حسن البنا والقضية الفلسطينية والطوفان
تمر في هذه الأيام ذكرى استشهاد الإمام المجدد حسن البنا في ليلة الثاني عشر من فبراير؛ عام 1949م. ولم يكن قتله عدوانًا على شخصه، بقدر ما كان محاولة لقتل المشروع الذي يحمله، ونذر حياته له؛ وهو إعادة مجد الإسلام ودولته وحضارته.
وحسن البنا رحمه الله تعالى، من القادة التغييريين الذين يضعون على التاريخ طابعا لا يُمحى. فصاغ فكرا وربّى رجالا، حملوا على عاتقهم إعادة مجد الإسلام مهما كلفهم ذلك وانتقص من متعهم الدنيوية، وراحتهم الشخصية، فباعوا أنفسهم لله، وضحُّوا في سبيل الإسلام- منذ أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين، وحتى الآن، وبعد الآن (إن شاء الله تعالى)- وذاقوا في سبيل ذلك ويلات السجون والمعتقلات، وشُرِّدوا من بلادهم، وتركوا أولادهم، وأموالهم، ووظائفهم. ولم يكن يشغلهم إلا عزُّ الإسلام، وظهوره على الدِّين كلِّه ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33)، والانطلاق بالأمة لاستعادة مكانتها التي أرادها الله لها بأن جعلها ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110).
ونحن نعيش أحداث طوفان الأقصى المجيدة حريٌّ بنا أن نذكّر السادة القرَّاء بمواقف حسن البنا من القضية الفلسطينية، تلك القضية التي شغلته، وأقضت مضجعه؛ لأنه كان يعلم أن تحرير الأمة الإسلامية يبدأ من تحرير فلسطين من الصهاينة المحتلين.
لقد أحسَّ الإمام الشهيد مبكرًا بمقدمات المشروع الصهيوني الذي يستهدف فلسطين، ولم يتعامل مع احتلال الإنجليز لفلسطين كأي احتلالٍ لوطن إسلامي، وبدأ يكتب ويُنبِّه لهذا الخطر الشديد منذ عام 1929م، محذِّرًا من تصاعد الخطر اليهودي في فلسطين، ومشيرًا إلى أن اليهود تنتبه مطامعهم أمام غفلة المسلمين. وأبدى عدم رضائه عن ردود أفعال المسلمين في مواجهة هذا التحدي؛ لأنها لم تزد على الاحتجاجات، وأن خطة اليهود تقوم على الاستحواذ على فلسطين بالقوة وطرد أهلها منها.
ماذا فعل البنا أمام هذا التحدي؟
بدأ في وضع رؤية بعيدة المدى للحركة، والتصدي لهذا الخطر ضمن مشروعٍ متكاملٍ.
حدد الإمام الشهيد الرؤية والمنطلق والثوابت بشأن هذه القضية؛ حيث ينطلق الإخوان المسلمون في تعاملهم مع القضية الفلسطينية من حقيقة أساسية جوهرها: أن أرض فلسطين هي أرض عربية إسلامية، وقف على المسلمين جميعًا حتى تقوم الساعة، يحرم التنازل عن شبر واحد من ثراها مهما كانت الضغوط، فهي بالتالي أمانة في أعناق أجيال المسلمين جيلاً بعد جيل؛ حتى يرث الله سبحانه وتعالى الأرض ومَن عليها. (مجلة الإخوان المسلمون، 25/10/1947). وأن قضية فلسطين هي قضية العالم الإسلامي بأسره؛ وليست قاصرةً على أهلها الفلسطينيين، وأن المقاومة بكل أبعادها ومحاورها هي الطريق لاسترداد أرض فلسطين؛ فاليهود لا يفهمون إلا لغة القوة.
قبول التحدي والاستعداد للمواجهة:
ومع إدراك الإمام الشهيد لخطورة المشروع الصهيوني والقوى الكبرى التي تقف وراءه والإمكانات الضخمة المسخرة له، إلا أنه قرر قبول المعركة متوكلاً على الله، كما كان له بفضل الله القدرة على تحويل الرؤية والأهداف إلى خطواتٍ عملية مثمرة، وإلى تغيير الواقع وفق مراحل محددة لتعبئة الأمة وحشدها.
واستطاع بفضل الله من سنة 1932م وحتى سنة 1942م أن يُحدث تحولاً كبيرًا في الشارع المصري. ثم يحول هذا التحول إلى وسائل ضغط، وإلى مسارات عملية للدعم والمساندة توجِّت بتفاعل قوي حاشد للأمة في عام 47-1948م تحت توجيه وقيادة الإخوان.
ومن كلماته:
“أيها المسلمون في أقطار الأرض إن فلسطين هي خط الدفاع الأول والضربة الأولى نصف المعركة، فالمجاهدون فيها إنما يدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسكم وذراريكم؛ كما يدافعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم”.
“ليست قضية فلسطين قضية قطر شرقي، ولا قضية الأمة العربية وحدها، ولكن قضية الإسلام وأهل الإسلام جميعًا”.
“احتجوا بكل مناسبة وبكل طريق.. قاطعوا خصوم القضية الإسلامية مهما كانت جنسياتهم أو نحلهم.. تبرعوا بالأموال للأسر الفقيرة، والبيوت المنكوبة والمجاهدين البواسل.. تطوعوا إن استطعتم.. لا عذر لمعتذرٍ فليس هناك ما يمنع من العمل إلا ضعف الإيمان”(عام 1938م مجلة النذير).
“إن الصهيونية ليست حركةً سياسيةً قاصرةً على الوطن القومي لليهود أو الدولة المزعومة بالتقسيم الموهون، ولكنها ثمرة تدابير وجهود اليهودية العالمية التي تهدف إلى تسخير العالم كله لحكم اليهود ومصلحة اليهود وزعامة مسيح صهيون، وليست دولتهم الخيالية التي يعبرون عنها بجملتهم المأثورة من الفرات إلى النيل في عرفهم إلا نقطة ارتكاز تنقضُّ منها اليهودية العالمية على الأمة العربية دولة فدولة؛ ثم على المجموعة الإسلامية أمة بعد أمة”. (من بيانه للأمة عام 1947م).
“إن الدماء التي خضبت أرض فلسطين، وإن آلاف الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في سبيل المثل الإسلامي الأعلى.. وإن المسجد الأقصى الذي انتهكت حرمته.. كل أولئك يهيب بك أيها الأخ المسلم أن تبذل في سبيل الله ما وهبك من روح ومال؛ لتكون جديرًا بالاسم الذي تحمل، وباللواء الذي ترفع، وبالزعيم الذي أنت به مؤمن”. (حسن البنا 1939م).
أيها الإخوان: «إخوانكم الفلسطينيون الآن في الميدان يجوعون ويجهدون ويخرجون ويقتلون ويسجنون في سبيل الله وفى سبيل البلد المقدس، وهم إلى الآن في أشرف المواقف يقومون بأمجد الأعمال، ويبدون من ضروب البسالة ما هو فوق الاحتمال والطاقة، فهم قد أعذروا إلى الله وإلى التاريخ، فإذا ضعفت هذه الحركة أو وهنت فأنتم المسؤولون عن هذا الضعف وهذا الوهن، وهي جريرة يؤاخِذُ بها الله أشد المؤاخذة، ويحصيها التاريخ في أسْود صحائفه، فانتهزوا الفرصة وقوموا بواجبكم إلى جانب إخوانكم، والله معكم ولن يتركم أعمالكم». (جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (6)، السنة الرابعة، 28صفر 1355ﻫ- 19مايو 1936م).
وقد عبَر فكر الإمام البنا عن حالة نضج مبكرة ومتقدمة في أن العلاقة لا تنفك بين مشروع النهضة الإسلامية وتحرير فلسطين، حيث رأى أن حل قضية فلسطين سيكون بتلازم خطي الوحدة والجهاد.
فتحرير فلسطين يستلزمه العمل الجاد لنهضة الأمة؛ لتستكمل قوتها ووحدتها وإعدادها؛ لتكون مؤهلة لتحدي التحرير وهزيمة المشروع الصهيوني. ولهذا كان الجهاد ضد المحتل هو الخط الفكري الذي سلكته المقاومة الفلسطينية، وفي القلب منها حركة حماس.
إن ما حدث في السابع من أكتوبر (تشرين الأول الماضي) في طوفان الأقصى هو امتداد للفكر الذي طرحه البنا في رؤيته للقضية الفلسطينية والجهاد ضد الصهاينة المعتدين منذ ما يقرب من أكثر من تسعين عاما.
كذلك فإن الإمام البنا منذ فترة مبكرة فرَّق بين اليهود باعتبارهم أهل كتاب تجرى عليهم الأحكام العامة، ولهم حقوقهم المعروفة في الفقه الإسلامي، وبين اليهود الصهاينة المعتدين الذين تجب محاربتهم لقيامهم باغتصاب أرض المسلمين وحقوقهم. ورفض الظلم الذي تعرض له اليهود في أوروبا؛ لكن رفض أيضا تحقيق إنصافهم عن طريق ظلم الفلسطينيين والعرب، فقال: «لا شك أننا نتألم لمحنة اليهود تألماً شديداً ، ولكن ليس معنى هذا أن يُنصَفوا بظلم العرب وأن ترفع عنهم بهلاك غيرهم والعدوان عليه».
الجانب العملي
أما عن الجانب العملي: فالجوانب العملية التي قام بها الإمام البنا عديدة وكثيرة، ونكتفي بالإشارة إلى هذه الجوانب.
أ- في عام 1936م دعا الإمام البنا إلى عقد اجتماع للقوى الوطنية والعلماء والمفكرين في مصر خاص بهذه القضية، وانبثق عن الاجتماع لجنة عليا لمساندة فلسطين برئاسة الإمام البنا وأعضاء من كبار العلماء والمفكرين، وأرسلوا برقيات المساندة للشيخ أمين الحسيني.
ب- في أكتوبر عام 1938م عقب نجاح المؤتمر العربي تم عقد مؤتمر شعبي برلماني على مستوى العالم الإسلامي.
ت- إرسال الدعاة إلى بلدان جنوب شرق آسيا لشرح القضية والتواصل مع القوى السياسية.
ث- مخاطبة القوى الوطنية والمسيحية لمساندة هذه القضية ومنهم الأنبا يؤنس بطريرك الأقباط الأرثوذكس، وفي أكثر من بيان كان يذكرهم ويخاطبهم وكمثال كان عنوان أحد بياناته: “نداء إلى شعب الإخوان المسلمين بالقطر المصري وإلى مواطنينا المسيحيين الأعزاء من أجل فلسطين المجاهدة”.
ج- في عام 1947م استجابةً لنداء الإخوان تم تشكيل هيئة وادي النيل لإنقاذ القدس.
ح- وفي عام 1947م نظَّم الإخوان المؤتمر الشعبي لنصرة فلسطين بالجامع الأزهر، وتكلَّم فيه اللواء صالح حرب وأحمد حسين (مصر الفتاة)، بالإضافة للإمام الشهيد، والذي تلا فيه بيان الإخوان بإعلان الجهاد المقدس لتحرير فلسطين، ومما جاء فيه: “لقد كان عندنا بقية أمل في الضمير العالمي، أما الآن فقد فجعنا في كل هذه الآمال، وكفرنا بهذا الإيمان، وبهذه الحكومات الجاحدة المضللة حكومات الغرب ودوله...”.
خ- إنشاء صندوق عالمي إسلامي أو شركة لشراء أرض فلسطين المستغنى عنها من أصحابها حتى لا تتسرب لليهود.
ونستطيع أن نقول إن الإمام البنا استشهد فداءً لفلسطين ومجد الإسلام؛ حينما اجتمع سفراء الدول الاستعمارية في فايد في نوفمبر 1948م ليتخذوا قرارهم بالسعي لحل جماعة الإخوان المسلمين، ولم يتأخر وكلاء الاستعمار من الساسة الخانعين عن التنفيذ، فصدر قرار حل الجماعة، ومصادرة مؤسساتها وممتلكاتها، وحظر جميع نشاطاتها، في 8 ديسمبر 1948م.
وفي اليوم الموعود؛ في الساعة الثامنة والثلث من مساء يوم السبت 12 فبراير 1949م الموافق 14 ربيع الآخر في 1368هـ اغتيل حسن البنا، ولم تكن الرصاصات التي أطلقت على جسده قاتلة، فتركوه ينزف، حتى فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها فارتقى شهيدا. ونعاه الزعيم المغربي الأمير عبد الكريم الخطابي قائلاً»: ويح مصر وإخوتي أهل مصر مما يستقبلون جرّاء ما اقترفوا، فقد سفكوا دم وليّ من أولياء الله!! ترى أين يكون الأولياء إن لم يكن منهم، بل في غُرَّتهم حسن البنا الذي لم يكن في المسلمين مثله...!».
إن هذا الختام العجيب لحسن البنا سيظل مدى الأجيال يوقد في نفوس رجال الفكر النور والضياء، ويبعث في قلوب الذين آمنوا معه ما بعثه الحق في نفوس أهله حتى يمكِّنوا له.
ويتساءل روبير جاكسون (في كتابه: حسن البنا الرجل القرآني): «هل هناك علاقة بين الإسلام كما كان يفهمه حسن البنا ويدعو إليه وبين نهايته؟ ثم يقول: ولأني لا أعرف الإجابة الصحيحة، أدع ذلك للتاريخ».
وستظل دعوة الإخوان المسلمين – بإذن الله تعالى- تبذل من أجل فلسطين الحبيبة، وفي سبيل إعلاء راية الإسلام عالية خفاقة، وتسعى نحو التمكين له، إلى أن يعود للإسلام مجده وعزه. مهما كلفهم ذلك من تضحيات، ومهما فاتهم من لذائذ الدنيا؛ لأنهم يؤمِّلون فيما عند الله من الرضا والمتاع، والآخرة هي الموعد والفصل والجزاء.
إن هناك فارقا أزليا بين الذين خدعوا التاريخ، والذين نصحوا لله ولرسوله (صلى الله عليه وسلم).
والله أكبر ولله الحمد
الدكتور صلاح عبدالحق
القائم بأعمال فضيلة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمون