لست صغيرا يا ولدي
بقلم د. خالد حمدي
بينما كنت أحاضر الشباب عن معنى الهجرة، وأنه معنى متجدد وباق إلى يوم القيامة، لحديث الرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل) وأن مهاجري اليوم في الأجر كالمهاجرين من مكة إلى المدينة بالأمس لو أخلصوا النية، وصدقوا الله في هجرتهم…
بينما كنت أتكلم عن هذا المعنى وسط حشد غير قليل من الحضور الذين يغلب عليهم العمر العشريني والثلاثيني إذ بفتى صغير لا يتجاوز عمره الثالثة عشر أو الرابعة عشر يقول لي:
عمو عمو… ينفع أبقى مهاجر وأنا في سني ده؟
أبهجني سؤاله وحماسه وتفاعله مع المحاضرة فقلت له:
بالطبع يصلح يا حبيبي..
الأعمار يا حبيبي بالعمل لا بالعدد.. ببركتها لا بزيادتها!!
كم من كبار عاشوا وماتوا بلا أعمال تملأ الصحائف وتبيض الوجه يوم القيامة.
بينما أعرف شبابا عاشوا قليلا وأجروا كثيرا.
أسعد بن زرارة مثلا كان أصغر نقباء بيعة العقبة، وهو أيضا أول من مات من الأنصار عند بناء المسجد لكن سنه الصغيرة لم تمنعه من السبق في الإسلام والسبق في الدعوة إليه، حتى قالوا: إنه مأجور على كل نفس دخلت في الإسلام من الأنصار!!
تخيل لو أنه استصغر نفسه، وحسب الأمر بالسن كيف سيكون حاله، وكم ضاع عليه من الخير؟!
وهذا ابن عباس -رضي الله عنه- كان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في مثل سنك تقريبا…في الثالثة عشر من عمره.
تلفت يمنة ويسرة ثم قال لصاحبه:
إني أرى أصحاب رسول الله يموتون واحدا تلو الآخر.. وعِلم رسول الله عندهم.. وإني لأخشى أن يذهب علم رسول بذهابهم، فهلمَّ نجمع علم رسول الله الذي عندهم، فقريب يحتاج الناس إلينا كما نحتاج اليوم إليهم!!
ضحك صاحبه وقال:
أترى الناس تحتاج يوما إلى مثلى ومثلك؟!!
وتركه وانصرف، وأكمل ابن عباس حتى جمع علم الصحابة، وذكر ذلك في قصة طويلة حكاها بنفسه.
المهم أن تعلم أنه بدأ في الثالثة عشرة، ولو استصغر نفسه حينئذ؛ لحرم الناس من نفائس ابن عباس.
ثم قلت للولد وقد بدت على وجهه السعادة:
يا بني… لقد خدعونا حتى ضيعوا على شبابنا أجمل أيام عمرهم!! بينما شبابهم وفتياتهم يبدؤون مبكرا.
قال: من تقصد؟
قلت: الغرب!!
أولادهم في المراحل المتقدمة يشتغلون وهم يدرسون، ويتحملون مسئوليات جساما يظنها بعضنا أكبر من عمرهم، حتى إن الفتيات يحملن ويلدن من السفاح - الذي هو حرام في شريعة الإسلام - وهن في الرابعة عشر من أعمارهن، في حين أن أولادنا وبناتنا ربما يبلغ أحدهم الثلاثين ولم يعمل ولم يتزوج، ولم يقدم شيئا يناسب العقود الثلاثة التي عاشها إلا الشكاية والتبرم، وكثير من اللهو، وقليل من العمل!!
مع أننا أبناء أمة كانت تقدم الصغير حتى يكون بينهم كبيرا، وترفع من شأنه حتى يتصدر المجالس، وربما يقود الجيوش.
مرّ عمرو بن العاص -رضي الله عنه- على مجلس من مجالس الصحابة، فوجدهم قد سمحوا لشبابهم الصغير أن يغادروا المجلس، بل وربما أخرجوهم منه عن قصد، فقال لهم:
ما لي أراكم قد نحَّيتم هؤلاء الفتيان عن مجلسكم؟!
لا تفعلوا…أوسعوا لهم، وأدنوهم، وحدّثوهم، وأفهموهم الحديث.
فإنهم اليوم صغار قوم ويوشكون أن يكونوا كبار قوم.
وإنا قد كنا صغار قوم ثم أصبحنا اليوم كبار قوم.
يقول يوسف بن الماجشون: «قال لي ابن شهاب الزهري ولابن عمٍّ لي ولآخر معنا: لا تستحقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم؛ فإن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان إذا أعياه الأمر المُعْضل دعا الأحداث فاستشارهم؛ لحِدَّة عقولهم”
ويحكي أبو بكر بن عياش -رحمه الله-: «كنا عند الأعمش ونحن حوله نكتب الحديث فمرّ به رجلٌ، فقال: يا أبا محمد، ما هؤلاء الصبيان حولك؟ فقال: هؤلاء الذين يحفظون عليك دينك”.
التفتُّ إلى الولد ومن معه التفاتة أخيرة وقلت له بعدما هيج في قلبي ما هيج من المعاني:
يا بني… تستطيع أن تكون مهاجرا إن أردت أن تكون مهاجرا، وعالما إن أردت أن تكون عالما، وقائدا إن أردت أن تكون قائدا، مهما كان عمرك.
فحاجز العمر عند صاحبه فقط، والهمة يا بني تزيل العوائق، وتغالب الأعمار. وقصص ابن عباس، وأسامة، وأسعد، ليست فردية؛ إنما هي مشاهد مكرورة على مر الزمن، ولا ينبغي لنا أن نوقفها عند زماننا. فهمتَ الآن أيها المهاجر الصغير؟