من وحي مولد النور
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه..
وبعد؛ ففي عام الفيل، وفي شهر ربيع الأول، وُلد سيد- صلى الله عليه وسلم-، في أسرةٍ معدنها أصيل، لها مكانتها وشأنها في جزيرةِ العرب، وحين سُئل- صلى الله عليه وسلم- "أي الناس أكرم؟ قال: فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" (أخرجه البخاري ومسلم).
إن من سنن الله عزَّ وجل أن المعاني المجردة لا تستقر في الأذهان إذا لم تقترن بواقعٍ محسوسٍ، يوضح معالمها ويطبق مبادئها، ويدل على إمكانِ تطبيقها في دنيا الواقع، وشاء الله عزَّ وجل أن يجسد في رسوله الكريم مبادئ الإسلام، ونظام شريعته الخالدة، فأقامه نموذجًا عمليًّا واقعيًّا، هو قمة عالية في الفضائل، بل وجميع الكمالات التي تحتاج إليها البشرية، لتتحقق خلافة الله على هذه الأرض لعمارةِ الكون.
المطلوب من كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ، ومن أصحاب الدعوة على الخصوص- إن أرادوا صلاحًا وفلاحًا وسعادةً وفوزًا فى الدنيا والآخرة- أن يتخذوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدوةً لهم ومثلاً أعلى أمامهم: في عبادته وطاعته وجهاده وشجاعته، ورحمته ورأفته، وبذله وعطائه، وعدله وقضائه، وحلمه وأناته، وعلمه وحكمته، وكرمه وسخائه، وصبره وسماحته، ولينه وعطفه، وهذا هو معنى الآية ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ (الأحزاب).
نعم.
تهل علينا تلك الذكرى العطرة ومعظم أقطار العالم الإسلامي في حالٍ يُرثى لها، من ضعف وتفكك وتشرذم، وتدهورٍ اقتصادي واجتماعي وأخلاقي، وغياب للرؤية الواضحة، وفقدان للهدف والإستراتيجية الواحدة، فضلاً عن التبعية، ومن جانب آخر نرى شعوبًا إسلاميةً مقهورةً، مسلوبةَ الحرية والحقوق والإرادة، لا تشارك في صنع قرارها أو تحديد مصيرها، وقد وقعت ضحية الأسلوب الاستبدادي والنهج القمعي.
وفي المقابل نرى قوى الباطل تسوي ما بينها من خلافات، وتحرص على التنسيقِ والتشاور وتعمل على توحيدِ المواقف، خاصةً ضد الإسلام والمسلمين، سعيًا إلى تركيعهم وتوهين عقيدتهم وإفساد أخلاقهم والقضاء على خصوصيتهم الثقافية وطمس معالم تراثهم الحضاري واستلاب خيراتهم ونهب ثرواتهم.
إن عالمنا اليوم في أشد الحاجة إلى الإسلام أكثر من أي وقتٍ مضى.
الحكومات والشعوب والمجتمعات على السواء.
مشكلات السياسة والحكم وكيف تحل؟! مشكلات الحرب والسلام وكيف تعالج؟ مشكلات الاقتصاد والغذاء وكيف يجد طريقه إلى الشعوب المعدمة؟ مشكلات الطاقة وكيف تنهض بالأمم المتخلفة؟ وهكذا بالنسبة لمشكلات الشباب، والمرأة والأسرة والطفل، فضلاً عن المشكلات والصراعات الدولية التي أصبحت من معالم عالمنا المعاصر.
أيها الإخوان في كل مكان.
إن دعوة الإخوان المسلمين التي نتشرف بحملها والانتساب إليها لن يقدر الطغاةُ على النيل منها أو الحدِّ من انتشارها، لأنها دعوة الحق سبحانه فهو صاحبها وحافظها وراعيها، وهي ليست دعوةً محليةً، تنحصر في حدود وطن صغير، وإنما هي دعوة عالمية للناس جميعًا، تستهدف إرساء قواعد الحق والعدل والحرية والمساواة بين بني البشر في كل أرجاء الدنيا، كما أنها تستهدف إيقاظ الهمم والعزائم في نفوس المسلمين، فهي عنوان صحوة وانبعاث لا نوم بعده، وتجرد لا عبوديةَ معه، وعلم لا جهلَ وراءه، ولم يعد من السهل أو الممكن أن يحال دون انتشار هذه الروح أو امتدادها، وما ذاك إلا لأنها تعبيرٌ صادقٌ عن شعورٍ عميقٍ، ملأ نفوس المسلمين جميعًا واستولى على مشاعرهم، وإنَّ الإخوانَ بفضلِ الله وحده ليضعون كل إمكاناتهم رهن وصول المسلمين إلى حقهم الكامل في الحياة الحرة الكريمة، لا يضنون في سبيلِ ذلك بدمائهم ولا بأموالهم، ولا بجهودهم، وإنَّ لهم من إيمانهم وصدق وطنيتهم ما يجعلهم قادرين على تحمُّل الأعباءِ الجسيمة في معارك الحياة المقبلة.
أيها الإخوان.
إن في سيرةِ رسول الله، وفي حياته وفي صبره وتحمُّله الأذى من قريش ومن العرب، ثم شجاعته وثباته في مواجهةِ الباطل والمبطلين لدروسًا وعبرًا، تحفظنا في مواجهة التحديات، ومن تنكُّر البعض لدعوتنا، تحفظ من الحيرة والإحباط الذي قد يشعر به البعض من غريبِ ما ينزل بالدعاةِ من المبطلين والمفسدين والمستكبرين.
إنَّ ما يُحاك للإخوان من فتنٍ، وما ينزل بهم من نكباتٍ ليس بغريبٍ، فهذه طبيعة الدعوات والمحن والاختبار، ليظهر الصادق من الكاذب قال تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)﴾ (العنكبوت).
إنَّ من شأن الالتزام بالسنة والاقتراب من حياة النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يشعل جذوة الإيمان ويلهب روح التحدي والمقاومة في عزائم الشعوب المغلوبة على أمرها، فلا تستكين لظلمٍ، أو تلين في مواجهة باطل أو تستسلم أمام واقع مرير.
إن وقفته- صلى الله عليه وسلم- أمام جبابرة قريش وأمام عمه، حين ظنَّ أنه سيخذله وقوله له: "يا عم والله لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهِرَه الله أو أهلك دونه" إنها وقفةٌ يجب أن نتأمَّلها وأن نتأسَّى بها.
أيها الإخوان.
إن الطريق واضح، والنهج مستقيم لكل ذي عينين، وفي رقابكم أمانة التربية والإعداد، ويبدأ على أيديكم الإنقاذ، حين تعود الأمة بحقٍّ إلى ربها، وتسيرَ على هدي نبيها، وتنسى الأحقاد والشحناء والخلافات وتُجيب أولاً عن سؤال: ما هي هويتها؟ ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ﴾ (البقرة: 138).
وحين تحدد موقفها، وتجيب إجابةً واضحةً صريحةً- بحكم ما تملك من ميراثٍ وتجاربٍ ومعطياتٍ- ثم تتجه بعدئذٍ إلى وضع الأسس التي تساعد على تحقيق هذه الهوية، وهي الحرية والكرامة الإنسانية لكل فردٍ يعيش على أرضها، سواءٌ كان مسلمًا أو غير مسلمٍ.
أقول تكون قد بدأت طريق النهضة.
يجب أن نعلم أنه بدون الحرية والكرامة الإنسانية لا يمكن لأمةٍ أن تقف على قدميها، أو تُسهم في صُنع الحضارة الإنسانية أو تحقيق الهوية، وبدون الكرامة لا يتحقق لأمة استقلالُها وكيانها، فلا إنتاجَ ولا ابتكارَ ولا تقدمَ ولا استقلال، فالعبيدُ يظلون دائمًا في دنيا الذل والعبودية للمستبدين، واليد المرتعشة لا يمكن أن تبني أو تشيد، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ (الرعد: من الآية 11).
أيها الإخوان.
ما قيمة العرب بغير الإسلام؟! وما قيمة المسلمين بغير الإسلام؟! وما قيمتهم بغيرِ هذه الرسالة؟! وما الفكرة التي يملكون تقديمها للبشرية إذا تخلَّوا عن هذه الدعوة؟! إن العقيدةَ الإسلاميةَ هي التي رفعت هذه الأمة إلى مكان القيادة والصدارة حين التزمت بها، ومن يوم أن تخلى المسلمون عنها لم تعد لهم وظيفة في الأرض، ولا كيان بين الدول، ولم يعد لهم في التاريخ دورٌ، وصدق الله العظيم ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ (الأنبياء :10)، وبالمنهج المعتدل السمح الذي يملكونه صاروا شهداء على الناس، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ (البقرة: من الآية 143)، وبأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر اكتسبوا تلك الخيرية التي تحدث عنها القرآن: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران 110)، فإن تنكَّروا لهذا المنهج صاروا ذيولاً في القافلةِ البشريةِ وتحوَّلوا إلى التبعيةِ الذليلةِ يجرون وراء كل ناعق.
لقد كان العربُ في أحطِّ دركاتِ الجهلِ والعماية، ورغم هذا فالإسلام هو الذي خلَّد ذكرهم، وأعلى شأنهم، وأوجد لهم أعظم حضارةٍ عرفها التاريخ, وإن شئت فاقرأ ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(2)﴾ (الجمعة)، ومن أجل هذا لن يعودَ المسلمون إلى سالفِ أمجادهم إلا بالعودةِ إلى محكمِ دينهم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين