مولد النبي وميلاد التغيير الإنساني
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على صاحب الذكرى رسول الله ومن والآه ...
تمر علينا في شهر ربيع الأول الذكرى العطرة لميلاد خاتم الأنبياء و المرسلين و رحمة الله للعالمين محمد بن عبد الله الصادق الوعد الأمين صلى الله عليه و سلم.
و المسلمون في أمس الحاجة إلى العودة إلى هدي نبيهم الذي كان مولده نورا و رحمة للبشرية كلها، فقبل مولده عليه الصلاة و السلام كانت الأرض تئن من الظلم و الشرك و الفوضى و جبروت الطغاة.
أَتيـتَ والنـاسُ فَـوْضَى لا تمـرُّ بهم إِلاّ عـلى صَنـم، قـد هـام فـي صنمِ
والأَرض مملــوءَةٌ جـورا ، مُسَـخَّرَةٌ لكــلّ طاغيــــةٍ فـي الخَـلْق مُحـتكِمِ
مُسَـيْطِرُ الفـرْسِ يبغـى فـي رعيّتـهِ وقيصـرُ الـروم مـن كِـبْرٍ أَصمُّ عَمِ
فكان مولد النور إيذانا بتحطيم أغلال العبودية لغير الله تعالى، و القضاء على أصنام الشرك و الظلم والضلال، وسطعت بمولده أنوار التوحيد والهداية، و قامت أمة الإسلام فشهدت البشرية طوال قرون عديدة حضارة الإيمان التي سعد بها أهلها، و قصدها العالم كله ينعم بعدالتها و رقيها و صدقها و عطائها.
و كان لمولده صلى الله عليه و سلم إرهاصات و بشريات أن الله تعالى أراد بالناس خيراً و رحمة(وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِين) سورة الأنبياء الآية 107.
و من هذه الإرهاصات حادثة الفيل التي كانت في عام ولادته عليه الصلاة و السلام، وقد واكب مولده الشريف أن رأت أمه آمنة "مناما" نوراً سطع منها أضاءت معه قصور بصرى بالشام.
ومع نسائم هذه الذكرى العطرة ما أحرانا أن نُقبل مع أهالينا و معارفنا و أحبتنا على السيرة المطهرة للنبي عليه الصلاة و السلام وصحابته الكرام من السابقين الأولين، نتدارسها و ننهل منها ونتسامر حولها : من الذي قال له الرسول "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه"، فما لبث أن قال الآن والله لأنت أحب إلى من نفسي يا رسول الله (إنه الفاروق عمر رضي الله عنه) ... من الذي جاء للنبي يبكي ويقول أوحشتني يا رسول الله، فيقول له النبي عليه الصلاة و السلام "أهذا يبكيك؟!"، فقال لا يا رسول الله ولكن تذكرت مكانك في الجنة ومكاني، فذكرت الوحشة فنزل قول الله تعالى (وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَٰٓئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّۦنَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُوْلَٰٓئِكَ رَفِيقًا) النساء الآية 69، (إنه ثوبان خادم النبي صلى الله عليه وآله وسلم) ... من الذي وقف في قريش خطيبـًا يدعوهم إلى الإسلام، فقام إليه المشركون يضربونه ضربـًا شديدًا، حتى تغيرت ملامح وجهه وأصابته غشية طوال النهار وأهله لا يشكون في موته، فلما أفاق رفض أن يتداوى أو يذوق طعاما أو شرابا حتى حملوه إلى رسول الله ليطمئن عليه أولا (إنه الصديق أبو بكر) ... ومن الصحابية التي أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أُحد، فلما نُعُوا لها قالت: " فما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؟ " قالوا : "خيرًا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين"، قالت: "أرونيه حتى أنظر إليه"، فأشير لها إليه، حتى إذا رأته قالت: " كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله" أي هينة (إنها امرأة من بني دينار) ... ومن هذه الصحابية التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها "ما التفت يوم أحد يميناً ولا شمالاً إلا وأراها تقاتل دوني"، (إنها أم عمارة).
هؤلاء هم السابقون الأولون فلنتعرف عليهم لنزداد حبا لهم و نتأسى بهم، عسى أن نكون ممن اتبعوهم بإحسان فنكون من الفائزين.
إنهم حملوا الأمانة مع رسول الله وضحوا وجاهدوا أمام جبهات خمس عاتية معادية; جبهة الوثنية، وجبهة المشركين، وجبهة الفرس، وجبهة الروم، ثم جبهة الطابور الخامس من المنافقين .. تلك الجبهات التي مازالت كما هي إلى الآن بمسمياتها وإن اختلفت الأسماء وتلونت الأساليب وتستر المكر والخبث والدهاء خلف خداع الأفكار و بريق الإعلام (وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ) سورة الحج الآية 40.
وإن كان حال الأمة بعد أكثر من عشرة قرون من الأستاذية والريادة تبدل في القرنين الأخيرين من بعد قوة ضعفا ومن بعد وحدة فرقة نتيجة غفلتها وتسلط أعدائها عليها بالعدوان والاحتلال المباشر عقودا طويلة حتى إذا ما خرجوا بجيوشهم وشخوصهم استبدلوا في معظم بلاد أمة الإسلام عملاءهم و أولياءهم من بني جلدتنا يحكمون فينا بالظاهر لمصالحنا و في الباطن لمصالح أعدائنا، ومع هذا فإن البشريات والآمال تتجدد مع الذكرى العطرة في عودة الأمة لسالف عزها و مجدها.
فالميلاد الذي أخرج الناس للنور من وسط ظلمات التناحر القبلي، وتصدر الفرس والروم وعبادة الأوثان، و تسلط القوي على الضعيف، والاتجار بالإنسان، ووأد البنات .. في هذا الميلاد إشارات وبشارات للمسلمين أن عودتهم وتمسكهم بنهج نبيهم يخرجهم بإذن الله من ظلمات الغفلة والفرقة إلى أنوار اليقظة والوحدة والقوة، "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ" كما رواه مالك في الموطأ.
من هذه البشارات تلك الصحوة الإسلامية التي عمت شعوب المنطقة العربية والإسلامية تحنُّ إلى كتاب ربها وسنة نبيها، تثور على الظلم وتثبت أمام بطش الظالمين من حكامها وتثق أن النصر لها وأن الله تعالى مهما أملى للظالم فإن أخذه له قريب، صحوة راشدة ما عادت تنطلي عليها أساليب الخداع من الداخل أو أساليب الغزو الفكري من الخارج.
ومن هذه البشارات الثقة في إرادة الشعوب المؤمنة فهي الأقوى من ظلم حكامها، فالحاكم الذي يسير ضد إرادة شعبه لا يستطيع أن يفعل ذلك الا بالدبابة، و الذي يفرض بالقهر وبالأمر منع العزاء في عالم له القبول والمحبة عند الملايين، هؤلاء الحكام عمرهم قصير، وإن إرادة الشعوب وتمسكها برفض الظلم وإقامة العدل هي الغالبة في القريب العاجل بإذن الله.
ومن هذه البشارات إفلاس الحضارة الغربية في مجال الأخلاق والقيم وتخبطهم في سن قوانين الرذيلة وفرضها حتى على الأطفال الذين يولدون على الفطرة، و سعيهم إلى هدم مؤسسة الأسرة بدعاوي الحرية الزائفة، فقد تفشى فيهم الانحلال وصار عقلاؤهم يصرخون أن ما تحاولون الترويج له تأنف منه الحيوانات، إن البشرية اليوم متعطشة إلى العودة إلى الفطرة والحياة السوية والسكينة، إن فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تهدأ ولا تهنأ ولا تسعد إلا بمعرفة خالقها وطاعته كي تستقيم مع السنن التي أودعها الله تعالى في كونه و في خلقه.
ومن هذه البشريات فقدان الحضارة الغربية للمصداقية والعدالة وافتضاح أمرهم في ذلك، لقد كان من بعض بلدانهم المغترة بقوتها غزوٌ لبلادنا وكانوا يبررون ذلك باختلاقات كاذبة ومبررات واهية، و كانت بقية البلدان عندهم تصمت وتغض الطرف عن جرائمهم في بلاد المسلمين، فلما نشبت الحرب في بلدانهم صاروا يفضح بعضهم بعضا، إن قال هؤلاء لا يجوز غزو بلد آخر بالعنف والقوة، سخر الآخرون منهم وذكروهم بخزاياهم وجرائمهم السابقة في كل مكان ذهبوا إليه، أين هذا من حضارة الإسلام التي يحرس العدل فيها القوة فتكون بضوابط وبميزان دقيق:
و الحرب في حق لديك شريعة و من السموم الناقعات دواء
و البر عندك ذمة وفريضــــة لا منـــــــــة ممنونة وجباء
ومن البشريات الإقبال على الدخول في الإسلام بنسب كبيرة في الغرب فقد أتاحت لهم الحريات المطلقة هناك من حيث لا يقصدون التعرف على الإسلام دين الفطرة النقية والنفس السوية، فيقول أحدهم عندما سئل "لماذا اعتنقت الإسلام"، فأجاب "بعد أن تعرفت على الإسلام فالسؤال الصحيح هو لماذا لا أعتنق الإسلام، فالإسلام هو الحقيقة هو منهج حياة، هو دين سماوي عملى وواقعي، منطقي وعقلاني، الإسلام هو الحل الوحيد لأي مشكلة تواجهنا ونحتاجه لنعيش بسلام في هذا العالم، والإسلام سيرشدك هنا وينجيك في الآخرة، أي شخص تعلم الإسلام وفهم الإسلام بحق أظن لا سبيل أمامه الا اعتناقه"
أما بيت القصيد من البشارات فهو وعد الله للمؤمنين (وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا) سورة النور الآية 55.
فعلينا أن نتمسك بهدي نبينا في هذه الذكرى العطرة التي نتذكر فيها واجباتنا ومسئوليات رسالتنا ونتواصى بأدائها على خير وجه بإذن الله.
و خير ما نستمسك به هو التأسي بهدي النبي صلى الله عليه و سلم في أخلاقه، لنفوز بالبشارة "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً"، إن من مصادر قوتنا التمسك بأخلاقنا والتواصي مع أبنائنا وشبابنا بالإيمان بالله والصدق والعدل والعفة والحياء والإنصاف.
و إذا كانت الهجمة الغربية على بلادنا تستهدف تفكيك الأسرة وإذابة روابطها بشعارات الحرية الزائفة فلابد أن تبقى الأسرة قلعة وحصنا للأخلاق إن غابت أو تخلت أجهزة ومؤسسات عن دورها لتبقى الأسرة درعا يحمي أبناءها وتظلل عليهم بالفهم القويم والعاطفة الصادقة والتوجيه الرشيد.
و إذا كان الأبناء والشباب هم العدة فيجب تنشئتهم على حب نبيهم وتدارس سيرته وسيرة صحابته ليكون لهم منهم القدوة و المثل، وتربية البنات على حب الصحابيات و الاقتداء بهن.
و إذا كانت سياسة "فرق تسد" هي ديدن أعداء الإسلام لتفريق الكلمة وإضعاف الصف وتفتيت الكيانات فإن العودة إلى "وتعاونوا" والعمل على جمع الكلمة واحترام آداب العمل الجماعي يجب أن يكون في محور اهتماماتنا في محيط العلماء والدعاة والتجمعات والمجموعات التي تنشد الخير صغيرها وكبيرها.
وإذا كانت كلمة الحق ضد الظلم ومقاومة المحتل للمقدسات هي من أعلى صور الجهاد فيجب علينا نصرة القائمين بها وتقدير تضحياتهم ودعمهم معنويا وماديا بشتى صور الدعم.
وإذا كان في العالم من حولنا من يبدع ويطور ويخطط لينشر بضاعته المزجاة بين أجيالنا وشبابنا فعلينا أن نبذل ما استطعنا من أساليب العصر في تحصين شبابنا وتمكينهم من استخدام أحدث الأساليب العلمية والإعلامية لفهم دينهم ونشر فكرتهم.
وليكن لنا من هذه الذكرى الطيبة انطلاقة نحو فهم ديننا والتمسك بهدي نبينا عليه الصلاة و السلام الذي أدى الأمانة و بلغ الرسالة.
"مع من أحبَّ" المرءُ يُحشرُ قالهـــــا علمُ الهدى، وأنا حبيبي محمـــــــــــد
و يبقى هتافنا دائما : "الرسول قدوتنا"
وصلى الله على محمد و على آله و صحبه و سلم.
إبراهيم منير
نائب فضيلة المرشد العام لجماعة (الإخوان المسلمون) والقائم بالأعمال
السبت 12 ربيع أول 1444
الموافق 8 أكتوبر 2022