

الإجراءات الفرنسية ضد الإخوان المسلمين: الخلفيات، والدوافع، والتبعات
ملخص تقدير موقف
يومًا بعد يوم، تمضي فرنسا قدمًا في إعادة صياغة موقفها من الأقلية المسلمة وحركات الإسلام السياسي الناشطة على أراضيها، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين.
فقد أعلن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في يوليو 2025م، حزمة إجراءات مُشدَّدة ضد الإخوان المسلمين، بهدف تجفيف منابع الجماعة، وتحجيم نشاطها على الأراضي الفرنسية. تشمل هذه الإجراءات اتخاذ تدابير صارمة فيما يتعلق بالأموال والتبرعات، وتصفية الجمعيات، وتخفيض الاعتماد على الأئمة من خارج فرنسا.
استند ماكرون في قراره إلى تقرير حكومي، جاء فيه أن جماعة الإخوان تمثل تهديدًا تخريبيًّا لقِيَم الجمهورية، وتتبع إستراتيجية اختراق تدريجي للمجتمع الفرنسي، عبر التأثير على المؤسسات المحلية، مع اعتماد خطاب ديني محافظ يناهض مبادئ العلمانية. كما اعتبر التقرير أن الجماعة تسعى لخلق فضاءٍ موازٍ، من خلال أدوات قانونية وتنظيمية، دون اللجوء إلى العنف، مما يجعلها تهديدًا "هادئًا" للوئام الوطني.
الإجراءات الحكومية لا يمكن فصلها عن الخلفيَّات التاريخية لتوتر العلاقة بين فرنسا والتيَّارات الإسلامية، ولا عن التغيُّرات المتسارعة في البيئة الأوروبية، حيث يتنامى خطاب "الإسلاموفوبيا" ويَتعزَّز حضور اليمين المُتطرِّف، مما يدفع الحكومات إلى تبنِّي سياسات أكثر تشددًا تجاه الإسلام السياسي. كما تتقاطع هذه الإجراءات مع سياقات إقليمية ودولية، تتعلق بدور الإخوان في دعم المقاومة الفلسطينية، وموقفهم الرافض للتطبيع، فضلًا عن كون الجماعة عابرة للحدود، وهو ما ترى فيه باريس مصدرًا للتهديد.
الخلفيات والمقدمات
يمكن وَصْف الموقف الفرنسي المُتشدِّد تجاه جماعة الإخوان بأنه موقف "طبيعي" و"متوقع"، في إطار تاريخ طويل من التحذير من الإسلام والتضييق على الحركات العاملة من أجله.
فالمسلمون يمثلون نحو 10 بالمئة من سكان فرنسا، وتُعَد جماعة الإخوان من أبرز الفاعلين في أوساطهم، من خلال مؤسساتها الدعوية والثقافية.
ورغم تبنِّي الجماعة لخطاب معتدل، إلَّا أن السلطات الفرنسية تتعامل معها كتهديد أمني، وليس كمكون مجتمعي، وزادت من التصعيد ضدها منذ أحداث 11 سبتمبر في أمريكا، وصولًا إلى عام 2020م، وإصدار قانون "تعزيز المبادئ الجمهورية"، الذي استُخدِم لحل جمعيات ومنظمات تابعة لها أو محسوبة عليها.
بموازاة ذلك، تنامت ظاهرة الإسلاموفوبيا، مدفوعةً بخطاب اليمين المتطرف، وتسببت في تهميش المسلمين وحرمانهم من المناصب العامة وتَعرُّض بعضهم للأذى الجسدي، ما دفع الآلاف من الكفاءات إلى الهجرة من فرنسا.
السياق الداخلي للإجراءات
أقدمت الحكومة الفرنسية على اتخاذ إجراءاتها ضد الإخوان في سياق واقع داخلي يَدفع في اتجاه تحجيم الإسلام داخل فرنسا بشكل عام، ومواجهة الجهات الفاعلة في خدمة الأقلية المسلمة، خاصَّة جماعة الإخوان، بشكل خاص.
فالدولة الفرنسية تتبنى نموذجًا علمانيًّا صارمًا، يُبعِد الدين عن الشأن العام، لكنه يستهدف الإسلام بشكل خاص، ونشاط حركات مثل جماعة الإخوان، التي ترى الحكومة أنها تهديد للنموذج العلماني.
أيضًا، تبرر الحكومة تشددها ضد الإخوان بالمخاوف الأمنية التي زادت بعد هجمات إرهابية اتُهِم فيها مسلمون، رغم عدم وجود علاقة للإخوان بهذه الهجمات.
وبالإضافة إلى ذلك، يُنظَر إلى الإخوان على أنهم مصدر خطر ثقافي على الهويَّة المسيحية العلمانية في فرنسا.
كذلك يُعتبَر ملف مهاجمة الإخوان ورقة رابحة للسياسيّين الفرنسيّين، الذين يستخدمون التخويف من الإسلام في كَسْب تأييد الناخبين، خاصَّة في ظِل صعود التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة.
السياق الخارجي للإجراءات
لا يمكن الحديث عن الإجراءات الفرنسية ضد الإخوان بمعزلٍ عن السياق الخارجي لها، بحكم أن الجماعة عابرة للحدود، وتشتبك مع كثير من القضايا الإقليمية والدولية، ولها تواجد في كثير من الدول التي توجد فيها مصالح للدولة الفرنسية.
فبَعد عملية "طوفان الأقصى"، أصبحت الجماعة في دائرة استهداف الغرب؛ لكونها الحاضنة الفكرية والداعم الرئيس لحركة حماس. وكانت فرنسا سَبَّاقة في محاولات تجفيف منابع المقاومة، عبر محاربة الإخوان.
يُضاف إلى ذلك أن فرنسا واحدة من الدول التي تدعم إقامة "شرق أوسط جديد" بقيادة إسرائيل، وهو ما يعارضه الإخوان.
كذلك تُشكِّل إجراءات فرنسا ضد الإخوان جزءًا من تنسيق أمني وسياسي مع دول عربية معادية للجماعة. هذه الدول لا تُفوِّت أي فرصة لتحريض الحكومات الغربية ضد الإخوان، وتدعم مراكز أبحاث ووسائل إعلام فرنسية لتعزيز الخطاب المعادي لهم.
مواقف القوى المعنية
تباينت مواقف القوى المَعنية بالإجراءات المتخذة ضد الإخوان المسلمين في فرنسا، ما بين مُبرِّر ومزايد ورافض لها.
فالحكومة الفرنسية حاولت تصوير الأمر على أنه لا علاقة له بالإسلام كديانة، إلَّا أن استخدام مفهوم الدفاع عن العلمانية بطريقة انتقائية ضد المسلمين فقط، ودون أن يشمل ذلك الكاثوليك أو اليهود، يؤكد أن التضييق يتجاوز الإخوان إلى الإسلام نفسه.
أما اليمين المتطرف، فقد زايد على موقف الحكومة، واتهمها بالتساهل مع الإسلام السياسي، وطالب بمزيدٍ من الإجراءات التي تصل إلى حد الحظر الكامل لجماعة الإخوان.
اليسار الفرنسي بدوره جاءت مواقفه متوافقة مع مبادئه العامة التي ترفض التمييز ضد المسلمين، ووَصَف التضييق على الإخوان بأنه إمعان في الإسلاموفوبيا.
وإذا انتقلنا إلى الإخوان المسلمين، فسنجد أن موقفهم دفاعي بشكل عام، ويُركِّز على رفض التوصيفات والإجراءات المُتشدِّدة ضدهم، مع الحث على الحوار.
الأثار والتبعات
لا شك أن الإجراءات الحكومية الفرنسية ضد الإخوان المسلمين سوف يكون لها أثر سلبي على الجماعة في فرنسا، ولكن هذا الأثر لن ينحصر داخل الأراضي الفرنسية، وستكون له ارتدادات على الإخوان في الغرب والدول العربية والإسلامية.
فهذه الإجراءات تُقرِّب الجماعة من التصنيف كتنظيم إرهابي في أي موجة تصعيد قادمة من جانب الحكومة الفرنسية، وتجعلها تواجه تضييقًا على جمعياتها ومؤسساتها، وتشديدًا على تمويل أنشطتها، وملاحقة أعضائها والمؤيدين لها. هذا الواقع يُضعِف حضورها الاجتماعي والثقافي، ويُقلِّص تمثيلها للمسلمين، ويُعمِّق فجوة الثقة بين منتسبيها وبين الدولة. كما يؤدي إلى شعور متزايد بالاضطهاد، خاصَّة لدى الشباب، ويُفاقِم أزمة الهويَّة، ما قد يدفع البعض إلى العزلة أو الانضمام لتيَّارات بديلة.
وعلى المستوى الأوروبي، تُضعِف هذه الإجراءات مكانة الجماعة؛ لأنها قد تُشجِّع حكومات أخرى على اتباع النهج الفرنسي.
وفي العالم العربي والإسلامي، يمكن لهذه الإجراءات أن تُعزِّز موقف الأنظمة المعادية للإخوان، وتمنحها غطاءً دوليًّا لتوسيع حملاتها ضدهم.
التعاطي مع الإجراءات
ثمَّة مساران للتعاطي مع الإجراءات الفرنسية ضد الإخوان، بعيدًا عن منطق الاضطهاد والمؤامرة، حتى وإن ثبت وجودهما، وعَبْر إدراك الحاجة إلى مراجعة ذاتية عميقة، لتقييم التجربة الإخوانية في فرنسا، وتقويمها، وفهم دوافع المخاوف والاتهامات الفرنسية، والتعامل معها بجدية، بدلًا من تجاهلها أو إنكارها.
المسار الأول هو مسار المراجعة والنقد الذاتي، الذي يتطلب البحث في نقاط الضعف في الأداء للتخلص منها. ورصد الاتهامات الصحيحة، أو التي تحتوي على شيءٍ من الصِحَّة، والعمل على إزالة أسبابها، لقطع الطريق على مَن يستخدمها ضد الجماعة. والاعتراف بوجود قضايا إشكالية حقيقية تثير هواجس السلطات الفرنسية، وتحتاج إلى اجتهادات جديدة ومواقف واضحة، تُراعِي الثوابت الإسلامية ومبادئ الجماعة وطبيعة البيئة الفرنسية وإكراهاتها.
أما الاتهامات الكاذبة فمجال التعاطي معها يكون عبر المسار الثاني، وهو مسار المقاومة والمواجهة، الذي يحتوي على مسارات فرعية كثيرة ومتنوعة، فيها السياسي والإعلامي والفكري والتنظيمي والدعوي والقضائي والحقوقي والمجتمعي. وكلها مسارات متاحة، ولكنها تحتاج إلى تفعيل وتنسيق وحُسْن استفادة.