طوفان الشرق يتسع.. وأنوار البدايات تبدد الرواسب الطائفية
يقولون إن البدايات -عادة- تُرى واضحة وقوية، لأسباب كثيرة، منها أن من سينتبه إلى ضرورة حضورها سيكون ذا عقل نابه وقلب واع سليم، وسيكون موصولا بروح الحالة كلها، والأهم أنه بالفعل والواقع، كانت هناك بداية حقيقية، وكانت لها أفكار ولها رجال ولها تاريخ موثوق.. وفى هذا ما يبعث على الكثير والأكثر من الاطمئنان إلى سلامة السير وصواب الطريق.
وهذا في حد ذاته ضرورة.. من ضرورات الوجود الحضاري والتاريخي للأمم، ولعل عقدة الغرب من (الشرق المسلم) انعقدت من هنا، فهناك (ماضٍ) له بداية عظمى، وعظمى بالتوصيف الدقيق للحال، فهي (وحى السماء) و(نبوة خاتمة). والموضوع دخل كل تجارب البرهان والإثبات، ومر بكل مراحل التاريخ التقليدية التي تمر بها كل الموضوعات الكبرى، لتصبح يقينا يتحرك عبر الأجيال، وبقي ما كان كما كان، وزاده التاريخ تصديقا، والعلم إثباتا وتوثيقا.
إنه(القرآن) بكل ما يحوي من كنوز العطاءات التي لن تنفد أزلا وأبدا (الرحمن/ علم القرآن/ خلق الإنسان).. والارتباط هنا أوضح من أن يفسر، ويكفي ما تشعر به، وما يقع في نفسك حين تسمع، اترك المفسرين أصحاب المجلدات العديدة العريضة، ارجع لهم فقط في تفسير معاني بعض الكلمات، وشرح آيات التشريع والأحكام.
وعش أنت مع القرآن بروحك، فهناك سر خاص بك أنت، أنت وحدك، لن تعلمه إلا من المرة بعد المرة.. ثم المرة، ولا أدرى حقيقة ماذا كان سيكون حالنا من غير (القرآن)؟.
لهذا ؛ فإنّ أهل الطريق جعلوا التلاوة رقما واحدا في مربعهم الذهبي :(التلاوة والبساطة والطاعة والنظافة) وهذا المربع يعتبر قوام (الشخصية) في رحلة الطريق للوصول.
حسرة الماضي المهلهل عند الغرب الأوروبي، جعلتهم يذهبون إلى اليونان وحضارة الإغريق ويعتبرونها ماضيهم الذى خرجوا منه و(هويتهم) ونظرياتهم في السياسة والفلسفة والعلوم والفنون ..
ليكن ذلك يا (مسيو)، في النهاية نريدك أن تكون إنسانا متحضرا عاقلا هادئا .. ليس أكثر!
صراعنا مع الغرب لم ينته كما قلنا مرارا وتكرارا، والغرب الآن تمثل رأس السهم فيه (أمريكا) التي يمثل اليهود فيها قوة نافذة، فغير أنهم في أمريكا أكبر تجمع يهودي في العالم، يفوق في حجمه إسرائيل ذاتها، سنجد أن العلاقة بين إسرائيل وأمريكا علاقة خاصة وعميقة؛ فالاثنان قاما على الاستيطان والإحلال ومحو تاريخ الآخر. كما يقول أستاذ الأساتذة د/ عبد الوهاب المسيري رحمه الله .
وأيضا توجد العلاقة (السياسية العملية) التي تجعل أمريكا هي المسؤول الأبوي مسؤولية كاملة عن (إسرائيل) التي تنوب عنها في المنطقة، وهي التي تحفظ للشرق الأوسط استمراره السياسي والاجتماعي، على الشكل الذى يريده الغرب وتريده أمريكا، وينبغي أن يستمر ويبقى عليه (بعيدا عن أفكار البدايات) ..
وما نراه ونسمعه عن أن إسرائيل تتحدى أمريكا، ولا تخضع لبايدن وينتظرون ترامب، والديمقراطيون والجمهوريون - كل هذه أهازيج (الليالي الملاح) التي يشتغل عليها من لا شغل له في الإعلام..
الحقائق في جوهرها هي هي، كما هي.
ومواقف وزير خارجية أمريكا ليست فقط لكونه يهوديا كما يقول، بل لأنه يطبق ثوابت استراتيجية تمثل جوهر العقل الأمريكي في النظر للشرق الوسط.
كل ما يحدث من إبادة وتقتيل وتدمير في غزة قرار أمريكي بالأصل والأساس، لتأديب أهلنا في غزة، قبل محاربة المقاومة، لأنَّهم احتضنوها، والمقاتل المجاهد، ما هو إلا لبن أمه، وحضن أمه، وخبز أمه، وقهوة أمه (الله يرحمك يا محمود يا درويش).
ثلاثة من الكبار (فيلسوف ومفكر وشاعر) كنت أتمنى أن يكونوا بيننا الأن، ولو أن أعطيهم من عمري أعمارا، ليشاهدوا بأعينهم ما قالوه وتوقعوه، وليتعرفوا أكثر وأكثر، على النضج الهائل الذي وصلت إليه المقاومة في الفهم والقراءة السياسية والقدرة وثبات القدم.
بل رغم عمقها الإسلامي العميق- سنجدها في غاية القرب والتفهم للآخر، المقاوم المختلف، وأيضا الإعراض الجميل المترفع عن سفاهات السفيه هنا وهناك ..
وهي سلوكيات الرقى والنبل والعظمة، التي شرب ماءها (المجاهد الجديد) من إناء (الإخلاص والحب والقرب والتجرد) للعلى العظيم، رب العالمين.
وكم تمنيت أن عاصروا (الحاج يحيى) وتعرفوا على ثقافته الواسعة وعقله الرحب وصدره الأرحب، وجرأته وشجاعته ودقته في قراءة التاريخ قراءة موصولة بالواقع.
من هم هؤلاء الثلاثة؟
د/ عبد الوهاب المسيرى الذى قال لنا مرة: أنه كلما تحدث مع أحد أعضاء النخب العربية عن نهاية إسرائيل وجدته ينظر إليَّ كما لو كنت مجنونا .. ولذلك قررت أن أصدر كتابا عن (نهاية إسرائيل) كله من مقالات لكتاب إسرائيليين في الصحف الإسرائيلية.
فالإسرائيلي يشعر أنه تم توريطه للعيش في فلسطين أي في قلب ووسط الأمة العربية والعالم الإسلامي، بكل ما يعنيه ذلك من صراع لا ينتهي..
د/ إدوارد سعيد الذي قال: إن القضية الفلسطينية تم التخلي عنها خوفا من قول الحقيقة، والإقرار بوجود أقسى حالة من حالات الظلم في العالم (أكبر قضية عنف تاريخي ضد الإنسانية).
أين هو من مشهد المظاهرات في قلب الجامعات الأوروبية والأمريكية خاصة جامعته الشهيرة (كولومبيا) والتي كان فيها نجما حقيقيا..
ويبقى كتابه الفريد(الاستشراق) أهم ما يقرأه العربي والمسلم والإنسان الشرقي عامة في معرفة مقدار القذارة والدناءة التي كان عليها الاستعمار الأوروبي للعالم وما مثله المستشرقون في تبرير هذه القذارة.
أما ثالثهم فهو محمود درويش الذى كتب تلك القصيدة الرائعة، فور اندلاع الانتفاضة الأولى 1987م.. والتي اجتمع من أجلها الكنيست وهاجمه اسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل وقتها في الكنيست بمنتهى البذاءة.. وقال: كان بإمكاني أن أقرأ القصيدة أمام البرلمان لولا أني أربأ بأن أمنحها(شرف!!!!) تسجيلها في محاضر الكنيسيت.
تقول أبيات من القصيدة:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف – ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز – ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
أجمل ما في هذا المشهد الهائل العظيم الذي يعيشه الشرق الآن، أن جميع أطراف المقاومة الفاعلة والمساندة، تنتمي إلى (أفكار البدايات) وإذا نزعت عن هذا المشهد كل الرواسب الطائفية القديمة، والتي عمليا يتم التخلص منها فعليا كلما أوغل هذا الحدث الأعظم.. طوفان الأقصى، في ثنايا وأجواء ساحات الشرق كله، ولامس فيه كل الأعصاب العارية: فكريا ومذهبيا وسياسيا واجتماعيا- قد يبدو الأمر كأن لم يتغير شيء في الظاهر، لكن علينا أن نعلم أن كل شيء يتغير بالفعل.
وهنا لن ننسى (فتية الأنفاق) أولئك الأطهار، ذوو القلب السليم، القلب الذي ضاق بصدره، فخرج يحلق في سماوات أيامنا وليالينا بأنوار البدايات الأولى، فانتشر قبسه في المكان كله؛ فأضاء دنيا الظلام التي أحاطونا بها.. وعمت فيه شعاعات، ستصبح إن شاء الله هي (ضوء الأضواء) لأزمان طويلة قادمة. (منقول بتصرف)
رابط المصدر