في ذكرى الثورات.. نعم نستطيع
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وصحبه ومن والاه..
تأتي ذكرى الثورة المصرية في 25 يناير سنة 2011 مسبوقة بأحداث الثورة التونسية في ديسمبر 2010، ثم الثورات المتتالية في سوريا وليبيا واليمن وغيرها؛ لتؤكد من جديد أشواق شعوبنا العربية والإسلامية إلى الحرية والعزة والحياة الكريمة، وسعيها إلى تحقيق التحرر الوطني السياسي والاقتصادي والفكري، وغضبها الذي وصل إلى ذروته من تردي أوضاعها، وسوء أحوالها .... وأن هذه المشاعر المتأججة - التي روتها دماء الشعوب وتضحياتها وقوافل شهدائها - خير شاهد على خيرية هذه الأمة، وقدرتها المتجددة على النهوض .... مهما قست عثراتها، وطال سكونها، وظن أعداؤها؛ أنها قد استيأست، فاستسلمت.
وإننا في خضم هذه الذكرى .... إذ نتذكر آلاف الشهداء والجرحى .... وآلاف المعتقلين الأطهار البررة الذين بذلوا وسعهم ليصنعوا لأمتهم غدًا يليق بها .... لنؤكد على جملة من المعاني .... قد بذل أعداء الأمة، وخصوم حريتها، جهدهم لتغييبها أو تزييفها:
1.إن ثورات الربيع العربي التي انبثق فورانها من صميم معاناة أمتنا، كانت نتيجة لا مفر منها لعقود من القهر والإذلال، وفرض الجهل والفقر، ومصادرة الآمال المشروعة في التحرر واحترام حقوق الإنسان، وصيانة كرامة الأوطان.
2.إن هذه الثورات - بما قدمته من تضحيات عظيمة - لم تكن لتحدث إلا نتيجة لليأس المحبط من إحداث تغيير سلمي يلبي حاجات الشعوب في حكم رشيد، وتداول سلمي للسلطة ينفي عنها الاستبداد والتسلط، ويضعها في موضعها الصحيح .... كوكيلة عن الأمة تحقق طموحاتها، وخادمة لها ترعى مصالحها .... وتقودها بالعدل والرعاية، لا بالقهر والجبروت.
3.إن تزاوج الحكم الاستبدادي بالمال الحرام ينتج منظومة فساد مقيم، فرضت التخلف والانهيار .... وضيعت على الشباب المتطلع إلى مستقبل أفضل سبل العيش الكريم في وطن حر مستقل .... وهو الشباب الذي يزيد عن 70 % من أفراد أمتنا، ويعاني 40 % منهم من البطالة والفقر وانسداد أفاق المستقبل.
4.إن عدم قيام الأنظمة الحاكمة باستيعاب مغزى هذه الثورات، وفهم مراميها، وتقدير نبل مقاصدها قد أدخل بلادنا في دوامة من العنف .... واستغرق سنوات من التداعيات باهظة الكلفة من جميع أطرافها .... وكانت الأوطان هي الخاسر الأكبر .... ولم تستنكف بعض الأنظمة – في سبيل بقائها – من ارتهان البلاد للقوى الأجنبية المتربصة بها، سواء كان ذلك بمزيد من الخضوع السياسي، وفتح الأبواب على مصاريعها للقواعد العسكرية والجيوش الأجنبية، والجماعات المرتزقة من تجار الدم والسلاح .... أو كان ذلك بالاستدانة، وتلبية شروط المقرضين من الدول والهيئات، وإن ضَحَّت في سبيل هذا الفشل والعجز بمُقدَّرات البلاد ومستقبل أجيالها القادمة.
لقد أثبتت الأحداث الجسام مدى الترابط بين استقلال القرار الوطني والاعتراف بالحرية السياسية للشعوب .... وإن الشعوب التي تنعم بالحرية هي التي تقدر قيمتها لأوطانها، وتحسن الدفاع عنها .... وإن ولاء الأنظمة السياسية الرشيدة إنما يكون لشعوبها التي أتت بها.
5.كما أكدت الثورات العربية مدى زيف الشعارات التي ترفعها القُوَى والمنظمات الدولية، من قبيل شعارات الحرية والديمقراطية، والعدالة، وحقوق الإنسان .... فهي لا تبغي سوى تحقيق مصالحها الاستعمارية القاصرة .... حتى لو كان ذلك بالتمكين لأنظمة مستبدة، قاهرة لشعوبها .... وهي حسابات لن تعود على تلك الدول والمنظمات إلا بالخسارة .... إذ تضع نفسها في خندق المعاداة للشعوب التي أثبتت حركة التاريخ وسنن الكون أن النصر في النهاية سيكون لها.
وختامًا فإنه مما يؤسف له أننا بعد مضي اثني عشر عامًا من تفجر الثورات العربية نجد أنفسنا نعاني من نفس الأسباب التي أدت إلى انبعاثها .... وما زالت الأمة مسكونة بعوامل الغضب التي لم تجد لها معالجة حكيمة.
إننا اليوم أحوج ما نكون إلى تدبر أحداث تلك السنوات، والارتقاء فوق الأوهام الزائفة التي تخدع بعض الأنظمة الحاكمة بظنون انتصارها على شعوبها، وبأن القوة الباطشة قادرة على حسم الصراع .... ولا شك أن الحكمة القريبة تذكرنا بأن تلك الأنظمة - عشية ثورات الربيع العربي - كانت أبعد ما تكون عن توقع انبعاثها، أو تقدير قدرتها على إزاحة عروش استمرت جاثمة على أنفاس شعوبها طوال عقود من الزمن.
فهل يمكن اليوم للعقلاء في أمتنا أن يرفعوا رايات الحكمة والبصيرة .... وأن يهتفوا بصدق: يا قومنا ... إننا أبناء وطن واحد ... نحيا في سفينة واحدة ... تتناوشها أخطار تهدد جميع من فيها .... فهل يترابط الجميع تحت شعار واحد: (نعم نستطيع) .... فلا سبيل للمكابرة والعناد .... فالوطن يحتاج جهد الجميع .... (وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى ٱلسَّبِيلَ) سورة الأحزاب من الآية 4
والله أكبر ولله الحمد
د. محيي الدين الزايط
القائم بتسيير أعمال المرشد العام بجماعة الإخوان المسلمين
الاثنين ١ رجب 1444 هــ؛ الموافق ٢٣ يناير 2023 م