الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

 الهجرة وحب الأوطان

الهجرة وحب الأوطان

رسالة من: أ.
د/ محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
وبعد.

لم تكن هجرة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رحلةً خلويةً، ولا سياحةً ترفيهيةً، يعود الإنسان بعدها إلى بيته منشرحَ الصدر، متجدِّدَ النشاط لاستئناف العمل واستمرار الحياة، ولم تكن كذلك سعيًا إلى الرزق وسعة العيش، يغير بها الإنسان من حاله ويوسع على نفسه وعياله، كما لم تكن بعدًا عن وطنٍ وانتقالاً إلى وطنٍ أفضل منه.

بل هاجروا من وطنٍ أحبُّوه بكل مشاعرهم، وأرضٍ طاهرةٍ قدَّسوها بكل ما تحمل من تراث الأجداد وميراث الأنبياء، وبما تحويه من أقدس بيتٍ يُعبَد فيه الله ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)(آل عمران).

  حرمٍ آمنٍ تُجبى إليه ثمراتُ كل شيء، وتأتيه الوفود من كل فجٍّ عميقٍ.

تهوي إليه الأفئدة، ويأمن الناس فيه على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويَحرُم فيه القتال، بل قتل الطير أو قطع النبات ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (القصص: من الآية 57) ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ.

.
(العنكبوت: من الآية 67) ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)(قريش).

  وطن أحبُّوا أن يرفعوا شأنه ويقدِّسوا حرماته ويُطهِّروه من رجس الأوثان وعبادة الأصنام، ويُخرجوه من ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان.

  وطنٍ أحبُّوا أن يرفعوا شأن الإنسان فيه عقلاً وفكرًا، وخلقًا وسلوكًا ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8)(الانفطار).

  وطنٍ أرادوا أن يُصلحوا نُظُمه الاجتماعية والاقتصادية، فيُساووا فيه بين الناس دون تمييزٍ بجنسٍ أو لونٍ أو عقيدةٍ، ويُعطوا الضعفاء من النساء واليتامى والأرقاء حقوقهم التي هضمها الأقوياء والمتجبِّرون، ويُنصفوا الفقراء من ظلم الأغنياء، ويُطهِّروا المعاملات من الربا والاحتكار، ويُطهِّروا الأخلاق من الخنا والفجور والعربدة ورجس الخمور.

  وطنٍ أرادوا أن يضمُّوا فيه القوى المتنافرة والعصبيات المتناحرة إلى وحدةٍ تجمع الشمل وتوحِّد الصف وتوفِّر القوى ويرضاها الرب الغفور ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)(الأنبياء).

﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾ (آل عمران: من الآية 103).

﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)(الحجرات).

  وطن أرادوا أن يرفعوا شأنه ويرتقوا بنُظُمه وشرائعه وأعرافه وقوانينه، ويُنظِّموا العلاقات بين قاطنيه بالعدل والمساواة والقسطاس المستقيم ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58).

﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)(النحل).

  وطن كانوا يدعون أهله بالحكمة والموعظة الحسنة، دعوةً ربانيةً، سلميةً رحمانيةً ﴿وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25)(يونس).

لم يرفعوا سلاحًا، ولم يكرهوا أحدًا ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ (البقرة: من الآية  256).
  ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: من الآية 29).

لم يطلبوا من أحدٍ أجرًا ولا شكورًا ﴿قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ (الشورى: من الآية 23)، بل هم الذين تحمَّلوا الإيذاء والإهانة، والجَور والظلم، والاضطهاد والحرمان الذي وصل إلى حد الحصار والتجويع في شِعب أبي طالب.

عُذَّبوا وطوردوا وقُتل منهم من قُتِل، حتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أطهر خلق الله وأرحمهم وألينهم؛ دبَّروا لقتله غيلةً ومكرًا ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)(الأنفال).
  حينما استنفد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام كل طاقاتهم وجهدهم طوال ثلاث عشرة سنة من الدعوة والتبليغ والإيضاح والتلطُّف، قوبلوا فيها بكل أنواع الكيد والتكذيب والإيذاء والتربص.

كان لا بد لأصحاب الدعوة الحق، على رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤثروا الحق التليد، ولو أدَّى ذلك إلى ترك ديارهم التي ألفوها، ووطنهم الذي أحبُّوه، وكعبتهم التي قدَّسوها، إلى أرضٍ جديدةٍ تقبل دعوتهم، وترحِّب بهم، وتشتاق إلى نور الهدى ومنهج العدل وشريعة الحق.
  ورأت رمالُ الصحراء ودروب القفار أصحاب الهدى يهاجرون جماعاتٍ وفُرادى، سرًّا في أغلب الأحيان وعلانيةً في قليلها، بمتاعٍ قليلٍ وزادٍ هزيلٍ، مؤثرين رضا الله ونصرة الحق على هوى النفس ووشائج القربى وحنين القلوب.
  ويا لها من كلماتٍ تلك التي ودَّع بها الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وطنه الحبيب وبلدته المباركة التي نما وترعرع بها، وتلك البقاع التي رأت مبعث النور ومنازل الوحي في غار حراء وجبال مكة وشِعابها!.

التفت إليها صلى الله عليه وسلم ليقول: "والله، إنك لأحَبُّ أرض الله إلى الله، وأَحَبُّ أرض الله إليَّ.
ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت".
  ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استُقبل أروع استقبالٍ من أهل المدينة التي استضاءت بنوره وتضوَّعت من هداه، إلا أن الحنين إلى مكة لم يفارقه هو ولا أصحابه الكرام، حتى كان بلال ينشد في مرضه: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً .

.
بوادٍ، وحولي إذخرٌ وجليلُ وهل أَرِدَنَّ يومًا مياهَ مجنةٍ .

.
وهل يبدوَن لي شامةٌ وطفيلُ   حنينٌ إلى وطنه الأصيل، حتى إلى الآبار العذبة والجبال الشامخة.

حتى إلى الجماد الذي يسبح بحمد خالقه.

حنينٌ وحبٌّ دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يرفع يده إلى الله تعالى بالدعاء: " اللهم حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد.

اللهم وصحِّحها لنا وبارك لنا في مُدّها وصاعها".
  وقامت في المدينة المنورة أعظم دولةٍ عرفها العالم.

حريةٌ وعدالةٌ وكرامةٌ ومساواةٌ.
وقامت شريعة الله تُصلح كل جوانب الحياة.
وعاش الرسول صلى الله عليه وسلم بين الناس عشر سنواتٍ يعلمهم كيف يعيشون على الأرض بمنهج السماء، وكيف يسمُون بأخلاقهم ومعاملاتهم إلى أعلى درجات الكمال والإحسان ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).
  وأقام المعاهدة تلو المعاهدة مع يهود بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، ووفَّى هو صلى الله عليه وسلم والمسلمون بعهدهم، ونقض اليهود كل العهود، ثم كانت ملاحم الجهاد والقتال لحماية الدعوة من أعدائها وتحطيم القيود التي تحول بين الناس وبين اختيار شريعة ربهم.
  وانتشر النور ودخل الناس في دين الله أفواجًا، وجاء الوقت ليدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلده الحبيب مكة المكرمة ليُطهِّرها من رجس الأوثان والأصنام، حتى قام من كان يعبد الأصنام قبل هجرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصعدوا إلى الكعبة وحطَّموا أصنامهم بأيديهم، بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان، ويُعيدها إلى نور التوحيد كما كانت على ملة إبراهيم الحنيف، وعندما أراد بعض الفاتحين أن ينتهكوا حرمتها على عادة المنتصرين من غير المسلمين، فقال بعضهم متشفيًا: "اليوم يوم الملحمة.

اليوم تُستحل الحرمة"، فردَّه وردعه بقوله: "اليوم يوم المرحمة.

اليوم يعز الله قريشًا، ويعظم الكعبة ".
  ما أحوجَنا إلى هذا الحب لبلادنا التي أنعم الله علينا بها!.

نقدِّس مكانتها، ونحفظ حرماتها، ونُصلح من شأنها.

نرفع عمرانها، ونُعلي بنيانها.

نزرع الأرض البوار، ونستثمر البحار والأنهار.

نُصلح كل ما اعوجَّ من شئونها، ونقيم الحق والعدل، ونضع الميزان ونُعلي من كرامة الإنسان، وهذا يتطلب منا جهدًا وجهادًا، وصبرًا واحتسابًا، وقبل ذلك حب عميق لما أنعم الله علينا من بلادٍ كريمة ﴿بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ (سبأ: من الآية 15).
  جاء في الحديث الشريف: "لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونية" ؛ فكلُّ شعبٍ يُصلِح بلده ويُقيم الحق وينشر العدل بمنهج الله، حتى يأذن الله تبارك وتعالى بوحدةٍ شاملةٍ تجمع الشعوب المؤمنة تحت راية التوحيد لينعم الناس جميعًا بالعدالة والحرية والمساواة.

﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)(الروم).
  فإلى العمل والجهاد، والألفة والاتحاد لرفعة البلاد وإسعاد العباد.

المجاهد من جاهد نفسه، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه.
  وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.