من رابعة إلى غزة.. جرائم ضد الإنسانية
شدَّد الإسلام على حرمة قتل النَّفسِ لما لها من مكانة عالية لديه، ووضع الأحكام والقواعد التي تحافظ عليها، وتمنع العدوان عليها، فينفي عن المؤمن مجرد إرادة قتل أخيه؛ لأن هذا لا يتوافق مع دينه الإسلام، وإنْ حدث ذلك فإنه لا بد أن يكون نتيجة خطأ لا عمدًا. قال تعالى ﴿وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً﴾ [النساء: 92].
لذَا؛ فإنَّ القتل العمد له الحكم الشديد في الدنيا والآخرة، وأخبر سبحانه بأن جزاءه جهنم. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء:93].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: «هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله».
قال صلى الله عليه وسلم «ذمة المسلمين واحدة فمن أخْفر (نقض العهد) مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل». (متفق عليه).
وأكد النبي صلى الله عليه وسلم حرمة دماء المسلمين، وأنها معصومة من الاعتداء، فقال صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّي رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمفارق لدينه التارك للجماعة» (صحيح البخاري).
وإن للشهداء عند الله فضلا ومنازل من النعيم الخاص الممدود من الله واهب الخيرات للمحسنين؛ وذلك لأنهم استرخصوا أرواحهم فداء لدينهم وثوابتهم، وقدموا لله كل شيء. إنهم هم المثل الباقية والقدوات الماثلة للأجيال المؤمنة وهي تخطو نحو النصر وبناء الأوطان في كل مرحلة، ولهذا فقد ربح بيع نفوسهم لمولاهم وهو أعلم بهم، أليس هو القائل سبحانه وتعالى:
﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة:111].
ذكرى رابعة وطوفان الأقصى:
تحل الذكرى الحادية عشرة على مجزرة رابعة التي وقعت أحداثها في صباح يوم 14 أغسطس/آب 2013، والتي وصفتها منظمة (هيومن رايتس ووتش) بأنها إحدى أكبر وقائع القتل الجماعي لمتظاهرين سلميين في يوم واحد في تاريخ العالم الحديث.
هذه المجزرة التي قضى فيها 1817 شهيدا، بل هناك من زاد هذا العدد ووصل به إلى 3 آلاف شهيد، في يوم واحد، بأيدي قوات الأمن المصرية، بعد أن خان وزير الدفاع رئيسه وحنث في يمينه وانقلب على الرئيس الشرعي المنتخب الدكتور محمد مرسي رحمه الله تعالى.
وإذا كان هذا هو الواقع الأليم الذي عاشته وما زالت تعيشه فئة الأحرار الذين خرجوا دفاعا عن مطالب ثورتهم وشرعية رئيسهم، وانتهى بهم المطاف ما بين قتيل وجريح وسجين ومشرَّد في المنافي؛ فإن ذكرى رابعة تأتي هذا العام وقد وقعت أحداث "طوفان الأقصى"، ومضى عليها أكثر من عشرة أشهر، ومازال العدو الصهيوني المحتل ينزل بأهلنا في غزة حرب إبادة وصنوف القتل والتدمير والقضاء على كل صور الحياة. غزة التي ضحت بما يقارب 50 ألف شهيد ومفقود، وأكثر من 92 ألف جريح ومصاب، ناهيك عن تدمير الحياة فيها؛ قامت تدافع عن أرضها وعن المسجد الأقصى، غزة التي تقوم بالواجب نيابة عن الأمة، أمتنا التي تحكّم فيها المستبدون بعون من قوى الظلم والبغي العالمية والإقليمية- فمنعوها من أن تشارك أهل فلسطين جهادهم ضد المحتل الغاصب. بل ضيّق هؤلاء المستبدون على أهل غزة ولم يجهدوا في تقديم العون والمساعدة لهم بل تآمروا عليهم.
وكما أزهقت الأرواح البريئة في رابعة، أزهقت الأرواح البريئة في غزة وفلسطين. وإن كان مجزرة رابعة حدثت بأيدي ما يسمى" القوات الوطنية"؛ فإن المجازر في غزة تقع بأيدي صهيونية مدعومة بأسلحة أمريكية ومدد غربي كذلك.
إن ما يحدث في غزة هو امتداد لما حدث قبل إحدى عشرة سنة في رابعة؛ إن الهدف واحد؛ ألا وهو التخلص من أصحاب الحق، الذين يدافعون عن حقهم. إنه الصرع بين الحق والباطل.
إن الصهيونية العالمية والاستعمار الصليبي يريدان القضاء على "الإسلام المقاوم" الذي يرفض الاستسلام أمام الاستبداد أو أمام المحتلين، الإسلام المكافح الذي يرفض التطبيع الصهيوني، ويرفض تسليم الأوطان والتنازل عن مقدراتها، ويرفض شيوع قيم الانحلال وثقافة الشذوذ وفساد الأخلاق، ويرفض كل ما من شأنه أن يقضي على الإسلام الحق في نفوس المسلمين، وأن يستبدل به ثقافة وأفكارا وعادات وتقاليد أبعد ما تكون عن مراد رب العالمين من العباد.
إن أعداء الإسلام ووكلاءهم يريدون تغيير هوية الأمة، بعدما نجحوا في تصدير ثقافة المحتل منذ زمن الاستعمار العسكري وحتى الآن.
وليس أمام المسلمين الصادقين -دفاعا عن دينهم وعن أوطانهم- إلا المقاومة، والكفاح، والنضال، والصبر على ذلك؛ إعذارًا إلى الله تعالى أولا ﴿قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 164]. ثم في سبيل إيقاظ الوعي لدى الشعوب والسعي لتحريرها من ربقة المستبدين وكلاء المستعمرين. وإن تحرير فلسطين لا يكون إلا بجهاد المحتل الغاصب.
مجزرة رابعة كانت بداية الخراب والدمار الذي حلّ بمصر على كل الأصعدة
إننا لا ننسى - ما حيينا- شهداء رابعة وأخواتها، من الذين سقطوا في كل ميادين مصر؛ الذين خرجوا دفاعا عن حرية الوطن، وفداء لشرعية رئيسهم؛ رجالا ونساء وأطفالا، شيوخا وشبابا وغلمانا، فما كان من يد الاستبداد والظلم إلا أن بطشت بهم وسفكت دماءهم، فسقطوا في ميادين الحرية والكرامة والشرف، وقد هانت عليهم الدنيا بزخرفها، وتوجهوا إلى شيء واحد بقلوبهم، إنه رضا الله؛ في الدفاع عن الحرية وعن الشرعية.
وبعد مرور 11 عاما على مجزرة رابعة، نسأل: إلام وصل الحال في مصر؟ هل تقدمت مصر اقتصاديا؟ هل تحقق لها الرخاء والاطمئنان كما جاء في وعود المستبدين؟ هل رجعت السلطة إلى المدنيين وأصبح للشعب الحق في اختيار من يمثله؟
إن شيئا من ذلك لم يحدث -ولن يحدث في ظل سلطة الانقلاب- بل حدث الانهيار الاقتصادي الذي نراه، ولولا الدعم الدولي والإقليمي للانقلاب لانتهى الحال بمصر إلى حافة الإفلاس- لا قدر الله- وانظروا إلى أحوال الشعب وما وصل إليه من بؤس في الحياة المعيشية نتيجة لارتفاع الأسعار، وتدهور العملة المحلية. انظروا إلى أخلاق المجتمع وقارنوا بين أخلاق الشعب المصري قبل رابعة وأخلاقه بعد رابعة. لقد تغيرت معايير الأخلاق بعد إقصاء أهل الخير ونشر المعروف، إما بالزج بهم في السجون والمعتقلات، أو بتشريدهم بعيدا عن الوطن، فخلت الساحة أمام نشر الفحش والتطاول على الإسلام، وإشاعة الإباحية والإلحاد، ووقع التفسخ الأخلاقي الذي- حتما- ستظهر آثاره على الأجيال القادمة، إن لم تتدارك عناية الله ورحمته أهل مصر.
وعلى الصعيد السياسي، ما قيمة مصر الآن؟ هل مكانة مصر العظيمة عادت كما كانت من قبل؟ الكل يرى ويسمع ما نزل بها من الهوان والتقزيم على يد السلطة المستبدة، كل ذلك أملا في إطالة عمر المستبد على كرسي السلطة.
إن سفك الدماء الطاهرة في رابعة وفي ربوع مصر؛ لم يجلب إلا الخراب. ومن أراد أن ينصلح حال مصر فعليه أن يسعى إلى إزالة أسباب ما حل بها من خراب على يد الانقلابيين.
أمل رغم الآلام والجراحات
قد يتسرب اليأس ويعتري الإنسان تحت شدة الفتن والمِحن، وكثرة الأعداء والظالمين وتسلطهم. وقد يصل اليأس بصاحبه إلى القنوط وانقطاع الأمل. ولكن الله عز وجل نهى عن اليأس والقنوط وحذر من ذلك، فقال تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف:87].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم كانَ مُتَفَائِلاً في كل أموره، واثقاً بربه في جميع أوقاته، مُحسناً بِهِ الظّنّ في كلِّ أحواله، وكانت حياته ـ رغم ما فيها من شدة وبلاء ـ مليئة بالأمل والتفاؤل، وحُسن الظَّن بِالله، وقوة اليقين بنصر الله، وكان دائماً يبشر أصحابه بالنصر والأمن والغنى رغم ما بهم من بلاء وفقر واستضعاف. والسيرة النبوية زاخرة بالمواقف والأحداث التي تبين مدى التفاؤل والأمل، والثقة واليقين بنصر الله عز وجل، الذي كان يتحلى به النبي صلى الله عليه وسلم ويغرسه في نفوس أصحابه والمسلمين من بعدهم.
وفي هذا المعنى يقول الإمام البنا رحمه الله تعالى:
«أحب أن تعلم يا أخي أننا لسنا يائسين من أنفسنا وأننا نأمل خيرا كثيرا ونعتقد أنه لا يحول بيننا وبين النجاح إلا هذا اليأس، فإذا قوي الأمل في نفوسنا فسنصل إلى خير كثير إن شاء الله تعالى، لهذا نحن لسنا يائسين ولا يتطرق إلى قلوبنا و الحمد لله.
وكل ما حولنا يبشر بالأمل رغم تشاؤم المتشائمين؛ لهذا لسنا يائسين أبدا. وآيات الله تبارك وتعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وسنته، في تربية الأمم وإنهاض الشعوب بعد أن تشرف على الفناء -وما قصه علينا القرآن من قصة موسى وفرعون-كل ذلك ينادينا بالأمل الواسع، ويرشدنا إلى طريق النهوض. وفي النهاية تأبى إرادة الله إلا أن تنتصر للمظلومين وتأخذ بناصر المهضومين المستضعفين فإذا الباطل منهار من أساسه.
لمثل هذا يا أخي وهو كثير في دين الله لم ييأس الإخوان المسلمون من أن ينزل نصر الله على هذه الأمم رغم ما يبدو أمامها من عقبات، وعلى ضوء هذا الأمل يعملون عمل الآمل المجد والله المستعان .
قال الله تعالى: ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة:21]. وقال تعالى ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يوسف:110]».
سيبقى شهداء رابعة وأخواتها ذكرى أليمة، في نفوس من شهدها، ومن عاش معنى الحرية، وشاهد الظلم والبطش والتنكيل بهؤلاء الأبرياء- مهما كانت دعاوى الباطل.
ستبقى رابعة وأخواتها من ميادين الحرية ذكرى خالدة - أبد الدهر- وعلى مر العصور؛ ذكرى تزرع في الناشئة معنى الاستبسال والتضحية في سبيل الدفاع عن الدين والوطن، الدفاع عن الحرية وعن الحق. وإن هذه الأرواح التي أزهقت لن تذهب سدى عند الله، ولا عند الناس الذين يقدرون معنى الحرية والعزة والكرامة؛ فقد تعلمنا منها دروسًا كثيرة تضئ لنا طريق الكفاح من أجل استرداد الحق المسلوب والوطن المغصوب، والحرية المفقودة. ولن تذهب سدى عند الأجيال؛ وسيأتي يوم – إن شاء الله تعالى- وتدرس "ذكرى رابعة وشهداء رابعة" في المناهج الدراسية؛ ليتعلم منها النشء، كما تعلموا من سير شهداء الإسلام على مر العصور والأزمان. رحم الله شهداء رابعة وكل من استشهد في ميادين مصر؛ ورحم الله الشهيد الرئيس محمد مرسي الذي بذل حياته وضحى بها رخيصة من أجل رفعة دينه ووطنه، وعزة شعب مصر وكرامته.
قال تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص:5].