رمضانٌ جديد.. على عملنا شهيد
رسالة من: أ.د.
محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه، وبعد.
لئن كان شهر رمضان في الأصل هو شهر الانطلاق والتحرر.
تحرر الروح من قيود الجسد ومتطلباته وشهواته.
تحرر النفس من قيود العادات والمألوفات.
تحرر وتطهر الإنسان من أوزار الذنوب والمعاصي التي أثقلت ظهره طيلة العام.
فإن رمضان هذا العام يأتينا وقد تحررت مصر كلها (وكل بلاد الربيع العربي) من قيود عهد بائدٍ ظالمٍ مستبد، عاث في الأرض فسادًا، وكتم أنفاس الشعوب، وكبّل الأجساد والأرواح والعقول، وكمَّم الأفواه، ونهب وبدَّد ومنع خيرات الأرض أن تصل إلى مستحقيها، وأعاق التقدم، ومنع الابتكار، ورجع بالبلاد إلى ذيل الأمم.
بعد أن كانت في طليعتها، حتى صدق فينا قول الشاعر: وتقدمتني أناسٌ كان خطوهمو *** من دون خطوي لو أمشي على مَهَلِ لقد تحررت البلاد.
وحُطِّمت القيود.
وأزاح الله بقوته وعزته وسلطانه تلك الطغمة الفاسدة المستبدة.
وأصبحنا جميعًا نتنفس نسيم الحرية وحلاوة التحرر في كل مناحي الحياة، وأصبح لنا الحق، كل الحق، أن نجهر بآرائنا دون خوف من بطش أو تنكيل، رغم أن كل الشرفاء كانوا يجهرون بكلمة الحق عند هذا السلطان الجائر ولم يخشوا في الله لومة لائم.
والآن وقد تحررت العقول لتفكر وتبتكر لإصلاح البلاد ونهضة العباد، وتحررت السواعد لتنطلق في العمل والإنتاج وإصلاح الأرض وتعميرها بعد طول ركود واستعباد، وتحرر الفكر والإرادة الوطنية لنختار بمطلق الحرية نظام الحكم وهيئاته ودساتيره وقوانينه وأفراده دون ضغط من أي قوى داخلية أو خارجية، وصرنا بحق نتنسَّم جوَّ الحرية في كل مناحي الحياة.
* حرية العيش في أمنٍ وأمان.
بلا زوّار فجر أو قوات بطشٍ كانت تقتحم علينا بيوتنا، وتختطف رجالنا وشبابنا، وتروّع أطفالنا ونساءنا بلا أي وجه لحق غير هوى الطغاة الحاكمين الظالمين الذين يبغونها عوجًا.
* حرية السفر والتنقل في داخل البلاد وخارجها.
بعدما كنا نواجَه دائمًا بكلمة (ممنوع من السفر) أو (ترقب وصول) أو (مطلوب فوري).
تلك التي كانت تمنعنا حتى العبادة بأداء فريضة الحج وأداء العمرة في بلد الله الحرام، بل وأعيد الكثيرون من المطار بملابس الإحرام، وهو أمر كان من أقسى المشاهد؛ ليس على نفوسهم، بل على كل من رأى هذا الظلم والصد عن المسجد الحرام، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.
* حرية العبادة والمكث والاعتكاف في بيوت الله تعالى.
التي كانت تغلق أبوابها في وجوه الراكعين الساجدين، وتمنع حلقات العلم ودروس المساجد، وتحظر الاعتكاف أو تقيده، أو تجمع أسماء المعتكفين المسالمين لتضمَّها إلى سجلاَّت أجهزة الأمن الرهيبة لتضعها في كشوف المشبوهين والمطاردين والمبعدين عن كل مناصب الدولة ومواقع التأثير.
( ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إلا خَائِفِينَ لَهُمْ في الدُّنْيَا خزي ولَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) (البقرة: 114) وقد حدث وعيد الله بالحق.
* حرية الأئمة والدعاة والهداة.
أن يتحدثوا إلى الشباب ويعظوا الناس ويبينوا لهم تعاليم دينهم الحنيف، وروائع عقيدتهم السمحة ويقودوهم إلى الخير والهداية دون خوف من بطش التقارير وجور المخبرين والمتجسِّسين من جهاز أمن الدولة البائد.
* حرية فعل الخير وأعمال البر ومساعدة المحتاجين.
دون اتهام أو تشكيك بأنها رشاوى انتخابية أو انتهازية سياسية أو محاولات (تغلغل) في صفوف المهمَّشين والمحرومين.
وقد تم تشكيل لجان خدمات وأنشطة من كل تيارات المجتمع وأبناء الوطن.
رجالاً ونساء.
مسلمين ومسيحيين.
شبابًا وشيوخًا.
ثمن الحرية هذه الحرية التي ننعم بها الآن، وتنعم بها كل الأوطان ما كانت لتأتي نسائمها إلا بالدماء الزكية.
دماء الشهداء الأبرار والمصابين الأحرار، وإخواننا وأخواتنا السوريين؛ الذين ما زالوا يدفعون أرواحًا ودماء ويسترخصونها في سبيل نيل حريتهم لعلمهم أنها غالية جدًّا وتستحق هذا وأكثر.
أما الشهداء.
فهم الآن: ( أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّـهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّـهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّـهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) (آل عمران : 169-171).
وأما المصابون.
فيكفيهم فخرًا وعزًّا أن تكرمهم أوطانهم وأهلوهم.
وهم أول من يسعد بطعم الحرية التي دفعوا لها ثمنها غاليًا من أجسادهم.
وهم يعلمون يقينًا أن الله تعالى بفضله وجُوده وكرمه سيعوضهم خيرًا مما قدَّموا وبذلوا: ( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ في سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّـهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (التوبة: 120-121) ويعلمون أيضًا أن الأجزاء التي فقدوها في معركة الحرية السلمية قد سبقتهم إلى الجنة.
عهدٌ جديد آن لنا الآن أن نعمر مساجد الله ونعتكف فيها للذكر والعبادة والركوع والسجود والقيام والتهجد ومدارسة العلم ومجالسة الصالحين، وفي الوقت نفسه ننطلق منها للعمل والإصلاح في الأرض، وفعل الخير والبر، وقضاء حوائج الناس: " من مشى في حاجة أخيه- قضاها الله تعالى أم لم تقض- كان خيرًا له من أن يعتكف في مسجدي هذا شهرًا "، و"خير الناس أنفعهم للناس"، وهذا معنى جديد للاعتكاف، فليس هو اعتزال الناس للعبادة، بل في هذه الصورة أفضل منها؛ لأنه اعتكاف في المسجد النبوي الشريف الذي ركعة فيه بألف ركعة.
وآن لنا الآن أن نجتمع في صلاة القيام والتهجد وحلقات القرآن لنستمع إلى كلمات الله تعالى وآياته البينات، التي كانت نعم العون لنا، والمثبت لقلوبنا، والمطمئن لنفوسنا، ونحن نخوض معارك التحرر المضنية، ونواجه المصاعب والمآزق والمكائد من كل قوى الشر في الداخل والخارج: ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ في الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (الأنفال: 26).
وشعرنا جميعًا بعظمة وعد الله وسلطانه القاهر الذي إذا أراد أمرًا أنفذه، بعد أن دعوناه دعاء المضطرين: ( أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَـهٌ مَّعَ اللَّـهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ) (النمل : 62).
عشنا هذه اللحظات ورأينا وتحققنا مِن صدق وعد الله لنا ووعيده للطغاة والظالمين، وبشريات الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وسنعيش من جديد مع كتاب الله المنير يضيء قلوبنا ويحيي أرواحنا في ظلال هذا الشهر الكريم.
نعم سيكون للقرآن طعم آخر.
ولرمضان هذا العام مذاق آخر.
في إطار نِعم الله علينا.
نعم الله التي تدفعنا إلى مزيد من الشكر والعمل.
( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِي الشَّكُورُ ) (سبأ: 13).
صيانة الحرية وفي النهاية نذكِّر بأن هذه الحرية.
تلك النعمة الكبرى.
تحتاج إلى من يدافع عنها بعد الحصول عليها لأنها ثمينة.
إلى من يحميها من مكر الماكرين وعبث العابثين وتربص المتربصين؛ لأنهم لن يستسلموا بسهولة؛ لأنهم فقدوا سلطانهم ومناصبهم ومنافعهم.
وقد أعدوا حولهم هيئة منتفعين من الكذابين والمنافقين والمرجفين في المدينة.
من أعداء الوطن في الداخل والخارج على سواء.
ومن هنا كان التوجيه الحكيم بعد ذكر العبادة والركوع والسجود وفعل الخير.
إلى الجهاد والكفاح لحماية الدين وحراسة الدنيا ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا في اللَّـهِ حَقَّ جِهَادِه ) (الحج : 77- 78).
ودائمًا كان رمضان شهر الجهاد والكفاح.
شهر العزة والانتصار.
فيه كانت موقعة (بدر الكبرى 2 هـ) وكان (فتح مكة 8 هـ) وكانت (عين جالوت 658 هـ).
وأخيرًا كانت حرب رمضان (أكتوبر 73) التي كانت بالنسبة لأجيالنا علامة فارقة لارتباط النصر والتمكين مع العودة للعلم والإيمان والدين.
ولا ننسَى ونحن نعيش نعيم الحرية ونسائمها أن نذكر إخواننا المجاهدين في سوريا الحبيبة، وكذلك إخواننا المستضعفين والمضطهدين في فلسطين وكشمير وبنجلاديش وبورما وكل بقاع الأرض.
نسأل الله تعالى أن ينصر المجاهدين، وأن يحطم الطغاة الظالمين ببركة الدعاء في هذا الشهر الكريم، لتنعم هذه البلاد بنعيم الحرية وتحطيم القيود، والانطلاق في آفاق الإنتاج والإبداع، ولعل الله تعالى يأتينا بآيات النصر مع دعاء المخبتين الطائعين الصائمين القائمين في رحاب هذا الشهر الكريم: ( وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّـهِ بِعَزِيزٍ ) (إبراهيم: 20).
( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّـهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّـهِ لَا يُخْلِفُ اللَّـهُ وَعْدَهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (الروم: 4-6).
والله أكبر ولله الحمد القاهرة في: 22 من شعبان 1433هـ الموافق 12 من يوليو 2012م