الأخلاق والعلم جناحا النهضة
رسالة من أ.د: محمد بديع- المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه.
الخلق والعلم وجهان لعملة واحدة.
اتفق العلماء على أن الأخلاق هي الأساس المعنوي لنهضة الأمم ومقياس تطورها وتقدمها ورفعة شأنها، وأن العلم هو الأساس المادي للنهضة في شتى جوانب الحياة، ومن ثمَّ فالعلم وحده لا يصنع السعادة للبشرية، إن لم يرافقه أخلاق وقيم، ولن تقوم نهضة لأمتنا إلا بهما معًا، لتقدم كل الخير للبشرية، التي خُلقت لتسعد وتهنأ، وتعيش في طمأنينة.
فعندما ربطت أمتنا بين العلم والأخلاق كنا في عزة ورفعة بين الأمم؛ حيث كان الخلق والعلم توأمين، فكان الرقي، وكان الازدهار، وها هو الوجود لم يعرف في تاريخه مثل حضارة أمتنا العظيمة، التي كان أساسها العلم والأخلاق الفاضلة المستقاة من الإسلام وكل الرسالات السماوية؛ التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق "، فتميزوا وأبدعوا في كل الميادين: العلمية والأدبية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والرياضية والفنية والبحثية، فالدعوة إلى العلم شرف وعلو، يقول تعالى (يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) (المجادلة: 11) يقول صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة "، بل جعله النبي صلى الله عليه وسلم طريقًا إلى الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة" (رواه مسلم).
والعلم الذي تزدهر به الأمم هو العلم المؤسس على الأخلاق، يقول الله تعالى: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)) (التوبة: 109).
العلم والخلق جناحا نهضتنا.
فإننا أمة (إقْرأْ)، التي كان وما زال العلم أول دستورها: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)) (العلق) وكانت الكتابة ثاني دستورها (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)) (القلم)، وكانت الأخلاق هي المتمِّمة لهذا الدستور في الواقع العملي، يقول صلى الله عليه وسلم: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" (رواه أحمد)؛ أي أن القيم والأخلاق هي قوام كل الرسالات السماوية السابقة لهذا قال صلى الله عليه وسلم "لأتمِّم"، فالعلم والأخلاق جناحا نهضتنا القادمة، فمن ارتضى العلم دون خلق فقد عرَّض نفسه للاستغلال، ومن سار بخلق دون علم فقد أصبح قريبًا من الاستغفال، وأمتنا التي أخرجها الله خير أمة للناس لا تُستغفل ولا تُستغل؛ لوعيها بطريق النهضة، ولإيمانها وتجردها لربها: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ (110)) (آل عمران)، ويقول حافظ إبراهيم: والـعـلم إن لــم تـكـتنفه شـمائل تـعـلـيه كـــان مـطـية الإخفاق لا تـحـسبن الـعـلم يـنـفع وحــده مــا لم يــتــوج ربـــه بــخـلاق جناحا البناء الحضاري السليم.
وكذلك البناء الحضاري السليم لا بد أن يكون له جناحان: جناح روحي، وجناح مادي، فالحضارة التي تهمل الأخلاق، وتمضي في التقدم المادي إلى أوج ما يمكن أن يتوصل إليه؛ هي حضارة لا قيمة لها، لن تلبث أن تطير حتى تقع من شاهق؛ فهل يعقل- ومعنا كل أسباب النهضة- أن نتنكَّب الطريق اليوم ؟ لقد أرجع أهل الفكر الكثير من الأسباب المعوقة للأمة وهي تسير في خطوات نهضتها منها إلى: البعد عن الله، وانتشار فرقة الصف، وتفشي الجهل، وشيوع العلم الناقص، والرضا بفساد الأخلاق، وتراجع الاحتكام إلى شرع الله، وفي الجمود عن الانفتاح على كل تقدم عالمي، "فالحكمة ضالة المؤمن"، يقول مالك بن نبي: "والعالم بحرصه على الحقيقة يصبح أخلاقًا لا يطيق الصبر على الخطأ حتى يجريَ التصحيح المطلوب عليه".
مقومات نجاح النهضة العلمية الأخلاقية.
1- الانطلاق من القرآن والسنة لبناء مشروع النهضة: فالقرآن بهدايته يرسم معالم النهوض وعوامل التقدم، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم القدوة ترسم معالم التغيير والنهوض، التي تهتدي بها الإنسانية في علاج مشكلاتها، وتقويم سلوكها وترشيد حركتها، ونشاطها في الأرض، وبسيرته صلى الله عليه وسلم تعرف الأمة أسس وعوامل النهضة، وتكشف أسباب الضعف، وتتعرف على المنهج الصحيح المعوّل عليه في قيادة الإنسانية إلى شاطئ الأمان، والتعرف على ما في الكون من نعم وثروات الله واهبها لكل البشرية ومزيدها لعباده الصالحين (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (الأعراف: 69).
2- التوفيق بين الحقائق القرآنية والسنن الكونية: فالقرآن والكون كتابان يفسران حكمة خلق الكائنات، ويكشفان عن المقاصد الربانية في تحميل الإنسان– كل الإنسان- أمانة الاستخلاف؛ فآيات الله المسطورة وآيات الله المنثورة من مصدر واحد، إنها دعوة صريحة إلى تسخير إمكانات الكون في سبيل تحقيق نهضة علمية مادية؛ ذلك أن الله عز وجل لم يشرع الأوامر التكوينية عبثًا، وإنما جعلها لا تتبدل بتغير أحوال الناس، فسقوط الأمم ونهوضها، لا يمكن أن يتم بمعزل عن اكتشاف السنن الكونية التي أجراها الله في الحياة في مختلف المجالات.
3- إصلاح الإنسان والمنهج التعليمي: فالإنسان هو أعظم الثروات، إن توفر له المنهج التعليمي القائم على استيعاب المعطيات المعرفية الجديدة، والتطورات العلمية الحديثة في كل مجالات العلوم، وبذلك تستفيد الأوطان من عقول أبنائها بدلاً من أن تهاجر بعيدًا عن خدمة أمتها.
4- تسخير العلم لخدمة البشرية وبناء القيم في النفوس: وهذا هو ما يريده الإسلام من العلم النافع، هذه القاعدة التأسيسية لنهضة الأمة عامة، فنحن في أمسّ الحاجة اليوم ونحن على أعتاب نهضتها إلى العلم النافع في كل المجالات، الذي يؤدي إلى الخشية من ناحية، وإلى عموم تقديم النفع لكل الكائنات.
5- الكشف عن الكنوز والثروات المخبوءة في باطن أراضي أمتنا، وفق ما يكتشفه كل يوم علماء الجغرافيا والجيولوجيا والتاريخ، من علمائنا الأجلاء، أحفاد الرازي والزمخشري وابن الهيثم، وابن خلدون وابن سينا والبيروني، الذين برعوا في مجالات الطب والرياضة والجغرافيا والفيزياء والهندسة، كما برعوا في مجالات القيم والأخلاق والدين، سواء بسواء.
بالهمة والأمل نحقق نهضتنا.
إن الموانع التي تحول بيننا وبين النهضة العلمية الأخلاقية، كثيرة، منها الخارجية، كالتقليد والتبعية والجهل، ومنها الداخلية، كالاستبداد والفوضى واليأس، ولكنها جميعًا تختفي بقوة الهمة، والتفاؤل، والأمل، والتطلع إلى الاجتهاد في مشروع النهضة، وإظهار قوة الأمة الأخلاقية في استئناف الحياة الإسلامية وإسعاد العالمين بها، يقول الإمام الشهيد حسن البنا عن دعامتي العلم والأخلاق، وهو يقدم المشروع الإسلامي لنهضة الأمة: "تحتاج الأمة إلى العلم الذي يمدها بما تحتاج إليه من مخترعات ومكتشفات، والإسلام لا يأبى العلم، بل يجعله فريضة من فرائضه"، ويقول: "لم يفرق القرآن بين علم الدنيا وعلم الدين، بل أوصى بهما جميعًا، وجمع علوم الكون في آية واحدة، وحث عليها وجعل العلم بها سبيل خشيته وطريق معرفته، فذلك قول الله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً) ()، وفي ذلك إشارة إلى الهيئة والفلك وارتباط السماء بالأرض، ثم قال تعالى (فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا) ، وفي ذلك الإشارة إلى علم النبات وغرائبه وعجائبه وكيميائه (وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ) ، وفي ذلك الإشارة إلى علم الجيولوجيا وطبقات الأرض وأدوارها وأطوارها، (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ) ، وفيها الإشارة إلى علم البيولوجيا والحيوان بأقسامه من إنسان وحشرات وبهائم؛ فهل ترى هذه الآية غادرت شيئًا من علوم الكون؟ ثم يردف ذلك كله بقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) (فاطر: 27- 28).
ثم يقول عن دعامة الخلق: "والأمة الناهضة أحوج ما تكون إلى الخلق.
الخلق الفاضل القوي المتين والنفس الكبيرة العالية الطموحة؛ إذ إنها ستواجه من مطالب العصر الجديد ما لا تستطيع الوصول إليه إلا بالأخلاق القوية الصادقة النابعة من الإيمان العميق والثبات الراسخ والتضحية الكثيرة والاحتمال البالغ، والحرية العامة ولحرية العقل؛ لنقله إلى الإبداع والابتكار، وإنما يصوغ هذه النفس الكاملة الإسلام وحده.
هو الذي جعل صلاح النفس وتزكيتها أساس الفلاح، فقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)) (الشمس)، وجعل تغيير شئون الأمم وقفًا على تغير أخلاقها وصلاح نفوسها فقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11).
وفقنا الله جميعًا عالمين ومتعلمين للنهوض بمصرنا الحبيبة ورفعة شأنها بين كل الأمم والدول والشعوب.
وصلى الله على قائدنا محمد صلى الله عليه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.