أبعاد الهجرة النبوية.. دروس على طريق الدعوة
أ.د حمدي شاهين
أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية
كان بلال أعز نفسًا وهو يُجرُّ موثوقًا في بطحاء مكة من أمية بن خلف، وكانت سمية بنت خياط أشمَّ أنفًا من أبي جهل وهو عاجز عن ردها عن دينها، فلا يجد لثباتها حلا دون القتل. كان المسلمون قبل الهجرة مستضعفين، يعذبون ويقتلون ويطاردون، لكن نفوس هؤلاء المستضعفين كانت أبعد ما تكون عن الهوان أو الذل.
الأبعاد التربوية للهجرة:
كانوا يقتاتون عزَّ التوحيد مع ترداد قوله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين)، أما من رضي بالاستضعاف، وضعف عن طلاب المجد، فقد ظلم نفسًا أبيَّة خلقها الله بين جنبيه، فاستوجب سوء الخاتمة، كما في قوله تعالى عن نفر من هؤلاء (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء:97].
إن محبة الأوطان جبلَّة مغروسة في الخلق، وقد قال رسولنا الأكرم عن مكة وهو يغادرها مضطرًا: "والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت. إنها الأوطان حين تكون حرة، تصون كرامة أبنائها، وهم قادرون على الدفع عنها، وافتداء كرامتها، وحين تمتزج محنة الوطن المستذل، بمحنة الإنسان المستضعف فإن نداء الله حق: ﴿﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت:56]، وإن هجرته بدينه مخافة أن يفتن فيه، وحريته مخافة أن تنتهك، ونفسه أن تُحتقر وتهان لا تكون فرارًا مغيبًا، بل تضحية عزيزة لا يقدر عليها إلا الأحرار ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ [البقرة:207].
واستعلاء على جواذب الأرض والأهل والمال، وكانت الهجرة على ذلك النحو تربية وتمهيدًا لما بعدها من جهاد متواصل وفتوحات وهدايات، واختبارًا لحقائق الإيمان ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة:24].
الأبعاد السياسية للهجرة:
لقد سبقت الهجرة النبوية هجرة جماعة من الصحابة إلى الحبشة في السنة الخامسة للبعثة، ومحاولة للهجرة إلى الطائف في السنة العاشرة للبعثة، مما يعني أن التوجه السياسي إلى الهجرة - حين الاضطرار إليها - كان أصيلاً لدى النبي صلوات الله عليه، وذاك لأن إقامة الدين لا يكتمل إلا بإقامة الدولة الحاملة له، والمعبرة عنه، فالإسلام لم ينزل على الأمة لتكون مطاردة مستضعفة، بل لتكون قائدة، ورائدة، أمة وسطا شاهدة على العالمين ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة من الآية 143].
ولولا النصرة ما تمت الهجرة، ولقد ظل النبي صلوات الله عليه يبحث عنها أعوامًا، ويعرض نفسه على القبائل لعل إحداها تقبل أن تمنعه حتى يؤدي رسالة ربه، ولما قبل أهل المدينة بذلك لم يعجل بالهجرة إليهم حتى استوثق من حقيقة استعدادهم للنصرة، وإدراكهم تبعاتها، وتقبلهم نتائجها، فكان أسبقهم إيمانًا في السنة الحادية عشرة، وكانت بيعة العقبة الأولى في الثانية عشرة، والبيعة الثانية في التي تليها.. وكانت شروطها واضحة كالشمس في رابعة النهار، قال أحدهم: "أتدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟ إنما تبايعونه على حرب الأحمر والأسود"، فلم يردّهم ذلك عن إتمامها، وسألوا رسولهم: فما لنا إن وفينا؟ قال الجنة! فتسابقوا إلى بيعته.. كانوا يدركون ربح البيع؛ أن تكون الجنة هي الثمن الربيح..
ولما هاجر إخوانهم إليهم كانوا نعم الأنصار، فاستحقوا ثناء الله لهم، ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].
ونحن الآن في زمن كثر المستضعفون فيه، وقلَّ الناصر، واستعلت فيه العصبية والعنصرية الذميمة، حتى ضاقت الأرض بما رحبت، وتأخر النصر، وعظمت المحنة، وهيهات أن يطير طائر بجناح واحد؛ فهما جناحان متلازمان: الهجرة والنصرة معًا.
الأبعاد الحضارية للهجرة
كانت الهجرة تعبيرًا عن تميز العقل المسلم المسدد بالوحي الخالد، فقد استكمل النبي صلوات الله عليه الأخذ بأسباب الفلاح، ما كان منها ميسورًا من صاحب وراحلة وزاد، وما احتيج إليه من دليل مشرك مأمون، وطريق غير مأهول، مع تمام التوكل على الله، ولولاه لانكشف الأمر لمَّا خرج النبي من بيته والمشركون محدقون ببابه، ولمَّا أحاطوا بغار ثور، فقال الصاحب الشفيق: لو نظر أحدهم أسفل قدمه لرآنا، ولمَّا نذر بهم سراقة بن مالك، فارتد حسيرًا بقدرة الله وقدره..
وأثمرت الهجرة المباركة إقامة الدولة المنشودة، فجاءت حاملة الهدي النبوي في التأسيس الأول والسير المبارك.. فكان أول ما تأسس المسجد؛ دار العبادة بشمولها، ومقر القيادة على اختلاف مهامها، وفي غربيِّه تأسس السوق الإسلامي الأول، براء من ربا اليهود، ومن الاحتكار والاستغلال والغش، ودليلاً على استقلال الدولة الوليدة في اقتصادها، وتمايزه عن غيره، ثم جاءت المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ترجمة لمنهج الأخوة في الإسلام، وإرساءً لوحدة الأمة الجديدة في بنائها الداخلي، واستيعابًا لواقع شديد الحرج؛ يستوجب تراحمًا في المال والمسكن والأنفس. وتأسست دولة المواطنة التي أعطت مواطنيها جميعًا حرية الاعتقاد والعمل والعدالة، فتجاور فيها المسلمون واليهود، وتوافقوا على الدفاع عنها، وحق كل فريق في التحاكم إلى شريعته، وحقه في اللجوء إلى تشريع القيادة العليا إن شاء، وكان ذلك كله في وثيقة مكتوبة ضامنة للوفاء بها، فكانت تلك الوثيقة دستورًا هاديًا للأمة الناشئة. بل امتدت رعاية الدولة الجديدة إلى جماعات من المشركين، كانوا هم معظم سكان المدينة وقت الهجرة إليها (سنن أبي داود، كتاب الخراج والفيء، حديث رقم 3004). وقد ظلوا يدخلون في الإسلام رويدًا حتى غزوة الخندق في السنة الخامسة للهجرة.
لقد كان عمر بن الخطاب ملهمًا مسددًا، ومن ذلك اتخاذه الهجرة مبتدأً للتأريخ الإسلامي، فقد تشاور الصحابة في الأمر، فتباينت رؤاهم بين من يختار مولد النبي صلوات الله عليه، ومن يختار التأريخ بوفاته، فقال عمر: "بل الهجرة، فإن الهجرة فرقت بين الحق والباطل"، فكان ذلك تمييزًا للأمة عن غيرها في النظر إلى تاريخها، وتوجيهًا خالدًا إلى أهمية تأسيس الدولة الإسلامية، وأن بها يكون الفرق الحاسم بين الحق والباطل. ثم نظر الصحابة بأي شهر يبدؤون عامهم، فمنهم من يرى رمضان حيث نزل القرآن، ومنهم من يرى ربيعًا الأول حيث المولد الشريف، فقال عمر: "ابدؤوا بالمحرم، فإنه منصرف الناس من حجهم"، فكأنه يربط بين استئناف الحجيج حياتهم وقد عادوا متطهرين كيوم ولدتهم أمهاتهم، واستئناف عام جديد ينبغي أن يكون هاتفًا بمحاسبة النفس، والتوبة المتجددة. ويضيف ابن حجر بعدًا آخر حين يقول إن بدء الهجرة كان في شهر المحرم، وهو حق، فإن بيعة العقبة الثانية كانت في ذي الحجة، وبدأت هجرة الصحابة في المحرم، وتأخرت هجرة النبي القائد إلى ربيع الأول حتى اطمأن إلى مقام أصحابه في موطنهم الجديد.