رابعة.. رمز الفداء ومشعل الأمل
بسم الله الرحمن الرحيم
” وَعَسَىٰٓ أَن تَكْرَهُواْ شَيْـًٔا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰٓ أَن تُحِبُّواْ شَيْـًٔا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ “
يقول الإمام حسن البنا: (ولكنها – أي المحن والعقبات – تمر بكم مرا رفيقا رقيقا، يقوي ولا يضعف، ويثبت ولا يزعزع، وينبه ولا يوهن، ويزيدكم بنصر الله إيمانا، وبرعايته ثقة: لأنكم لكلمته تنطقون، ولدعوته تعملون، فأنتم لذلك على عينه تُصنعون” وَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا “ (سورة الطور 48 الآية).. ومن هنا كانت واجباتكم أكثر الواجبات، وكانت تبعاتكم أثقل التبعات.
لم ولن ننسى
تسع سنوات مضت على هذا اليوم الحزين في تاريخ مصر الذي اكتسى بلون الدم، واتشح بالسواد، وصُدمت مشاعر الملايين من المصريين، والمليارات من الناس حول العالم بإهدار كل القيم الإنسانية والمواثيق الدولية.
ففي يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر أغسطس 2013م، 07 شوال 1434 ه وفي ساعات معدودة، وعلى مرأي ومسمع من العالم عبر البث المباشر، قامت قوات النظام - الذي أجهض مسار الديموقراطية في مصر- بفض أرقي الاعتصامات وأكثرها تحضرًا في ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر بمدينة القاهرة بأبشع الوسائل، حيث قتلوا المئات بدم بارد، وجرحوا الآلاف، وأحرقوا خيام الاعتصام على من فيها، وأشعلوا النيران في الجثث، وجرفوها بالجرافات، ونقلوها إلى مقابر جماعية في أماكن غير معلومة، لإخفاء معالم الجريمة النكراء.
لقد كانت مذبحة رابعة هي جريمة القرن بالفعل كما وصفتها منظمات حقوقية دولية، تتشابه في ذلك - بل تتفوق أحيانًا- على مذابح عالمية أخرى مثل مذبحة صابرا وشاتيلا للفلسطينيين في لبنان عام 1982، ومذبحة الميدان السماوي في بكين عاصمة الصين عام 1989، وبعدها مذبحة سربرنتسا في البوسنة والهرسك عام 1995، ومذابح الهوتو والتوتسي في رواندا منتصف التسعينات، وكلها مذابح لا تزال حية في الضمير الإنساني العالمي رغم مرور عقود عليها، فالأرض لا تشرب الدماء، والذاكرة الإنسانية لن تنسى تلك الدماء التي سالت دفاعًا عن الحق والكرامة والحرية للجميع.
رابعة.. مضرب المثل ومشعل الأمل:
لقد كانت الصدمة مروعة، والحدث كبيرًا، فانتفضت ميادين مصر والعديد من العواصم اﻹسلامية والأوربية على مدار شهور عدة، وخرج الملايين من المصريين في جميع أنحاء مصر للتضامن مع المعتصمين، ورفض هذا العنف في معاملتهم؛ فعوملوا بنفس القسوة، وارتقي المزيد من الشهداء في كل محافظات مصر؛ ليكون لكل بقعة من أرض الكنانة نصيبها من عطر دم الشهادة، ولونه القاني، ويخيم الحزن على كل بيت في مصر من أقصاها إلى أقصاها.. وتركت- وما تلاها من أحداث - في قلوب شهودها جرحًا عميقًا، وفي نفوس معاصريها لوعة وحرقة على من قضوا فيها شهداء، أو خرجوا منها مصابين أو معاقين، أو غُيِّبوا في غياهب السجن والاعتقال، أو تفرقوا في أرجاء الأرض مشردين ومطاردين ...
كان هذا هو الوجه المؤلم لهذه الأحداث الدامية... ولكن يظل لرابعة وما بعدها من أحداث وثبات وصمود وجه آخر ... هو هذه اللوحة البديعة التي رسمها الشهداء بأرواحهم ودمائهم الزكية، يتقدمهم الرئيس الشهيد الدكتور محمد مرسي، والقدوة والمثل الأعلى الذي اختطه الصامدون والصامدات في سجون العسكر، وفي الطليعة منهم المرشد الصابر الدكتور محمد بديع وإخوانه؛ بما أبدوه من نماذج حية للتمسك بالحقوق والدفاع عنها.. مدافعين فيها عن أحلام الشعب المصري وطموحاته وشوقه للحرية.
إنها الملحمة التي جسدت الصمود والأمل والحرية في آن واحد، والعيون ترنو إلى هذه الرموز العالية الثابتة بكل عزة وكرامة ... الذين سقوا غرس الحرية بدمائهم وأرواحهم، مؤملين في نصر الله وعونه.. فيقيننا الذي لا ريب فيه.. أن هذه الدماء وهذه التضحيات لن تضيع هدرًا، وكلنا ثقة في الله أن كل من استهان بدعاء الصالحين بالأسحار، واستغاثتهم بالعزيز الجبار سيدفعون ثمن جرأتهم على الله، واستهانتهم بقوته، وعدوانهم على أرواح عباده، ولكن الله تعالى لا يعجل بعجلة الناس، وكل شيء عنده بمقدار، وكل شيء يجري وفق تقدير حكيم، وسنة ماضية، وقانون محكم..
ومع ذلك فإن الحقوق المهدورة، وتلك الممارسات التي هي ضد الإنسانية لا تسقط بالتقادم، وستظل جهود الملاحقة القانونية قائمة ما دام قانون أو عدالة.
أما المعتقلون فإن قضيتهم هي همنا الأول الآن، ونحن مستعدون دوما للتعاطي بإيجابية مع أي مبادرة او فكرة تقود لتحريرهم، وحين نطرح من ناحيتنا بعض الأفكار أو المبادرات التي لا تمس بثوابتنا، نستهدف بها حلحلة المشهد السياسي بما يسمح بإطلاق سراح المعتقلين، وإعادة الحقوق لأصحابها، وإنهاء الاستبداد، واستعادة المسار الديمقراطي للبلاد.
عهد وبذل وثبات
سيأتي النصر لا محالة بعد أن ينتبه الغافلون، ويفيق المغيبون، ويعود إلي الحق كل من فيه مثقال ذرة من الخير، وسينكشف ما دونه فلا يبقى من سوأته شيء مستور.
سيأتي النصر بإذن الله بعد أن يستفرغ المؤمنون وسعهم ويخلصوا التوجه لله وحده يستمدون منه العون والمدد.
يا أبناء الوطن ...
كنا وسنستمر ضد تقسيم وتمزيق المجتمع، وتقسيم البيت الواحد والعائلة الواحدة، لأن ذلك لا يخدم سوى الاستبداد، ولذا فمن واجبنا مواجهة هذا الانقسام، بكل الوسائل الدعوية والسياسية والاجتماعية الممكنة، فنحن شعب واحد، وسنظل هكذا حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
إننا نؤكد أنه لا يضيع حق وراءه مطالب، وأصحاب الحقوق دوماً مرفوعو الرأس ولو علا من يواجههم...
وإن الاستمرار في بذل الجهود لإعادة الوطن إلى جادة الصواب الاجتماعي والنفسي والاقتصادي والسياسي هو من أولويات من يعمل بحب لهذا الوطن، وإننا في جماعة (الإخوان المسلمون) دائما نبني ولا نهدم، وما قدمنا كل هذه التضحيات إلا بحبنا له وبذلنا الجهود في بنائه، فجميعنا أبناء الوطن، وكلنا يجب أن نعيش آمنين على ترابه، أحرارًا كرامًا، وللجميع حقوقًا مصانة.
وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ
والله أكبر ولله الحمد
إبراهيم منير
نائب المرشد العام لجماعة (الإخوان المسلمون) والقائم بالأعمال
السبت 15 محرم 1444هـ - 13 أغسطس 2022م