هذه هي مصر
رسالة من أ.د.
محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين إن الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد.
تظلُّ مصر قلب العالمين العربي والإسلامي النابض، محلَّ اهتمام الباحثين عن الحرية، ورائدة التحرر وعاصمتها القاهرة للجبارين والمعتدين الطغاة والمتكبرين، وتشاء إرادة الله أن تكون مصر ملهمة الشعوب؛ فهذه هي مكانتها، وهذا هو قدرها على مرِّ العصور، وقد يظنُّ البعض في فترات ضعفها بسبب العابثين بها وغير المُقدِّرين لمكانتها والذين (يبغونها عوجًا) أن دورها ومكانتها قد تلاشت، ولكن الشعب المصري الثائر الأبي يستعصي على التركيع أو الذل والهوان.
ومن هنا جاءت الثورة الشعبية المباركة لتؤكد للعالم كله حيوية ومكانة وقدر ووعي شعب مصر العظيم الذي رفض الظلم والطغيان، وثار دِفاعًا عن كرامته المستباحة لثلاثين عامًا واستردادًا لحقوقه المسلوبة على يد المنتفعين من أركان النظام السابق.
إن ما فعله النظام السابق من جرائم في حق مصر وشعبها وأهلها، وتهميش وتقزيم دورها ومكانتها هو ما تحدثنا عنه وحذرنا منه سابقًا في رسالتي المعنونة "مصر.
والإصلاح المنشود للأمة بتاريخ 25 من نوفمبر 2010م"، وتحدثتُ فيها عن تخلي النظام طواعيةً عن دور مصر ومكانتها، وقلت ما نصه "إن الأمر أكبر من تراجع الدور المصري في المنطقة، فهو في حقيقة الأمر تخلٍّ كامل عنه وعن إرادة واعية، وهذا ليس بمستغربٍ على نظام استمرأ الفساد والإفساد، حتى أضرَّ بوطنه وبجميع من حوله، وأسفرت سياساته الخاطئة عن تعميق التقوقع وضياع مكانة مصر التاريخية والجغرافية والسياسية والحضارية".
وقد حذرتُ النظامَ بقولي "فالاستبداد والدكتاتورية يفسدان النفوس والضمائر، وهما بداية السقوط والانهيار، مهما طال الزمن، ومهما طالت مدة البقاء في الحكم لأي نظام كان".
وقلت بالنص "أنه إذا استمرت هذه الحالة الخانقة للحريات وهذا الانسداد السياسي فستحدث ثورة ليست من صنعنا كما قال الإمام البنا رحمه الله".
إن اقتباسي من رسالتي السابقة على الثورة المباركة بشهرين، ليس ضربًا من الرجم بالغيب ولا نوعًا من الشماتة، ولكنه استقراء واقعي للأحداث واستشراف حقيقي للمستقبل، ولكن النظام مارس عناده المعتاد ولم يسمع ولم يتقبل النصح ﴿وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ (الأعراف: من الآية 79)، ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)﴾ (غافر).
لقد طغت جرائم النظام وكثرت واستعصت على الحل، وكان لا بدَّ من أن تقول الجماهير كلمتها بعد أن عانت من ويلات النظام من: إهدارٍ للحريات العامة والخاصة، واحتكار الحزب الفاسد للحياة السياسية والنيابية، وقمع الشعب وإهدار كرامته بل وحياته، وتزويرٍ سافرٍ للانتخابات، وإقصاء النواب المعارضين والمستقلين في مهزلة ما سُمِّي بالانتخابات، واعتقال للمعارضين ومحاكمتهم أمام المحاكم الاستثنائية، وإدارة البلاد بعقلية القرون الوسطى ومحاولة التعتيم الإعلامي، ووصل الأمر إلى إقصاء برامج ومقدمي برامج، وإهدارٍ بيِّن لأحكام القضاء واستهانةٍ بها، وكان آخرها ما يتعلق بتصدير الغاز وإلغاء الحرس الجامعي، وبطلان إجراءات انتخابات مجلس الشعب الأخيرة في معظم الدوائر.
هذا كله بجانب غياب العدالة الاجتماعية وإهدار كرامة الإنسان وتغييب الإصلاح السياسي، ونسوا أو تناسوا قوله تعالى ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ (مريم: من الآية 64).
وقد تعمد النظام السابق اختلاق ورعاية صراع الطبقات في المجمتع؛ صراع طائفي بين أبناء مصر، وصراع الأجيال بإيجاد فجوة مصطنعة بين الشباب والشيوخ، وصراع نوعي بين الرجال والنساء والتمييز والتفريق بينهم، ولكن بوتقة الثورة في ميدان التحرير دحضت كل هذه الأعمال الشيطانية وانصهرت فيها كل عناصر الأمة، مسلمين ومسيحيين، شبابًا وشيوخًا، رجالاً ونساءً، وذكتها الدماء الذكية لشهدائنا ومصابينا التي سالت على أرض مصر الحبيبة.
كما واصل جهاز الشرطة انتهاكاته وجرائمه في حق الوطن والمواطنين حتى وصل الأمر إلى إهدار كرامتهم وآدميتهم، بل وقتلهم داخل أقسام الشرطة.
﴿وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (50)﴾ (إبراهيم).
ناهيك عن فساد وإفساد أعضاء الحزب وتفننهم في إفقار الشعب وتجويعه وإمراضه وسرطنته، والتربح الحرام لأركانه، وانتشار الغلاء والبطالة والرشوة والفساد، وانهيار التعليم والصحة والإسكان وكافة الخدمات.
وظنوا- وخاب ظنهم- أنهم بذلك قد سيطروا على الشعب ودجنوه، ولكن هيهات هيهات لهم أن يحققوا مبتغاهم، فقد قال الشعب كلمته، وعندما يقول الشعب فعلى الحكام السماع والانصياع لرغباته وإرادته الحرة (إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب النظام) من هنا نبدأ إننا في هذه اللحظات المهمة والفارقة في تاريخ أمتنا كلها وبعد أن منَّ الله عليها بكشف الغمة وعودة حريتها إليها، لنؤكد ضرورةَ جعل هذه الثورة المباركة نقطةَ انطلاقٍ لاستعادة مصر لمكانتها وريادتها في العالم كله؛ وذلك باستشعار عظم مسئوليتنا تجاه أوطاننا؛ بالدفاع عنها وبتبني مطالبها المشروعة، وبالتوحد خلف المطالب المتفق عليها من جميع القوى السياسية والوطنية والحفاظ على مقدرات الوطن وأمنه وأمانه، وحماية الممتلكات العامة والخاصة وإعطاء نموذج حضاري لثورة الشعوب ضد الظلم والطغيان.
وكذا تغليب المصالح العليا للوطن والمواطنين على المصالح الشخصية والمنافع الزائلة؛ فهذه هي مصر المتحضرة.
إننا نهيب بكل شرفاء الوطن ومحبيه من مسلمين ومسيحيين رجالاً ونساءً شبابًا وشابات، وكل مَن كان قلبه ينبضُّ بحب مصر، أن يحرسوا الثورة ومطالبها المشروعة، وألا يتركوا فرصةً لمنتفعٍ أن يلتف عليها وعلى إنجازاتها التي بدأت تؤتي أكلها بإذن الله.
فهذه هي مصر التي لا تُخدع.
تحية واجبة لقد تقدَّم الشباب الثورة المباركة وحرَّكوها وكانوا وقودها الدافع، وأسقطوا مَن استهانوا بهم وببلدهم ووطنهم وآبائهم وأجدادهم، ولقَّنوهم درسًا لن ينسوه أبدًا في قوة الإرادة والجرأة والشجاعة والإقدام والتفاني والوطنية الحقيقية.
فهذه هي مصر الفتية.
ولقد أعطى شباب مصر العظيم بكل فئاته وأطيافه مثلاً للشباب الوطني الكريم في تحمله لمسئولية وطنه التي تخلى عنها أشباه الرجال ممن يدعون الحفاظ على الأمن والأمان وكونوا اللجان الشعبية وحموا مصر كلها بمساجدها وكنائسها وطرقها ومبانيها وشعبها الكريم الأبي الذي يستحق كل تقدير واحترام.
فهذه هي مصر المتوحدة.
ولقد رسم الشباب أبرع الصور الصادقة للوحدة الوطنية، غير المتكلفة، والنابعة من عمق الشعب المصري الأصيل، والتي تمثلت في الوحدة والاتحاد بين المسلمين والمسيحيين من أبناء شعبنا الحبيب، والتي تجلت في أروع صورها في حماية الأقباط للمسلمين في صلاتهم وحماية المسلمين لكنائس الأقباط؛ فقد بينت الثورة حقيقة معدن الشعب المصري النفيس وفي ذات الوقت أسقطت القناع عن مثيري الفتنة والمؤججين لها والمتربحين من وجودها.
فهذه هي مصر النابهة.
لقد ضرب هذا الشباب من الإخوان وغيرهم من كل التيارات والاتجاهات المثل لشباب مصر الحقيقي، وبخاصة في تكافلهم الاجتماعي الرائع وتنظيمهم للمرور وإدارة الشئون الخدمية لأحيائهم بل وإظهارهم لمكونات الشعب المصري الكريم من فطرة إيمانية نقية وحب كبير للوطن وترابط عيمق بين الأجيال، فلولا جذر الشجرة ما كانت الأوراق النضرة ولا الأزهار العطرة ولا الثمار الطيبة.
فهذه هي مصر، وهذا هو شعبها فلهم موفور التحية والتقدير.
ولا يفوتني تقديم الدعاء الصادق لشهداء الثورة، ونحتسبهم عند الله شهداء، مصداقًا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" .
وكذلك قوله: "أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ" ، وأن يلهم أهلنا المصريين جميعًا الصبر على ما أصابهم.
وكذلك تحيةً خالصةً للمصابين والجرحى، ودعاءً بأن يتم الله عليهم العافية، وأن يشفيهم شفاءً لا يغادر سقمًا، وأن يجعل ما عانوه في موازين حسناتهم.
من نحن وماذا نريد؟ إن الإخوان المسلمين خدام الأمة ويتقربون إلى الله بخدمتهم لها وهم يقلون عند الطمع ويكثرون عند الفزع، وهم جزءٌ من نسيج الأمة لا يمكن فصله عنها وهم مكون رئيس من مكوناتها، ويبذلون جل جهدهم ليكونوا نافعين لأوطانهم "خير الناس أنفعهم للناس" ، ولا طمع لهم في الرئاسة ولا أغلبية ولا مناصب زائلة، وهذا ليس وليد اليوم أو وليد الموقف ولكنه موقف ثابت للإخوان المسلمين وضعه الإمام الشهيد حسن البنا حين قال: "إن دعوة الإخوان المسلمين دعوة بريئة نزيهة، قد تسامت في نزاهتها حتى جاوزت المطامع الشخصية، واحتقرت المنافع المادية، وخلفت وراءها الأهواء والأغراض، ومضت قدمًا في نفس الطريق التي رسمها الحق تبارك وتعالى للداعين إليه ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾ (يوسف).
ونحب كذلك أن يعلم قومنا أنهم أحب إلينا من أنفسنا، وأنه حبيب إلى هذه النفوس أن تذهب فداءً لعزتهم إن كان فيها الفداء.
فنحن نعمل للناس في سبيل الله أكثر مما نعمل لأنفسنا، فنحن لكم لا لغيركم، ولن نكون عليكم يومًا من الأيام".
أيها الشباب العظيم.
شباب مصر الحر الكريم:- جزاكم الله خير الجزاء على دوركم الملموس وجهدكم المبارك في هذه الثورة، فاستمروا على هذا الجهد متعاونين معًا، وكونوا عند حسن ظن ربكم بكم، ولتروا الله من أنفسكم خيرًا، واعلموا أن في اتحادكم معًا يا شباب مصر على اختلاف الانتماء والميول السياسية والفكرية هو سر القوة ومفتاح النصر بإذن الله.
وتمثلوا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)﴾ (آل عمران).
وأذكركم بقول الإمام الشهيد حسن البنا يرحمه الله: " ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول وأنيروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع واكتشفوا الواقع في أضواء الخيال الزاهية البراقة ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمُعلقة ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على ببعض وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد".
واعلموا أن المرحلة القادمة هي مرحلة البناء وإثبات الذات وهي تحتاج إلى تضافر الجهود وتوحد الصفوف والقوى وتغليب المصالح العامة على الخاصة.
فلتكملوا ما بدأتم ولتعلوا راية بلدكم ولتبنوها كما تأملون بعرقكم وعلمكم وعملكم.
وفي النهاية: هذه هي مصر.
التي تثور لكرامتها وكرامة أبنائها.
هذه هي مصر.
التي ترفض الظلم والذل والجور والإهانة والاستهانة.
هذه هي مصر.
التي يعطي شبابها المثل والقدوة لشباب العالم كله في حماية حقوقه والدفاع عنها.
هذه هي مصر.
التي نفخر ونعتز بها وبمكانتها وقدرها.
هذه هي مصر.
التي يحمي جيشها مقدرات الشعب وحقوقه وينحاز إليها.
هذه هي مصر.
التي نضحي من أجلها طاعةً وقربى لله بكل غالٍ ورخيص.
هذه هي مصر.
التي استعصت على التركيع على مدار السنين.
هذه هي مصر.
التي تتحد بكافة أطيافها ومكوناتها مسلميها وأقباطها عند الشدائد.
هذه هي مصر.
مصر العزة والكرامة والإباء والتضحية.
مصر التاريخ والجغرافيا والمكان والمكانة.
هذه هي مصر.
قلب العالمين العربي والإسلامي النابض الذي امتلأ بالدماء الزكية وبدأ في ضخها في كل الشرايين.
عاشت مصر حرة أبية، رائدة للعالم، وقاهرة للطغاة والظالمين عبر العصور.
والله أكبر ولله الحمد، وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.