الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

 إرادة الشعوب.. صانعة النهضة

إرادة الشعوب.. صانعة النهضة

  رسالة من: أ.
د.
محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ومن والاه، وبعد.

في الرسالة السابقة تحدثنا عن الإنسان، باعتباره أساس النهضة، وهو أمر لا ينفك أبدًا عن ضرورة احترام إرادة الشعوب، التي تمثل إرادة الأفراد مجتمعين؛ فهي حجر الأساس الحقيقي لأية نهضة وبدون احترامها والنزول عليها لا نهضة ولا تقدم.
  لقد أنهت ثورات الربيع العربي عهود الاستعباد والاستبداد للبلاد والعباد، ونهب ثرواتها، وتزييف إرادتها (مَا أُرِيكُمْ إلا مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلا سَبِيلَ الرَّشَادِ) ، وأصبحت الكلمة العليا للشعوب، وأصبحت سيدة قرارها، وعلى من ولي أمرًا ألا ينسى أنه "أجير" عند الشعوب، يحقق مطالبها ويبذل غاية جهده في إسعادها؛ لتنزوي بعيدًا شعارات القهر: "البلد بلدهم".
  إن لدى الأمم ثروة عظيمة ومكسبًا هائلاً في قيمها، وفي شبابها، في حكمائها، في علمائها، في ثرواتها، في اتحادها.

حقًّا هذه كلها ثروات لو أدرك كل مسئول قدرها وأحسن القيام برعايتها- كما أقسم بالله العظيم عند توليته- لصار من أعظم قادة العالم، ولتقدم وارتقى ببلده وكتب لها ولنفسه تاريخًا مجيدًا، يرفع قدرها وقدره معها.
  إن الشعوب التي نالت حريتها وكرامتها بدماء أبنائها لن تقبل بعد اليوم أن تُزيف إرادتها أو يُلتف عليها، ومن يرد فيها بظلم فسوف يذوق وبال أمره (ومَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ) (ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلا بِأَهْلِهِ) ، فعندما تشعر الشعوب أنها صاحبة القرار ستتحرك البواعث الكامنة في النفوس وستنطلق الطاقات نحو بناء مستقبل واعد يبذل كل فرد فيه أقصى ما يمكنه لتقدم بلده ورقيه، كما بدأنا نرى في مواقع كثيرة في الفترة القليلة الماضية.
  عندما نظم أبو القاسم الشابي أبيات قصيدته الشهيرة (إرادة الحياة)، والتي يقول في مطلعها: إذا الشعب يومًا أراد الحياة                     فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي                           ولا بد للقيد أن ينكسر   كان يدرك أن إرادة الشعوب في الحياة وفي العيش بحرية وشرف وكرامة هي التي ستسود في النهاية، وأنها لا يمكن أن تُقهر مهما بلغ الحكام الطغاة والمستبدون من قوة وظلم وبطش وجبروت، وكان يدرك أيضًا أن القمع والقهر والاستبداد زائل لا محالة، طال الزمن أم قصر، وأن عصر الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة آت لا ريب فيه، فدولة الظلم ساعة ودولة الحق والعدل إلى قيام الساعة.
  إن حالة الانسداد التام والتأزم المطلق التي وصلت إليها مجتمعاتنا العربية في ظل النظم السابقة من جرَّاء إهدار تلك النظم المستبدة لإرادة شعوبها والاستهانة بقيمة الإنسان، وصلت لانعدام الحريات العامة، وانتهاك الحريات الخاصة، وفقد الشعب الولاء والانتماء، وحُرم حرية التعبير والمشاركة في حكم بلاده، وكذلك استمر محكومًا بحالة الطوارئ والأحكام العرفية لعشرات السنين، واستمرت الاعتقالات التعسفية التي تطال المعارضين الشرفاء، وإصدار الأحكام الظالمة والجائرة بحقهم من محاكم استثنائية.
  وتواكب ذلك مع استمرار تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي للجماهير الشعبية التي باتت غالبيتها العظمى تعيش تحت خط الفقر، أو إن شئت فقل الإفقار المتعمَّد، والإمراض المتعمَّد، إضافةً إلى استمرار الارتفاع الرهيب لمعدل البطالة والبطالة المقنعة في البلاد، والانتشار المخيف للمحسوبية والتسيب وتفشي ظاهرة الفساد والإفساد والرشوة وإهدار المال العام؛ كان متعمدًا ليظل الشعب مطحونًا مشغولاً عن مهمته الحقيقية وصناعة مجده الأسمى.
  وبالرغم من كل ذلك نجحت إرادة الشعوب في إسقاط عروش أعتى الجبابرة في العصر الحديث بفضل من الله، ثم بفضل اتحادها وقوة صفها.

إنها النهاية المقدرة المحتومة للصراع الطاحن بين إرادة الشعوب المُغتصبة وإرادة الأنظمة المستبدة بين حق الشعوب وباطل الظلمة (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ ولَكُمُ الوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) .
  إن الشعوب عبَّرت عن إرادتها الحرة في بناء الدولة الديمقراطية الحديثة القائمة على أسس ومبادئ المواطنة وسيادة القانون والحرية والمساواة والتعددية بكل أشكالها وأنواعها والتداول السلمي للسلطة، عبر صناديق الاقتراع، واحترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وشيوع قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع أبناء الأمة، بلا تمييز على أساس العرق أو اللون أو الدين، وصياغة دستور جديد للبلاد يلبي متطلبات الشعوب نحو نهضة حقيقية لعشرات بل مئات السنين، بصورة توافقية بين جميع أبناء البلاد، فالدساتير توضع بالتوافق لا بالأغلبية، مع ضرورة محاربة مختلف مظاهر الفساد في دوائر الدولة ومؤسساتها ومحاسبة الفاسدين والمفسدين، مهما كانت مواقعهم وصفاتهم، وسرعة محاكمة المجرمين منهم محاكمة عادلة وعاجلة، ومعالجة الوضع المعيشي المتدهور للمواطن وتحسينه والقضاء على ظاهرة الفقر والبطالة، وضرورة إعادة الأمن والأمان للمواطن في كل ربوع الأوطان، وإعادة تأهيل الأجهزة الأمنية وتغيير مفهومها الخاطئ، كأجهزة قمع واستبداد، وإنهاء هيمنتها على مقاليد وزمام الأمور في البلاد، واقتصار دورها على حماية الوطن وتوفير عوامل الأمان والاستقرار للمواطنين، وإفساح المجال أمام كل الاتجاهات والتيارات السياسية والفكرية والحقوقية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ومنظمات المجتمع المدني في البلاد؛ لممارسة نشاطاتها وفعالياتها والتعبير عن آرائها وتوجهاتها وتمكينها من ممارسة دورها الوطني بحرية للمساهمة في بناء أوطانها ورفعة شأنها، مع ضرورة نشر ثقافة المحبة والتسامح والاحترام المتبادل والعيش المشترك بين جميع أبناء الأمة.

فهذه هي مطالب الشعوب وواجبات الحاكم، أيًّا ما كان، وهذا هو الطريق الوحيد للخروج من أزماتها وتحقيق نهضتها.
  هذه بعض مهام أي مسئول يتقي الله في شعبه؛ فهو مسئول أي سيسأل عنها أمام الله ثم أمام الناس على تأديته لواجباته بالصورة المرضية.
وعليه أن يبذل أقصى جهده لتحقيق ذلك، بكل أمانة وصدق وإلا فليترك مكانه إذا لم يستطع القيام بهذا الواجب.
  إن شعوبنا الأبية تبحث عمن يحفظ عليها دينها، ويحرس بلادها ويدافع عنها، ويحفظ أمنها الداخلي ويحترم أحكام القضاء ولا يتعالى عليها أو يهملها، ومن يقيم العدل في جميع شئون الدولة، وينشر الفضائل والأخلاقيات، وييسر سبل العيش، وينشر الرخاء في ربوع البلاد، ويولي الوظائف والمهام للأمناء أهل الخبرة.
  وهو ما خطَّه إمامنا الشهيد حسن البنا ورسم حدوده لمكونات النهضة ورفعة الشعوب؛ حيث يقول: "إن تكوين الأمم، وتربية الشعوب، وتحقيق الآمال، ومناصرة المبادئ.

تحتاج من الأمة التي تحاول هذا أو من الفئة التي تدعو إليه على الأقل إلى قوة نفسية عظيمة تتمثل في عدة أمور: إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره، وقد يقول قائل: ما لهؤلاء الجماعة يكتبون في هذه المعاني التي لا يمكن أن تتحقق؟ وما بالهم يسبحون في جوِّ الخيال والأحلام.

على رسلكم أيها الإخوان في الإسلام والملة؛ فإن ما ترونه اليوم غامضًا بعيدًا كان عند أسلافكم بديهيًّا قريبًا، ولن يثمر جهادكم حتى يكون كذلك عندكم، وصدقوني إن المسلمين الأولين فهموا من القرآن الكريم لأول ما قرءوه ونزل فيهم ما ندلي به اليوم إليكم ونقصه عليكم".
  لقد روت دماء الشهداء بذور الإرادة الشعبية، فنمت شجرة الحرية، وأصبحت عصيةً على الاقتلاع أو الالتفاف عليها أو محاولة الخداع بغيرها، فعلينا جميعًا ألا نستهين بإرادة شعوبنا، وأن ننصاع لها، وأن نتحرك في إطارها، وألا يحاول أي فصيل- مهما اعتقد في نفسه القدرة على مجابهة الشعوب- أن يسبح عكس التيار، وليكن له عبرة فيمن سبقوه، ولن يضيع حق وراءه مطالب يأخذه ويحميه بعد أن حصل عليه.
  لنتنافس جميعًا في كيفية النهوض ببلادنا وتقديم البرامج النافعة، ونتعاون جميعًا في تقدمها ورقيها تنافسًا شريفًا، بعيدًا عن التناحر المذموم الذي يوغر الصدور ويعيق التقدم، ولنُري الله ثم شعوبنا من أنفسنا خيرًا في بيان حبنا العملي لها من خلال الخطوات العملية نحو نهضة حقيقية تعيدنا لمكانتنا المستحقة بين الأمم.
  إن إرادة الشعوب هي الغالبة وهي الأبقى والأقوى بإذن الله، فوق كل قوة أو سلطة، فعلى الجميع احترامها وعدم الاستهانة بها لنتقدم ببلادنا نحو الأمام ولنزيل عنها عناء عشرات السنين من القهر والذل والحرمان (إنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) .
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.