الإعلام.. رائد النهضة
رسالة من: أ.د.
محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن والاه، وبعد.
نعيش هذه الأيام ذكرى مرور عام على ثورات الربيع العربي وما تحقق لها من إنجازات عديدة مهدت لقيام الشعوب بممارسة حقوقها الدستورية والقانونية التي حرمت منها لعقود، وإدارتها لشئون بلادها وتحملها لمسئولياتها التي سلبها الغاصبون والفاسدون، وفي الوقت ذاته تتضافر جميع الجهود والقوى لاستكمال مسيرة الإنجازات وتحقيق بقية المطالب الثورية، وعلى رأسها القصاص للشهداء والمصابين، ومحاسبة كل من أفسد الحياة السياسية والأمنية للأوطان واستكمال بقية المؤسسات الدستورية وغيرها من المطالب التي لم تتحقق بعد.
ونستكمل ما بدأناه من أحاديث سابقة عن مشروع النهضة ومقوماته؛ بالحديث عن عنصر من أهم عناصر النهضة المأمولة؛ ألا وهو الإعلام.
فالإعلام نبض الجماهير، والرافد المؤثر في تشكيل الرأي العام، ورائد تلك النهضة إذا حسُن استخدامه وتوظيفه، وهو حجر الزاوية في تهيئة الأجواء اللازمة والضرورية لحركة النهضة الشاملة في المجتمع؛ حيث إنه يعمل على توفير البيانات والمعلومات للعامَّة والمختصين، وما يتعلق منها بحركة الاستثمار والتنمية في مختلف المجالات، كما أنه يسهم بشكل فعَّال في تربية الإنسان وتنميته في فكره وعاطفته وسلوكه ووجدانه ويوجهه نحو بناء الدولة وتقويتها بما يحفظ حقوق الجميع، وقد يلعب الإعلام دورًا سيئًا في إثارة الفتن ونشوب الخلافات بالشكل الذي يمزق العلاقات العامة والخاصة، إذا لم يكن أهله أمناء.
إن الإسلام يدعو إلى الإعلام النبيل برسالته السامية؛ الذي يؤدي مهمته في بيان الحق وليس كتمانه، ورد الشبهات وليس إثارتها، والدعوة إلى الأخلاق الإنسانية الراقية وليس رصد سفاسف الأمور وتوافهها، وتلمُّس حاجات المجتمع وليس ترَّهاته، فلم يعد الإعلام ترفًا، بل أصبح ضرورةً، لا يمكن للناس أن تستغني عنه، وهو وإن اصطلح على أنه "السلطة الرابعة" لكنه في الحقيقة صاحب التأثير الأول.
فإن للإعلام تأثيرًا لا يُنكر في فكر الناس وسلوكهم، وقد تقع المجتمعات والدول في خلافات وخصومات لا نهاية لها من جرَّاء خبر أو مقال أو حلقة مرئية، وهو ما يهدد مستقبل الإنسان في فكره ومجتمعه وأمته، ولو لم يكن لسلاح الإعلام من أثر غير أنه يوجّه الرأي العامّ نحو مسلك معيَّن أو مفهوم خاص لكفى.
حاجتنا إلى إعلام صادق إن الوظيفة الراهنة للإعلام- والتي رسَّختها النظم الاستبدادية حيث كانت لا تخرج عن إطارين اثنين؛ هما التسلية وتجميل الصورة الرسمية- لا بد أن تتغير جذريًّا؛ ليوظف الإعلام لرفع المستوى الثقافي للأمة، وتغيير العادات السلبية والضارَّة وبلورة نسق إيجابي للقيم الاجتماعية، وتوجيه الإنسان نحو الإنتاج، وإشاعة وسائل النمو الذاتي وربط الفرد بمشكلات مجتمعه.
والإعلام الصادق الملتزم بما هو واقع؛ يزرع الثقة في نفوس الناس؛ لأنه باختصار قول الحق، و هو ناقل للمعلومة بلا إفراط ولا تفريط؛ لذا وجب على كل إعلامي أن يتحلى بصدق الكلمة وصدق الضمير عملاً بقوله تعالى ( اتَّقُوا اللَّهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) (التوبة: من الآية 119)، وحذار من أن يفتري شيئًا من الكذب يزعم أنه سبْق أو أنه سينطلي على الناس، بل ويقصده عامدًا متعمّدًا؛ وليحذر أن يكون ممن قال فيهم المعصوم صلى الله عليه وسلم: " وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابًا ".
فإن للإعلام دورًا محوريًّا ومهمًّا في صياغة الرسائل الكلية للأمة وتبنِّي قضاياها وحماية ثقافتها، وصيانة مقومات هويَّتها العربية الإسلامية، فضلاً عن توعية الإنسان بالمتغيرات المعاصرة، وتبصيره بالتحديات المحيطة به.
فوسائل الإعلام يفترض أن تمثل المجتمع تمثيلاً حقيقيًّا، فتكون مرآةً تعكس صورة المجتمع وقيمه وآراءه وأفكاره وعاداته وتقاليده، وكذلك هموم المواطن وطموحه وآلامه وآماله، وهذا يعدُّ صمام الأمان للإعلام، وبالتالي يصبح بحق لسان حال المجتمع.
كما يجب ألا نتغاضى عن الدور الرئيسي الذي تلعبه وسائل الإعلام في النهضة، وهو ما يستدعي توظيفها بالقدر الذي يسهم في تعزيز القيم الإيجابية وتنمية الاتجاهات النهضوية، وعليه فإن الضرورة تقتضي الاهتمام بالإعلام وتوظيفه في البناء التنموي لتوسيع درجة الوعي الشعبي بمشروع النهضة.
كما عليه أن يبث الشعور بالمسئولية الوطنية والاجتماعية تجاه الوطن في نفوس الشعب، ويرفع وعيهم، ويُقوّم سلوكياتهم، وينشر ثقافة العمل والتنمية والبناء التي من شأنها أن تسهم في دعم النهضة وبناء الحضارة، وأن يتعامل مع المشكلات والقضايا بنظرة الإصلاح من أجل البناء لا النقد من أجل الهدم.
أمانة الكلمة وبما أن الإعلام من أهمِّ ركائز النهضة المنشودة؛ باعتباره نبض الجماهير والرافد الأول الذي يشكِّل الرأي العام، كان ضروريًا أن يضع صانعو الإعلام بكل أنواعه أمانة الكلمة أمام أعينهم وإدراك خطورتها في هذه المرحلة الفارقة من تاريخ الأوطان.
إن للكلمة أهميةً ومكانةً كبيرةً في حياة الإنسان، بالإضافة إلى أثرها البالغ في حياة الأمم؛ لذلك جاء التأكيد النبوي إلى لفت النظر إلى أهميتها وخطورتها في آن واحد بقوله صلى الله عليه وسلم: " إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في نار جهنم " فإذا كانت كلمة تُدخل هذا الجنة وتدخل هذا النار، فإنها تكون سببًا في البناء والتنمية والنهضة، وأيضًا قد تكون سببًا في الهدم والدمار، والكلمة تشمل كل أنواع الكلمات المنطوقة والمقروءة والمسموعة؛ لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: " المستشار مؤتمن "، مشددًا على أمانة الكلمة؛ لما لها من أهمية عظمى في علاقة الإنسان مع الآخرين، وهذا ما يجب أن يلتزم به الإعلام؛ بحيث يجعل من أمانة الكلمة منهجًا يحافظ عليه، وهدفًا يعمل للوصول إليه، وقيمة عليا وميثاق شرف ينبغي أن يلتزم به.
كما يتضح لنا أنه يجب على الإعلام بكل وسائله القيام بالدور المنوط به على أكمل وجه، من خلال نشر الوعي، وإشاعة الثقافة، وإعلاء منظومة القيم، ومساهمته بطريقة جادَّة في دفع عجلة التنمية والبناء؛ بما يعود على البلاد بالنهضة في كل شئونها، ولن يتحقق هذا إلا من خلال مجموعة من المبادئ والقيم التي يجب أن يضعها الإعلام على رأس أولوياته، وتتمثل هذه المبادئ والقيم في: - أن يلعب الإعلام دور المراقب الجيد والمحايد للأحداث، ولا يزايد عليها من أجل الإثارة، ويلتزم بالموضوعية والحياد في عرض الحقائق، وأن يستخدم خطابًا إعلاميًا يراعي آداب وأخلاقيات الحوار، وعليه أن يدعم الممارسة الديمقراطية وقبول الآخر، ويسهم في إحداث نهضة في جميع المجالات الاجتماعية والاقتصادية وغيرها، ويلتزم المصداقية ويبتعد عن إشاعة الأكاذيب من أجل تحقيق السبق الزائف، من خلال التثبت قبل عرض أي مضمون من شأنه أن ينال من الآخرين، وليعلموا جميعًا أن أي مال مصدره زيادة التوزيع والرواج بسبب الكذب وتضليل سيكون سحتًا يطعمه زوجته وأولاده.
- العمل على رفع المستوى المهني وترسيخ القيم الأخلاقية والقيادة والتخطيط الإستراتيجي والدراسات والبحوث، وهذا يعني أنه يجب التركيز على التكوين الأكاديمي والمهني الفعال والمنهجي ، والتنسيق ما بين جهات التكوين والتدريب والمنظمات والمؤسسات المختلفة؛ للاستجابة لاحتياجات الوطن ومشروعه النهضوي، وكذلك سوق العمل ومتطلباته، فلا بد من الانتقال من مرحلة الكمِّ إلى مرحلة الكيف؛ لاستيعاب الدور المحوري للإعلام في دعم بناء المجتمع والفرد والأمة ودعم صانع القرار.
- إعطاء الأولوية للقضايا والمشكلات التي تخص المواطن؛ بما يجعله يشعر بأن الإعلام هو مرآة حقيقية لاهتماماته وطموحاته وقضاياه وآماله في المستقبل، مع ضرورة التركيز على وجود ميثاق شرف إعلامي، يحرص على تقديم الإعلام الهادف، ويحارب كل ما من شأنه أن يهدم المجتمع أو يهدد استقراره، وأن يوفِّر فرصة التعبير عن الرأي للجميع دون إقصاء أو تمييز، ويضمن عدم خروج المضامين الإعلامية عن اهتمامات المواطن وأخلاقياته وعاداته.
فإذا استطاع الإعلام أن يحقق هذه المبادئ وأن يراعيها في جميع وسائله فإنه سيسهم بدور كبير في بناء النهضة المرجوة، والنهوض بالمجتمع سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وسيكون له اليد الطولى في التأثير في جموع الشعب؛ بما يحقق آمال شعوبنا وطموحاتها، فهذا هو دوره وتلك هي مكانته المرجوة والمأمولة.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد.