التعرُّض لسنن الله في التغيير
رسالة من: أ.د.
محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شاء الله من شيء بعد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.
ونحن في خضمِّ الأحداث الجسام التي تمرُّ بها أمتنا من ثورات شعبية عظيمة وأحداث تُغيِّر تاريخ المنطقة، ومع بدء الفعاليات السياسية المختلفة التي من المفترض أن تدعم حرية الشعوب وتقرير حقوقها المشروعة التي حُرمت منها لعقود؛ نجد تهافت البعض على حصد الغنائم وتوزيعها وتحديد النسب، وكأنَّ الأمورَ قد استتبَّت والحقوق قد استُردَّت، والمجرمين قد حُوسبوا، وقد تناسى أننا أمام تحدياتٍ لا تقل أهميةً عن إسقاط الطغاة الظالمين، من بناءٍ لبلادنا واستعادةٍ لحقوقنا المنهوبة، ومحاكمةٍ للقتلة والمجرمين، واستعادةٍ لكرامة الوطن والمواطن، وبناء نهضةٍ حقيقيةٍ لبلادنا لتتبوَّأ مكانتها المستحقة.
إن قوةَ إرادتنا نحو التغيير من حالٍ إلى حالٍ هي الفيصل في تلك القضية، فكلما عظُمت إرادتنا وتزايد جهدنا وأحسنَّا التعامل مع سنن الله في التغيير وحققناها في أنفسنا وواقعنا؛ تغيَّرت أحوالنا وتحققت أهدافنا، فالسنن الربانية هي أحكام الله تعالى الثابتة في الكون، وعلى الإنسان في كل زمانٍ ومكانٍ أن يُجاريها ويتعرَّض لها، وكما يقول الإمام الشهيد حسن البنا في منهجية التعامل مع السنن: "لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلاَّبة، ولكن غالبوها واستخدموها, وحوِّلوا تيارها، واستعينوا ببعضها على بعض، وترقَّبوا ساعة النصر، وما هي منكم ببعيد".
فالله عز وجل لا يحابي أحدًا، ولا يجامل أحدًا؛ فهي سنن إلهية، وقوانين سماوية، لا تتبدل ولا تتغير: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً) (الفتح: من الآية 23)، فالتغيير سنة ثابتة من السنن الإلهية تفرض نفسها، وضابطها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: من الآية 11) ، وهذا ما ندعو إليه جميع الأمم والشعوب؛ أن تُغيِّر من نفسها، وأن تتقرب من ربها، وأن تحقق في ذاتها موجباتِ نصرِ ربها.
فالأمم لا تستطيع أن تُغيِّر واقعها إلا بعد أن تُغيِّر من ذاتها، وتجاري القانون الفطري الإلهي، فتاريخ كل أمة إنما هو نتاجٌ لتحدِّي الظروف التي واجهتها، ولقد حقق الإنسان حضارته وتقدمه بتغلبه على مواقف ذات صعوبات خاصة، فالسنن لا تتأثر بالأماني، وإنما تتأثر بالأعمال العظيمة والجهود المنظمة والمخططات المحكمة؛ للوصول إلى النتائج المرجوَّة؛ فإرادة الإنسان تلعب الدور الفاعل في صنع المتغيرات وتطويعها لصالحه.
الوحدة وعدم الفرقة فوحدتنا سر قوتنا، وحدتنا جميعًا.
مسلمين ومسيحيين.
رجالاً ونساءً.
شبابًا وشيوخًا، وكل التيارات والانتماءات السياسية على اختلاف توجهاتها ومشاربها.
(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) (الأنفال)، فعلينا جميعًا التوحُّد والتكاتف حول القضايا الكبرى للوطن، والعمل على ازدهاره ونمائه وتقدمه، ولا بد أن نعلم أن المعركة الحقيقية قبل أن تكون مع الأعداء فهي مع أنفسنا؛ لذا لا بد من العمل على إصلاحها وتزكيتها لتعيننا على استيعاب بعضنا بعضًا، والتعاون المثمر والبنَّاء بين جميع أبناء الوطن.
الأخذ بالأسباب فإذا وُجدت الأسباب تبعتها النتائج؛ إذ إن حدوثَ التغيير من الله عزَّ وجلَّ مترتب على حدوثه من البشر، والله قد أمرنا بالأخذ بالأسباب، ولم يأمرنا بتحقيق النتائج، وهذا كان واضحًا وجليًّا في ثورات الشعوب، فعندما تحرَّك الناس وانتفضوا ضد الظلم والظالمين وكانوا إيجابيين؛ نصرهم الله، وأيَّدهم بمدد من عنده.
إن المرحلة المقبلة تحتاج من الجميع أن يأخذوا بالأسباب على طريق النهضة والحرية والتقدم، وتحقيق العدل والمساواة، ونصرة المظلوم، حتى يتحقق وعد الله وتتنزل علينا بركاته ويتم علينا فضله ومنُّه.
سنة التداول لقد ظنَّ البعض أن طغيان الجبابرة وطول مكثهم على كراسي الحكم أصبح أمرًا واقعًا، وعلينا التعايش معه والرضوخ له، ونسي أو تناسى سنة تداول الأيام بين الناس قال تعالى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)) (آل عمران)، وهذه السنة نافذة بحسب ما تقتضيه سنة تغيير ما بالأنفس.
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الأنفال: من الآية 55).
النصر من عند الله إن سنة النصر لا تتخلَّف متى استوفيت الشروط، وأهمها الاستقامة على منهج الله بطاعة أمره واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ) (محمد: من الآية 7)، وقال: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ) (الحج: من الآية 40)، وجاءت عوامل النصر جليةً واضحةً في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (49)) (الأنفال).
لا بد أن نَعِيَ أن النصر من عند الله (وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) (الأنفال: من الآية 10)؛ فلنحرص على رضا الله؛ فهو الناصر والمعين، ولنحقق موجبات النصر في أنفسنا ومجتمعاتنا؛ ليتنزل علينا نصر الله.
النصر يأتي من حيث لا نحتسب لو أرادت الشعوب أن تثور على حكامها وأن تسقطهم، وخططت لذلك لوَضَعت الخطط والسيناريوهات والاحتمالات، بل وآلاف الاحتمالات والنتائج، ولافترضوا الكثير والكثير من الاحتمالات عند قيامهم بعملٍ كبيرٍ كهذا، ولكنَّ شيئًا من هذا لم يحدث، وجاءت الثورات من أحداث غضب اعتيادية ونداءات لمسيرات ومظاهرات مألوفة، ويتم التطور والتعامل الهمجي مع الأحداث، وينتفش الظالم ويتكبر ويعاند ويتعالى، ولا يتعظ بعبر السابقين، ولا ينزل على إرادة الشعب، ليتحقق وعد الله بنصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم ونصره عباده، ويرينا آيةً من آياته، ويُنعم علينا بنعمة من أجلِّ النعم وأعظمها.
(ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلا إنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا) (المدثر: 15، 16).
الله لا يَعجل بعَجَلة عباده رب العالمين قادر على أن يأخذ الظالمين بقدرته ومشيئته في أية لحظةٍ كانت، وأن ينتصر للمظلومين، ولكنه الدرس والعظة؛ حتى نستوفي الشروط، ونأخذ بالأسباب كلها؛ حتى يعلِّمنا جميعًا أنه لا يعجل بعجلة أحد، فلا بد من الجهد والعرق والتضحية والفداء؛ حتى نستحق تحقق سنة الله فينا.
(فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: من الآية 43)، (ولَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ ولَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ).
التدرج ومن سنن الله الواضحة سنة التدرج، وهي من السنن المهمة التي يجب على الأمة أن تراعيها وهي تعمل للنهوض والبناء بعد عقودٍ من الظلم والطغيان، لا سيما في هذا الوقت الذي تجذَّر فيه الفساد والإفساد والشرور المتنوعة؛ ما يجعلنا نحتاج إلى تدرج لإعادة التأهيل والبناء.
فالبعض يحسبون أن التغيير يمكن أن يتحقق بين عشيةٍ وضحاها، ويريدون أن يغيروا الواقعَ في طرفةِ عين، دون النظر في العواقب, ودون دراسة ووعي تام للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع ودون إعدادٍ جيدٍ والأخذ بأفضل الأساليب والوسائل، فعندما يحدث التدرج يألف الناس المستجدات ويتعايشون معها، وبعد أن يقتنعوا بها تتكون عندهم قناعات تدفعهم لتحقيق المعجزات؛ لذا كان من أسس منهج الإخوان المسلمين (التدرج في الخطوات).
الجزاء من جنس العمل مَن يعملْ السوء يُجزَ بالسوء، فليحدد كلٌّ منا ما يعمل ليُجزى به، سواء كان خيرًا أم غير ذلك.
يقول تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) (النساء: من الآية 123)، ويقابل هذه السنة سنة أخرى: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)) (الليل)، فكل مَن يعمل بعملٍ يُثاب بمثله، فليحدد كل منا نتيجة عمله بيده وبما يقدمه هو؛ فالجزاء من جنس العمل.
تحذير إن من أخطر أسباب زوال النعم عن الأمم أن يفشو فيهم الظلم وعدم إقامة العدل؛ فيأخذهم الله عزَّ وجلَّ بالسنين، ويبتليهم بالأمراض والفقر، ويجعل بأسهم بينهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر المهاجرين! خمس خصال إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله بأن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله يتخيروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم " فهذه بعض سنن التغيير التي لا تتغير ولا تتبدل، فعلينا أن نُحسن التعامل معها والتعرض لها، وأن نسعى جاهدين لتطبيقها في واقع حياتنا وإنزالها منزلتها المستحقة ليديم الله علينا نعمه وعطاياه، ولنتوحد على مصالح أمتنا العليا، ونترفع عن سفاسف الأمور، وليبذل كل منا قصارى جهده ووسعه لنستحق نصر الله وتأييده؛ فهو نعم المولى ونعم النصير.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.