في ضوء تجارب التاريخ: هل تتحرر فلسطين بجهاد أهلها وحدهم؟
بقلم أ.د حمدي شاهين أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية
تحتل فلسطين - وفي القلب منها القدس الشريف - مكانة مركزية في التاريخ الإسلامي؛ لما تمثله من وضعية دينية خاصة في الإسلام، وأيضًا في اليهودية والنصرانية، وقد كانت قطب رحى الصراع في زمن الحروب الصليبية، وفي زمن الاحتلال الصهيوني؛ حيث شكلت لب سرديته الأسطورية المؤسسة له.
وربما قلَّ في التاريخ تشابه تجربتين من تجاريب الزمان مثلما تشابه المشروعان الصليبي والصهيوني، ولذا فلا عجب أن عُني اليهود في فلسطين بدراسة المشروع الصليبي، لما يمثله لهم من إلهام، وخبرة عملية تاريخية، ولما ينبئ به من نهاية تثير رعبهم من أن يلاقوا مصير أسلافهم.
وفي الفترة الأخيرة - بعد طوفان الأقصى – ثار التساؤل هل يمكن أن تُطوى آخر صفحات المشروع الصهيوني على أيدي أبطال فلسطين؟ أم إن خبرة التاريخ حاكمة، وتقضي أن يأتي النصر من العمق الجغرافي المحيط بالأرض المحتلة، من جوارها في مصر والشام والعراق، مثلما حدث في حالة العدوان الصليبي؟
وتلك نظرة ظاهرية لحالتي الصراع؛ فللهزيمة والنصر أسباب موضوعية، وهي أسباب لا تولد في لحظات عابرة، بل تتراكم، وتتشكل جزئياتها وأنويتها الدقيقة عبر المدى الزمني اللائق، فقد ظل القدس أسيرًا أكثر من تسعين سنة (492-583هـ)، وظل المشروع الصليبي ينازع أسباب البقاء نحو قرنين من الزمان. كانت فيهما روح الجهاد تغزو أوصال الأمة، وكانت القيادات السياسية والعسكرية تتكون، وتتوارث الخبرات، وتعبئ قواها النفسية والمادية، وكان العلماء يدركون أدوارهم، ويبادرون إليها، فتحتشد بتأثيرهم الشعوب، وتأخذ أزمَّة المبادرة والفعل، في مشروع حضاري متكامل، لم يغفل عن أهمية تهيئة الفضاء الإقليمي والدولي، وتجريد العدو من أسباب نجاحه، وأوراق نصرته.
وفي كل ذلك لم يكن الداخل المحتل غائبًا عن الفعل، أو مستسلمًا لإرهاب الصليبيين ووحشيتهم، وبالتدريج كان يمارس دوره المقاوم بحسب قدراته، ففي الزمن الملاصق للغزو الصليبي للأرض المقدسة سنة 492هـ سارت جماعات من اللاجئين الناجين إلى دمشق تستنهض علماءها، فنهض القاضي أبو سعد الهروي لنصرتهم، ومعه جماعة من أعيان الشام، واتجه إلى بغداد يواجه الخليفة العباسي والسلطان السلجوقي بحقائق الواقع، وجليل التبعات، فلما رأى تخاذلهم اتجه إلى مساجد بغداد يستثير أهلها. فأدرك الخليفة حرج موقفه، وأمر السلطانَ السلجوقي بتسيير نجدة إلى الشام، وتجهز جماعةٌ من الفقهاء البغداديين للجهاد هناك.
وتجاوب المسلمون تحت الاحتلال في مملكة بيت المقدس مع الانتصارات المحدودة التي تحققت سنة 507هـ، فهاجموا الصليبيين “ولم يبقوا بين عكا وبيت المقدس ضيعةً عامرةً.. وفي سنة 549هـ ثارت القلاقل ضد العدو في المنطقة المحيطة بنابلس. وفي سنة 539هـ قام المسلمون من سكان وادي موسى المحتل - جنوب شرق الأردن - باستدعاء الجيوش الإسلامية، والاستيلاء على القلعة الصليبية هناك.؛ وتعرض المسلمون في منطقة مجدل يابا قرب نابلس- لخسائر فادحة، فترك سكان ثماني قرى منهم مساكنهم سنة 551هـ، واتجهوا نحو دمشق؛ حيث أسسوا بالقرب منها ضاحية “الصالحية”، “وجعلوا همَّهم الجهاد في سبيل الله”.
لم يكن الداخل المحتل مستسلمًا إذن، ومن يطالع جرائم الصليبيين الذين قتلوا يوم احتلال بيت المقدس سبعين ألفًا بدم بارد، وأحرقوا جثثهم، بعد أن بقروا بطون بعضهم يبحثون عن الذهب- سيضع بلا ريب هذه التحركات المحدودة موضعها، ويقدر دورها في تثوير الخارج القريب، حتى يقوم بدوره.
غير أن جهاد الداخل محدود القوة، ولا يمكن أن ينوب عن الأمة، وبخاصة أن المسلمين في الحالتين -الصليبية والصهيونية- واجهوا عدوانًا عالميًا، احتشدت فيه أوروبا خلف البابوية قديمًا، وخلف الصهيونية حاليًا.
ولا عجب أن تظهر خيانات في القديم والحديث، فقد كان بعض الخائنين في الداخل المحتل يمالئون الصليبيين، وكانوا معهم “على حال ترفيه” ،كما يقول المؤرخون، وكان خونة آخرون من الحكام يستعينون بالصليبيين ضد منافسيهم من المسلمين، ويقدمون مصلحة عروشهم على مصالح الأمة، غير أن هذا وذاك لم يحُل دون أن تمضي مسيرة التحرير إلى غاياتها، وما كانت تستطيع ذلك إلا بعد القضاء على قوة هؤلاء جميعًا.
لقد استغرق تحرير المحيط الجغرافي للأرض المحتلة؛ ثم توحيده؛ عقودًا من الزمن، واستنزف طاقات كان الأولى بها أن تتجه إلى الجهاد ضد الاحتلال.. وكي تستبين هذه الحقيقة علينا أن نتذكر أن صلاح الدين أمضى أكثر من 16 عامًا لتحرير الجبهة الإسلامية وتوحيدها، فلما تم له ذلك لم يحتج إلا خمسة أعوام ليضرب مقاتل الصليبيين، ويحرر الأقصى السليب، وقد أدرك الغرب والصهاينة خطورة تحرر هذا النطاق الجغرافي، فسعوا إلى وأد الربيع العربي بكل قسوة في مصر وسوريا ، بعد أن احتُل العراق..
إنَّ قدَر الله قاضٍ بأن يستمر صمود أهلنا المرابطين في فلسطين، وينجح جهادهم، كما قال رسولنا صلوات الله عليه: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم؛ إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله. وهم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” (رواه أحمد)، غير أن ذلك لا يعفي الأمة من واجب الجهاد والنصرة، ولا يعفي المتواطئين والخائنين من لعنة الله والتاريخ.