ثوابت في أفق الثورات الشعبية
رسالة من: أ.د.
محمد بديع- المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله الأمين، ومن والاه، وبعد.
في أفق الثورات الشعبية التي أزالت عروش الاستبداد والظلم تحديات جمة تحاصرها، خاصةً من بقايا الذين شبوا على الفساد؛ ففي الوقت الذي بدأت فيه الشعوب تتعافى، وتصنع مستقبلها بيديها، وتتفق على دستور يجعلها تحقق الأهداف التي من أجلها قامت الثورات وسالت الدماء، ما زالت أرواح الشهداء التي صعدت ولا تزال تصعد إلى بارئها تشكو الظلم والقتل الجماعي، وما زالت الجراحات والإصابات تشهد على حاجة الشعوب الملحَّة في تجنب أوطانها الفساد والاستبداد وهي في عهدها الجديد؛ الذي من أجله قامت بثوراتها المجيدة، وهي على استعداد- وبإصرار- أن تستمر في هذا النضال مهما كانت التضحيات لأنها تستحق وللحريةِ الحمراءِ بابٌ .
.
.
بكل يد مضرَّجة يدق دعوة إلى التوافق.
إن ما يفرضه الواقع اليوم من تحدياتٍ، وفي الوقت الذي تتسارع فيه المتغيرات، تبقى الهموم والآمال والآلام وحاجات الشعوب تشكِّل طلبًا ملحًّا لها في الحياة الكريمة، والمستقبل المشرق، ولن يتحقق ذلك إلا باتفاق جميع الوطنيين، خصوصًا المثقفين والمفكرين والشباب والمرأة والعمال والفلاحين؛ تعبيرًا عن التوافق والاصطفاف.
( وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ) (آل عمران: من الآية 16)، وهذا ما نراه من واجب الوقت الراهن، بإعلاء مصالح الوطن، ونبذ الخلافات الحزبية والمصالح الشخصية جانبًا؛ من أجل العبور نحو التنمية والنهضة والبناء، مصداقًا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: " لو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها " (رواه الإمام أحمد)، ومعروف أن الفسيلة فسيلة النخل أي التي تثمر بعد عشر سنوات على الأقل.
إن ما تشهده الساحة السياسية اليوم من توافق على المشاركة في صناعة مستقبل مصر، بدستور يعبر عن جميع المصريين، من فصائل المجتمع المختلفة، وبتوافق من قبل كل القوى السياسية، قبل عرضه على الاستفتاء الشعبي، ينمُّ عن حالة من حالات التحول الديمقراطي والسياسي، تحتاج إلى رعاية مستمرة، مع تغليب مصلحة الوطن؛ الأمر الذي يحتاج إلى أمرين: توحيد الوجهة وإخلاص القصد، يقول تعالى: ( وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ .
.
) (البينة: من الآية 5)، والالتفاف حول الثوابت الوطنية التي تجمع أبناء الوطن الواحد، في سفينة واحدة، تشهد البشرية بأنها لم تر عدلاً إلا في ظلالها، يقول تعالى: ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (النحل : 90).
هذا التحول اليوم في لمِّ الشمل- كما أجمع المحللون- هو اختبار حقيقي في حب مصر، وامتحان للجميع في إخلاصهم للوطن، لا تعود ثماره على مصر والحفاظ على ثورتها، بل ضرورة عربية ملحَّة في عودة أرض الكنانة إلى تبوؤ موقعها القيادي في ظل تلاطم الأحداث في المنطقة وتكاثر التهديدات على أمنها، خاصة أمام مأساة الشعب السوري الذي يتعرض لمذابح يومية من نظام جائر، تجاوز كل الحدود، ومشروع صهيوني لم يهدأ ولم تتوقف جرائمه في فلسطين، وإنما وصل الأمر إلى توجيهه ضربات لمقومات السودان بعد التآمر على تقسيمه، ممثلاً في تدمير مصنع سوداني، على مرأى ومسمع من العالم الصامت على إجرامه وطغيانه.
هوية الأمة.
من الثوابت في أفق الثورات الشعبية وهي تشهد عهدًا جديدًا في صناعة هذه المرحلة التي ينتظرها العالم، إعادة وعي الأمة وتحقيق فهم شامل للإسلام.
الإسلام الذي يهتم بالجانب الفردي على مستوى السلوك الأخلاقي والعلاقات الاجتماعية، وهو ذاته الإسلام الذي يحقق حضورًا واضحًا في الساحة اليوم.
يقول تعالي: ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام: 162)، رغم المحاولات المستميتة لإقصاء هذه الهوية التي امتزجت بدماء المصريين جميعًا، وتشحذ هممهم وتذكي روح التحدي، في اختيار الإسلام بخصوصيته الحضارية القادرة على تقديم الإسلام كخيار حضاري يمكن أن يفوق كل الأنظمة البديلة، في كل الجوانب خاصةً في المحتوى الذي يُعبِّر عن قيم الإسلام من نصرة المستضعفين والمحرومين ونجدتهم والوقوف مع المظلوم أينما كان، ومواجهة كل أنواع الطغيان والاستبداد في الأمة؛ هذه الهوية الواضحة هي التي أكسبتها ميزة المبادرة والصمود والشعور بالمسئولية.
يقول تعالى: ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) (آل عمران: من الآية 110).
واجب الشعوب اليوم: آن الأوان ووجب على الجميع تحمل مسئولياتهم لمواجهة التحديات، والمشاركة في التنمية، والانتقال إلى ميادين العمل والإنتاج والإبداع، وها هو ذو القرنين يقول للأمة شاركوني في حمل المسئولية وفي بناء النهضة وإقامة السد: ( آتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ حَتَّى إذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ) (الكهف: 96)، ثم أيضًا تم وضع وسيلة اختيار لجودة السد؛ هم الذين سيقومون بهذه المهمة ليتأكدوا من سلامة السد الذي أقيم لحماية الأمة من أخطار تهديدها.
( فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ ومَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ) (الكهف: 97)، فالمستقبل المنشود من خلال العمل، والجميع شركاء لحماية هذه الثوابت أولاً، وتجنب دخول أي طارئ ثانيًّا، يبعدنا عن ترسيخ الهوية الوطنية بجميع مكوناتها، والتي يجب أن ترتكز على الاستقرار والنهضة والوحدة.
- آن الأوان في ظل هذه الدعوة إلى التوافق لمشاركة فعلية من كل الأطياف في إنهاء ملف الفساد، الذي يحتاج إلى إرادة سياسية وإجراءات حكومية سليمة، بخارطة طريق، وصراحة مطلقة، وشفافية واضحة، فالأمة مستهدفة، وقد توحد عليها أعداؤها.
- آن الأوان لإعلان تطهير حقيقي وملموس، يفرز قيادات حقيقية لمواجهة التحديات بعيدًا عن خطايا الأنظمة البائدة، التي تجذرت وتعمقت في المجتمع، وهو الأمر المتفق على تنفيذه بشكل فوري من كل الشعوب.
- آن الأوان في المحافظة على الهوية الوطنية الواحدة، وهي الهوية الإسلامية التي تدعو إلى الصدق والأمانة والوفاء بالعهود والوعود، بل غرس استقلالية الهوية في الأجيال الناشئة، والاعتزاز بها.
- آن الأوان لأن نعمل يدًا واحدة وقلبًا واحدًا لنكون أهلاً لأن يتنزل علينا نصر الله وتأييده، في حياة آمنة مستقرة لمصرنا الحبيبة، ولأوطاننا وشعوب أمتنا المسلمة؛ تحقيقًا لوعد الله عز وجل بعد الأخذ بالأسباب ليرزقنا من حيث لا نحتسب.
( ولَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ) (الأعراف : 96).
والله أكبر ولله الحمد، والحمد لله رب العالمين.