معركة التحدي بعد رمضان
رسالة من : أ.د.
محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد.
لقد انقضى شهر رمضان فودعناه وداع الحبيب المفارق، على أمل أن نلقاه بشوقٍ بعد عامٍ أو أقل من عام، وقد ذقنا حلاوة رمضان هذا العام كما لم نذقها من قبل، بعد أن منّ الله علينا بنسيم الحرية يعم البلاد فينعش العباد وينشر البركة، ويطرد الفساد ويطهر الأرض من رجز عهود مضت كادت تقضي على أمتنا وتشتت وحدتنا وتبدد جهودنا وقدراتنا.
وقد كنا أحوج ما نكون إلى رمضان هذا العام، حين جاءنا ليجمع الأمة كلها في صعيد واحد، يذكرها بهويتها ويعرفها بأصالتها وعراقتها، بعد أن حاول المناوئون والحاقدون (وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة: 32) متشاكسين متنازعين مختلفين بعد أن قسّموا الشعب الواحد إلى مسلمين وأقباط، ثم إسلاميين وغير إسلاميين، ثم قسّموا الإسلاميين إلى إخوان وسلفيين وصوفيين وجهاديين فرقًا وجماعات، وقسّموا غير الإسلاميين إلى ليبراليين وعِلمانيين وتقدميين ووطنيين وثوريين، وحاولوا أن يميزوا بين المدنيين والعسكريين، وذهبت كل فرقة تنازع الأخرى وكادت تتحقق فينا آمال أعداء الثورة أن يجعلوها شيعًا وأحزابًا، وهي نفس وسائل الشيطان في كل زمان ومكان والتي تتبعها كل القوى المناوئة للإسلام والمسلمين " إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ " (القصص: 4) وتقَطّعُوا أُمَمَا، فكلُّ قبيلةٍ فيها أميرُ المؤمنينَ ومنبرُ.
جاء رمضان ليذكّرنا بقول الله تعالى: " وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ " (المؤمنون: 52) ويذكرنا بهويتنا " هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ" (الأنبياء: 78) ويدعونا إلى وحدة الصف وتوحيد الجهود وتآلف القلوب " وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا" (آل عمران: 103) فكان نظامًا غذائيًّا وعباديًّا واحتفالاً بالقرآن يشترك فيه كل المسلمين في كل أنحاء العالم لتوحيد المشاعر والشعائر.
جاء رمضان ليقوي عزيمتنا ويُدّعم إرادتنا ويرفع مستوانا في مدارج الصلاح والتقوى، ليعلمنا كيف نصبر على الشدائد ونتحدى الصعاب، وكيف نقاوم الإغراءات والشهوات والنزوات، وكيف نتطلع إلى عظائم الأمور ونترفع عن سفاسفها.
وكل إنسانٍ صادقٍ حازمٍ، أخذ الأمر بجدٍ وعزم، وأحسن عبادة ربه في هذا الشهر الكريم، فيشعر أنه في نهاية الشهر قد صار أفضل بكثير من بدايته.
أخي المسلم.
أختي المسلمة.
لا بد أن تشعر الآن أنك أقوى في إيمانك بعد رمضان.
أرقى في أخلاقك.
أسمى في سلوكك.
أكثر صمودًا وأقوى مناعة في مقاومة الأهواء والنزوات والشهوات.
وأقدر على بذل الجهد وإحسان العمل وتقديم الخير والنفع لكل الناس لنهضة الأمة ورفعة الوطن.
باختصار أنت الآن: • أقرب إلى الله تعالى.
• أقرب إلى حبيبه (صلى الله عليه وسلم).
• أكثر معرفة وحبًّا للقرآن الكريم.
• أقدر على العبادة بل إحسان العبادة.
• أقدر على فعل الخير وبذل الجهد والجهاد في سبيل الله.
• أقدر على الانتصار على الشيطان ومواجهة مداخله "الشهوات والشكوك والشبهات".
فكيف تحافظ على هذا الرصيد الضخم والإنجاز العظيم؟ • لقد صمت الثلاثين يومًا متصلة.
فلا تحرم نفسك من صوم ثلاثة أيام من كل شهر أو الإثنين والخميس أو يومًا في الأسبوع، بعد صيام ستة أيام من شوال، فهذا دليل حبك لله وحبك لتكليف الله "ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ".
• لقد حرصت على قيامك بصلاة التراويح والتهجد.
ركعات كثيرة.
فلا تحرم نفسك الآن من ركعتين في جوف الليل، هما خير من الدنيا وما فيها كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وسلم.
• لقد حرصت على صلاة الجماعة في المسجد وتعودت على صلاة الفجر.
وذقت حلاوتها فلا تدعها طوال عمرك.
فصلاة الفجر في المسجد تجعلك في كنف الله تعالى وحمايته سائر يومك " من صلى الفجر فى جماعة فهو ذمة الله"، "أثقل صلاة على المنافقين صلاة الفجر والعشاء ولو علموا ما فيهما لآتوهما ولو حبوا"، "بشروا المشائين إلى المساجد في الظلام بالنور التام يوم القيامة ".
• لقد أكثرت من الدعاء في رمضان، خصوصًا وقت الإفطار.
فكن دائم الذكر والدعاء في جميع أوقاتك وأحوالك، وأثناء كل أنشطتك وأعمالك، لتشعر بالقرب الجميل من الرب الجليل سبحانه " وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ" (البقرة: 186)، "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ" (النمل: 62)،" فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ" (البقرة:152)، وأكثر من الدعاء لإخوانك المستضعفين في سوريا وبورما وكشمير وفلسطين وسائر بلاد المسلمين حتى يمنّ الله تعالى عليهم بالنصر المبين.
• لقد اعتكفت في المسجد في رمضان بضعة أيام، أو على الأقل ليلة القدر فاجعل قلبك معلقًا بالمساجد كلما أتيحت لك الفرصة، فمن السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله، "رجلٌ قلبه معلق بالمساجد" وتفقد أصحابك في الاعتكاف، فما كان لله دام واتصل.
• ولقد قدمت زكاة مالك وزكاة الفطر والصدقات فاجعل يدك دائمًا ممدودة لكل محتاجٍ عفيف، واجعل من قوتك عونًا للضعيف، ومن فكرك وإبداعك وجهدك عونا لأمتك (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2).
• إن الجندي إذا ترك التدريب تفوق عليه عدوه، والرياضي إذا ترك التدريب خارت قواه وترهلت عضلاته وضعف مستواه.
فلا تدع "النوافل" بعد إتقان الفرائض واجعلها جميعًا زادك في طريقك إلى الله " ما تقرب إلى عبدي بشيء أحبّ إلى مما افترضته عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبه ".
واعلم أنك بتقواك لله أقوى، وباعتصامك بالله أقدر، وبذكرك الدائم لله أوعى، وبجهودك أقرب إلى دحر الشياطين ودعم وحماية البلاد والعباد من شرورهم "الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا" (النساء: 76).
واحذر من شياطين الإنس والجن بعد ما أذن الله بفك قيودهم التي صفدتهم في شهر رمضان.
وهم يحاولون الآن الانتقال بالوساوس والإغراءات والشهوات والشكوك والشبهات وتثبيط الهمم.
فأرهم من نفسك قوة وعزمًا وصمودًا ومقاومة، بل هجوما واستعلاء " إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ" ( فاطر: 6).
فإلى المزيد من القرب والعبادة والاستقامة وبذل الجهد " وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ " (البقرة: 197).
والله أكبر ولله الحمد.
القاهرة في: 12 من شوال 1433هـ الموافق 30 من أغسطس 2012م