتها التَّطوُّرات التي أثَبَتَتْ أنَّ المقاومة حتى الانتصار أو الشَّهادة في سبيل المبدأ والدِّين والقِيَم، لا تزال هي الخيار السَّليم، بل الخيار الوَحْيد الواقعيُّ والقابل للتَّنفيذ في مواجهة ما يجري.
  وما نقوله هنا أيُّها الإخوان ليس بجديدٍ وليس اختراعًا؛ حيث إنَّ هذه الأُمَّة أثْبَتَتْ عبر التَّاريخ قُدرتها على الفداء في سبيل دينها وقِيَمِهَا التي تؤمن بها.

أثْبَتَتْ أنَّها أكثر من مرَّةٍ أنَّها قادرةٌ على نيل حريَّتِها.

على مُقاومة مُختلف ألوان الاستعمار والاستبداد، مهما كانت التَّضحيات والعقبات.
  فمن التَّل الكبير وكفر الدَّوَّار والأزهر الشَّريف عبر التَّاريخ، وصولاً إلى مُرابطي فلسطين وأكناف بيت المقدس، مرورًا بالجزائر وبثورتها التَّحريريَّة المُباركة، والتي قدَّمَتْ فيها أكثر من مليون شهيدٍ، والعراق بثوراته العديدة التي أطاحت بالاستعمار والاستبداد، والمقاومة المصرية التى أجبرت الجيش البريطانى على الرحيل نجد أنَّ ما ندعو إليه، وما نُحاول إثباته؛ ليس أمرًا مُستحدثًا أو فرضته الظُّروف فحسب، بل إنَّه أمرٌ من صميم عقيدة الإنسان المسلم، وفطرته التي فطر الله تعالى النَّاس عليها، فإنَّ من سمات الإنسان المؤمن ألا يرضى بالهوان.

قال تعالى: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)(آل عمران).
  ومن سمات الإنسان المسلم العزَّة والعيش بكرامةٍ، وإلا فالموت أَهْوَن وأَشَرْف وأكرم من العيش في ذلَّةٍ تحت نير استعمار أو بين براثن استبدادٍ وفسادٍ، كما أنَّ الإنسان المسلم الصَّحيح هو الذي لا يرضى بالظُّلم ويأمر بالعدل، وأنْ يكون حُرًّا.

  بل إنّ الله تعالى جعل قيم الحُرِّيَّة من صميم الفطرة الإنسانيَّة َ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)(المُلْك)، وقال عزَّ وجلَّ في سورة النَّحل: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)(النحل).
  وعبر التَّاريخ الإنسانيِّ، وليس فقط تاريخنا العربيِّ الإسلاميِّ؛ فإنَّ المُناضلين والمُجاهدين في سبيل دينهم وأوطانهم وقِيَمِهِم كانوا دائمًا في ذاكرة ووعي الشعوب، ولا تزال أوراق الكُتُبِ وعناوين الشَّوارع والميادين شاهدًا على ذلك.

  إنَّ حريتنا وكرامتنا لن ننالها إلا بنضال سلمي حقيقي، له ثمنٌ دَفعَهُ كل سائر على درب الإصلاح من قوته ووقته وجهده وحريته .

.
ولن ينفك يومًا نضال الأحرار ضد المحتل عن نضالهم ضد الفاسد المستبد غير أن لكل وسائله.
  فليعلم قومنا أن روحًا جديدًا يجب أن تسري في النفوس.
  زارعة الأمل في أرض يسعى الاستعمار والاستبداد لتبويرها باليأس.

.
  وباسطة لأشرعة العزة في مواجهة انكسارات وإحباطات تحاصر الأمة من أثر الشتات والفرقة والسرقات.

.
  وقادرة على الإعداد: للعدو المحتل عدة المواجهة التي تردع وترد وتدفع بكل سلاح حر مقاوم.

.
وللآخر المستبد والفاسد عدته التي ترده عن غيه، وتحاسبه على تقصيره، وتثنيه عن سعيه لسجن الأوطان والمواطنين، وعدتنا في هذا لا بغي فيها ولا إثم ولا عدوان؛ لأن تحرير الأوطان من الطغيان بكافة مظاهره؛ لا يكون إلا بالنضال السلمي، الذي يراه الإخوان وحده هو السبيل لينصلح ما مال من أحوال، وتتفجر طاقات دفنها الإهمال، وساعتها تتحقق للأمة الآمال، ولن يشقى سائر على درب المقاومة يومًا، مهما بذل لأن لكل ميلاد آلام مخاض، يذهب بكل آلام الأمم.
  فأي شرف في أن ننال شهادة ونحن نقاوم محتلاًّ، أو نُمتحن من طاغية أو فاسد أو مستبد ونحن نزيحه عن جسد البلاد وأسر العباد، ممتثلين قول رب البرية: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)(الأنفال).
  فاللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد، يُعز فيه كل حر وشريف ومصلح ومقاوم ومجاهد، ويُذل فيه كل محتلٍّ ومستبد وفاسد وفاجر وسارق وآسر.
  وآخر دعوانا أنْ الحمد لله رب العالمين.

وصلِّ الله وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.