الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

 تحديات حقيقية تواجه الأمة (رسالة الأسبوع)

تحديات حقيقية تواجه الأمة (رسالة الأسبوع)

رسالة من: أ.
د.
محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين   الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد.

  فلقد منَّ الله على أمتنا العربية والإسلامية بنجاح ثورات الربيع العربي بفضل كبير منه سبحانه، وظنَّ البعض أن مجرد إسقاط رءوس الأنظمة الفاسدة والإطاحة بهم أو سجنهم سيكون بداية عهد جديد لنهضة البلاد وإصلاح ما أفسده الظالمون عبر سنوات حكمهم.
  ولكن الحقيقة الواضحة أن هناك تحديات جسيمة وعقبات كؤودًا ما زالت تواجه الأمة؛ لتنال حريتها وتسير في طريق نهضتها وتحقيق آمالها.
  إن إسقاط الأنظمة الفاسدة المفسدة مجرد خطوة على الطريق الصحيح، ولكن هناك خطوات عديدة ضرورية وواجبة لتحقق الثورات أهدافها الحقيقية وتنتصر لشعوبها.
  وأول هذه الخطوات وأهمها على الإطلاق مواجهة التحديات العديدة التي تواجهها وتعترض طريقها، بل وتهددها بصورة مباشرة، ومن أهم هذه التحديات:   أولاً: محاولة إعادة إنتاج النظم السابقة   إن أذناب النظم السابقة لم ييأسوا بعد، ويبذلون الكثير من الجهد والأموال المنهوبة من قوت الشعوب لحماية مصالحهم وما تحصلوا عليه من ميزات عبر سنوات الحكم السابقة؛ فهم لا يدَّخرون جهدًا لمحاولة إعادة إنتاج النظم التي تربوا في كنفها وتربحوا منها؛ لأن فيها مستقبلهم وحماية مصالحهم، واستمرارًا لمسلسل الفساد الذي عاشوا في كنفه.
وهم يوظفون في سبيل ذلك كل طاقاتهم البشرية والمالية والإعلامية، ويسلكون كل الطرق غير المشروعة من بلطجة وتعطيل للأعمال والمصالح وقطع للطرق، وغيرها من وسائل يرفضها جميع المواطنين الشرفاء، ويهدفون من وراء ذلك إشاعة الفزع والرعب في نفوس المواطنين؛ ليترحَّموا على أيام النظم السابقة (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال: 30).
  كما أنهم يندسون في صفوف بعض المعارضين الشرفاء ويخدعونهم بمعسول الكلام وكثرة الإنفاق من المال الحرام؛ ليفرِّقوا بينهم وبين شركائهم الحقيقيين في مقاومة الظلم والفساد قبل الثورات وحتى إسقاط الظالمين، وهذا ليس حبًّا فيهم ولا رغبةً في نهضة أوطانهم، ولكن لإعادة استنساخ وإنتاج نظم أسيادهم وأولياء نعمهم عن طريق نظريات "فرِّقْ تَسُد" و"الغاية تبرِّر الوسيلة"، وتناسوا قول الله تعالى: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) (فاطر: 43).
  ثانيًا: تشتيت الجهود إن ما تحتاجه أوطاننا منا الآن هو وحدة الصف والجهود، ولأن نتفق على الصواب خير من أن نختلف على الأصوب، فتشتُّت الجهود يصبُّ في صالح أعداء الثورات ويساعدهم لتحقيق مآربهم المشبوهة، ويعينهم على الالتفاف على الثورات والانقضاض عليها، كل ذلك بسبب ما حذَّر منه الصادق المصدوق "دنيا مؤثرَة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه"، وصدق الشاعر حين قال: نحن نجتاز موقفًا تعثر الآراء فيه       وعثرة الرأي تُرْدي فإذا خلصت النوايا وتوحَّدت الجهود وتضافرت الطاقات وانتهجنا سبيل العمل الجماعي للصالح العام، وسِرْنا وفق منظومة العقل الجمعي بحيث نستفيد من كل العقول والأفكار والأطروحات لإنجاز الهدف المحدد؛ نعرض الرأي ولا نفرض الرأي، لتغيرت أوطاننا للأفضل ولأنجزنا أهداف ثوراتنا في أقرب وقت، وليكن شعارنا جميعًا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103).
ثالثًا: محاولة هدم الشرعية هناك أيادٍ خفية تعمل بليل تحاول هدم ما يُبنى من مؤسسات منتخبة لرغبة في أنفسهم للنيل من استقرار البلاد وتقدمها وإعادة بناء مؤسساتها المنتخبة؛ فهم يريدون إحداث حالة من الفراغ الدستوري والتشريعي لإرباك المشهد السياسي ومتخذ القرار؛ لتظهر صورة غير حقيقية عن الشعوب وإدارتها لشئونها عبر ممثليها المنتخبين، ولإطالة أمد المرحلة الانتقالية وما يترتب عليها من تأثير مباشر على الوضع السياسي عمومًا والاقتصادي خصوصًا.
    إن أولى خطوات إعادة بناء الأوطان إنما يكون بصنف من الرِّجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه، ثم بناء المؤسسات الشرعية المنتخبة المعبرة عن شعوبها وطموحاتهم وآمالهم، ودعم هذه المؤسسات لتقوم بدورها المنوط بها.
      أما محاولات البعض لهدمها وتشويهها والتقليل من شأنها فهي خطوات للهدم لا البناء، وللعودة للوراء لا للتقدم للأمام، ويصدق فيها قوله تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا) (النحل: 92).
رابعًا: محاولة إهدار إرادة الشعوب هناك محاولات غير خافية على أحد لإهدار الإرادة الشعبية وعدم النزول عليها، بل وفي بعض الأحيان تسفيهها، وهذا يتنافى مع أبسط قواعد الديمقراطية التي تعتبر الشعب مصدر السلطات، وأنه لا صوت فوق صوت الشعب، فنجد البعض يحتكر الحديث باسم الشعب ومصالحه وهو أبعد ما يكون عن ذلك، فهو غير معايش للشعب ولا يدرك مطالبه الأساسية ولا مشاكله الجوهرية، ويعمل ضدَّ كل مصالح الشعب الحالية والمستقبلية، فمن الذي يبني مؤسسة مجالس منتخبة، ومن الذي هدمها، وما زال يحاول هدمها، ولن يمكِّنه الله عز وجل، ثم أيضًا لن يمكِّنه الشعب المستيقظ الحر المستنير.
    إن محاولات القفز على خيارات الشعب وفرض الوصاية عليه تحت دعاوى مشبوهة لن تنطلي على الشعوب الواعية والتي أثبتت أنها أوعى بكثير من بعض من يطلقون على أنفسهم اسم النخبة؛ فالشعوب تدرك مصلحتها وتعلم جيدًا من يعمل لمصلحتها ومن يعمل لمصالحه الخاصة، ويهدر إرادة الشعوب وخياراتها لأغراض في نفسه، ويمارس دكتاتورية الأقلية ويأبى القبول بالصندوق الانتخابي كمعبِّر حقيقي عن إرادة الشعوب.
  خامسًا: تعطيل الاستثمار إن مناخ الفرقة والشقاق والتنازع والخلاف لا يمكن أن يكون مناخًا صحيًّا للاستثمار أو داعمًا له، فأجواء الإضرابات المستمرة والاعتصامات المتتالية والاعتداءات على المصالح وتعطيل الإنتاج وقطع الطرق هي عناصر طرد للاستثمار لا عناصر جذب.
وهي عكس ما نريد تمامًا، بل مخالفة وعصيان لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدحه لليد المنتجة "هذه يدٌ يُحبُّها الله ورسوله" ، وعن إماطة الأذى عن الطريق " صَدَقة " وليس وضع الأذى في الطريق، فبعد الثورات المباركة نحن نريد المزيد من الاستثمارات الحقيقية التي تنهض بالبلاد اقتصاديًّا، وتزيد من فرص العمل وزيادة الإنتاج، وتُدِرّ دخلاً قوميًّا حقيقيًّا.
وأي تحرك غير محسوب ولو بمجرد إطلاق إشاعة سيؤثر على الاستثمار سلبًا، فهل هذا ما يريده المخلصون والثوار الحقيقيون؟! أم أن هناك من يحاول أن يضرب الاقتصاد القومي لتهرب الاستثمارات وتزيد المشكلات فتكفر الشعوب بالثورات وتيأس من التغيير والتقدم؟!   سادسًا: تهديد الجبهة الداخلية   إن البعض بكل أسف لا يدرك الفرق بين خلاف التنوع الذي يُثري الآراء ويطرح الرؤى والأطروحات وينضج الحلول والبدائل، وبين خلاف التضاد الذي يفرق ولا يجمِّع ويُوغر الصدور ويهدر الطاقات؛ مما يؤدي لاستخدام بعض الوسائل أو حتى لطرح بعض الآراء التي تهدد الجبهة الداخلية للبلاد وتضرب في الصميم وحدتها الوطنية؛ فبماذا نفسِّر مثلاً طلب بعضهم التصويت التمييزي في الانتخابات؛ بحيث يكون للمتعلم صوت وغير المتعلم نصف صوت أو يمنع من التصويت؛ أليس في ذلك إهدار لأبسط حقوق المواطنة التي يتشدق بها البعض؟! كما يحاول البعض اللعب على وتر البعد الديني والطائفي وإقحامه في معترك الخلاف السياسي وهو ما من شأنه تعقيد الأمور، بل وخروجها عن السيطرة؛ لذا فيجب على الوطنيين المخلصين البُعد عن إقحام مثل تلك الأطروحات الفاسدة التي تسمم الأجواء و تهدد الاستقرار.
  سابعًا: أذناب النظم السابقة ما زال بعض أذناب النظم السابقة يحيكون المؤامرات والدسائس للنيل من استقرار البلاد؛ ظنًّا منهم أنه بإمكانهم إفشال الثورات والالتفاف عليها وتفريغها من مكتسباتها؛ لأنهم يدركون أنهم لا يمكن أن يعملوا في أجواء نظيفة وصحية في ظلّ أجواء الحرية والشفافية.
فمكاسبهم تنمو في ظل الفساد والإفساد والأجواء الموبوءة، وشياطين الإنس والجنّ يتعاونون في الفساد والإفساد في كل زمان ومكان حتى في مواجهة الأنبياء، ولكن قدر الله غالب ولكن أكثر الناس لا يعلمون (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (الحج: 52).
  لذا يجب الأخذ على يد هذا البعض ومحاسبته وعدم ترك المجال لهم ليفسدوا في الحياة العامة وليس السياسية فقط؛ فهم يسمِّمون الأجواء بإنتهاجهم سبل البلطجة والقتل واستخدام السلاح في الخلاف السياسي، ويعيثون فسادًا في معظم مفاصل الدولة الإدارية.
وهذا تحدٍّ كبير يجب مواجهته بحزم وبإرادة شعبية واعية وإدارة سياسية حازمة وسبل قضائية ناجزة.
  ثامنًا: التحديات الخارجية لا يخفى على أحد حجم التحديات الخارجية التي تواجهها الثورات العربية عمومًا والثورة المصرية خصوصًا؛ فمصر العظيمة مستهدفة من عدة جهات وعلى عدة جبهات لا يمكن إغفال خطوراتها، فالعديد من القوى الدولية والإقليمية تتربص بمصر ولا تريد لها تقدمًا ولا رخاء ولا استقرارًا؛ إذ إن إضعاف مصر كما حدث في الماضي إضعاف للأمة العربية ومكانتها ودورها، وأيضًا بنهضة مصر تنهض الأمة كلها وبقوتها ستقوى وستُدْعَم جميع قضايا أمتنا، كما رأينا في الفترة القصيرة الماضية من رفعة شأن مصر والأمة العربية في كل المحافل وكل القضايا؛ لذا يحاول البعض جاهدًا إعاقة تقدم الثورة المصرية مهما كلفه من مال وجهد، وتناسى هؤلاء أن مصر عصية على التبعية وعلى التطويع، وأنها أكبر من أي قوة أقليمية كانت أو دولية، برجالها ونسائها وعلمائها وقادتها وقوتها الناعمة وثرواتها الطبيعية، وبجميع المقومات التاريخية والجعرافية المحققة لذلك.
  تاسعًا: رسالة للشعب المصري أيها الشعب المصري الكريم.

أنت الآن محط الأنظار ومهوى الأفئدة وأنت صاحب القرار وسيده، وأنت مضرب الأمثال في العالم كله بعد ثورتك المباركة.
فعليك بالوحدة والتماسك وإعلاء راية الحرية والكرامة والعزة، واتخذ قراراتك المصيريَّة وفق ما يمليه عليك ضميرك؛ فالوطن وطننا جميعًا ونهضته نهضتنا جميعًا، فلنتكاتف ونتمسك بالشرعية وبضرورة استكمال بناء المؤسسات المنتخبة لنهضة بلادنا واستقرارها وتقدمها، وسيقف الخلق جميعًا ينظرون كيف نبني كما بنيت قواعد مجدك وحدك.
  ولنبنِ الوطن بمسئولية حقيقية ولنحتكم لإرادة الشعب ونعليها ونعظمها ولا نقفز أو نلتف عليها، ولننبذ العنف والتخريب والدمار، فالخلاف السياسي قائم ووارد وصحي وهو دافع للتقدم، ولا مجال فيه لاستخدام العنف أو البلطجة أو الأسلحة أو القتل والتدمير والسرقة وترويع الآمنين، أو الدعوة للفوضى وتعطيل مصالح الشعب.
  إن التاريخ هو الحكم على جميع الأطراف بتصرفاتهم وقرارتهم وأعمالهم، ولن يرحم من يفرط في حقوق الشعب ومكتسباته أو من يبذر بذور الفرقة والشقاق بين أبناء الشعب الواحد، أو من يثير النعرات الطائفية أو العرقية والطائفية بين أبناء الوطن الواحد، أو من يحاول الاستقواء بالخارج لتمرير قناعته الواهية التي لفظها الشعب، وسيذكر التاريخ أيضًا من انحاز للشعب وخياراته وعظَّم إرادته وضحَّى في سبيل حريته ونهضته والمحافظة على مكتسباته بأغلى ما يملك.

(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) (غافر: 44)، (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88).
  وصلَّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والله أكبر ولله الحمد                                                            القاهرة: 29 من المحرم 1434هـ، الموافق 13 من ديسمبر 2012م.