يا أمة الإسلام اتحدوا
بسم الله، والحمدُ لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.أما بعد!! فإن أمتَنا تمرُّ في هذه الآونةِ بمنعطفٍ تاريخيٍّ مصيريٍّ خطيرٍ؛ حيث تداعَت عليها قُوى البغيِ والعدوانِ، التي تضعُ المخطَّطاتِ، وترسمُ المشروعاتِ، وتدبِّرُ المؤامراتِ؛ للسيطرةِ على بلادِنا، واستهدافِ عقيدتِنا، وطمسِ هويتِنا، ونهبِ ثروتِنا، وتحدِّي إرادتِنا.
وفي سبيل ذلك يتجاوزُ هؤلاء الأعداءُ خلافاتِهم الحاليةَ (وما أعمقَها) ويتناسَون عداواتَهم الماضيةَ (وما أشدَّها)، ومن ثمَّ وجَب على أمةِ الإسلامِ أن تكونَ على وعيٍ تامٍّ بهذا، فتأخذَ أهبتَها وتعدَّ عدتَها، وتستجمعَ قوتَها لهذه المواجهة الشرسة، وأولُ هذه القوةِ وأَوْلاها- بلا شكٍّ- هي قوةُ الوحدة.
الوحدة ضرورة واقع يا أمة الإسلام.
الوحدةُ ضرورةٌ يُمليها هذا الواقعُ القاسي، الذي تظهر تضاريسُه وتتضحُ معالمُه لكل ذي عينين، فالأقوياءُ نراهم يتَّحدون ويتكتَّلون في كلِّ مجالٍ وعلى كل صعيدٍ لتحقيقِ أهدافِهم ونَيْلِ مآرِبِهم، ففي المجال السياسي نرى الاتحاد الأوروبيَّ وهو يتوسَّع ويتمدَّد يومًا بعد يوم ليستوعِبَ شظايا الكتلة الشرقية المتفتِّتة المتناثرة، ونرى توحُّدَ شطرَي ألمانيا، ونرى تنسيقَ المواقفِ السياسيةِ في المنظماتِ والمؤتمراتِ الدوليةِ.
وفي المجالِ الاقتصاديِّ نرَى قيامَ الشركاتِ العملاقةِ، المتعددةِ الجنسيات، وعابرةِ القارات، ونرى كذلك عقدَ المؤتمراتِ والاتفاقياتِ لبلورةِ نظامٍ اقتصاديٍّ عالميٍّ ينطلق محققًا مصالحَ القوى التي أنشأته، ويجرُّ خلفَه الصَّغارَ الضعفاءَ، فمن أبَى منهم داسُوه وسَحَقوه بلا رحمةٍ وهم لا يبالون، وفي المجالِ الاجتماعيِّ والثقافيِّ تواصَلَت سلسلةُ المؤتمراتِ عن المرأةِ والطفلِ في نيويورك والقاهرة وبكين وغيرها، وتوالَت كذلك الجهودُ الحثيثةُ والمحاولاتُ المحمومةُ للغزوِ الثقافيِّ وفرضِ النموذجِ الغربيِّ الأمريكيِّ بكلِّ الوسائلِ الفكريةِ والأدبيةِ والفنيةِ والإعلاميةِ، منتهكين في ذلك أخصَّ الخصوصياتِ لتلك الشعوبِ التابعةِ المغلوبةِ على أمرِها، وفي المجالِ العسكريِّ نرى حلفَ الشرِّ للأممِ الغربيةِ المسمَّى بـ(حلف شمال الأطلنطي)، وقد استبدل العدوَّ الأخضرَ (الإسلامي) بالعدوِّ الأحمر (الشيوعي)، وقد قالها قادتُه صريحةً متبجِّحةً بلا وجَلٍ ولا مواربةٍ، وسارَ هذا الحلف خلفَ زعيمِه بالقوة الكبرى المنفلتة المستكبرة (أمريكا)، وراحوا جميعًا يعربدون هنا وهناك، ويعيثون في الأرض فسادًا في أفغانستانَ وفي العراقِ، وتلاقَتْ إرادتُهم، وتشابَكَتْ مصالحُهم مع المشروعِ الصهيونيِّ الآثِمِ في فلسطين، فأخذوا يُترجمون ميولَهم الإجراميةَ ونزعاتِهم الساديةَ قتلاً وتشريدًا وسجنًا وتعذيبًا وهدمًا وتخريبًا.
ومن هنا يا أمة الإسلام نقول إن وحدتنا ضرورة يمليها الواقع.
الوحدة ضرورة إيمان يا أمة الإسلام.
ليس هذا الواقعُ البائسُ المريرُ هو وحدَه الذي يناديكم أن اتحدوا، ولكنَّ إيمانَكم قبل ذلك وبعدَه يحدُوكم بها ويدعُوكم إليها، اسمعوا يا أمة الإسلام كلامَ ربِّكم واستوعِبوه والزَموه.
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ﴾ (الحجرات: 10) وانظروا كيف قَصَرت الآيةُ أمرَ المؤمنين على أمرٍ واحدٍ، هو الأُخُوَّة، وكأنَّ سائرَ أمورِهم لا تساوي شيئًا ولا تستحقُّ ذكرًا، إلى جانبِ أمر (الأُخُوَّة)، وهذا حقٌّ؛ فإن تحققت الأُخُوَّة الصادقةُ تحقَّق معها كلُّ مقصودٍ صالحٍ آخر.
من عبادةٍ ودعوةٍ وجهادٍ وقوةٍ ونصرٍ، وإن غابت الأُخُوَّة أخَذَت معها سائرَ المقاصدِ الصالحةِ، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)﴾ .
(آل عمران).
فكتابُ ربِّكم يا أمةَ الإسلامِ هو منهجُكم الذي فيه (عِصمتكم) من الزَّيغِ والضلالِ والهوَى، ومنه كذلك (عصابُكم)- أي رباطكم- الذي يلمُّ شَعثَكم، ويَجمَع شَتَاتَكم، ويَشدُّ أزرَكم، ويُقوِّي ظهرَكم، فالتفُّوا حوله، واستمسِكوا به، وإياكم أن تختلفوا فيه أو تتفرقوا بعده، كما كان حالُ مَن قبلكم من الأمم، فهذا طريق وعْرٌ يُفضي في الدنيا إلى الفشلِ الذريعِ وفي الآخرة إلى العذابِ العظيمِ، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)﴾ (الأنفال).
عالِجوا أسباب التفرق يا أمة الإسلام.
عرفتم أن الوحدةَ قرينةُ الإيمانِ، والتفرقَ- بالتالي- قرينُ الكفرِ، فاحرصوا على وحدتِكم لِتحقِّقوا إيمانَكم، وفتِّشوا عن أسبابِ الفُرقةِ بينكم فعالِجُوها في الحالِ، وامنعوها في الاستقبالِ، ومن هذه الأسباب: - الاختلاف على الثوابت والأصول وكيف يكون هذا يا أمةَ الإسلامِ؟! ألم نسمع تحذيرَ نبينا وحبيبنا- صلى الله عليه وسلم-: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وكيف يكون هذا يا أمةَ الإسلام وربُّكم واحدٌ، وكتابُكم واحدٌ، ونبيُّكم واحدٌ، وقِبْلَتُكم واحدةٌ، بل وآلامُكم وآمالُكم واحدةٌ، حسْبُكم يا أمةَ الإسلامِ أن تجتمعوا على ما يَصيرُ به المسلمُ مسلمًا، كما قال زيدٌ رضي الله عنه.
أما الاختلافُ على الجزئياتِ والفروعِ.
فلا يُقبَل من أحدٍ قط أن يُتخذَ ذريعةً للفرقة والخلاف، فإنه لا بد منه، وهو اختلافُ تنوعٍ وثَراءٍ، وهو دليلٌ على مرونةِ هذا الدينِ العظيمِ وحيويتِه وصلاحيتِه لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وما أدقَّ فقهَ الإمامِ مالك- رضي الله عنه- وما أعظمَ ورعَه حين رفضَ رأيَ أبي جعفر أن يدعو الناسَ لاتباعِ كتابِ الموطَّأ وتَرْكِ ما سواه.
- العصبية للعرق والجنس وكيف يقع الناسُ في مثلِ هذه العصبيةِ وقد سمعوا قولَ قائدِهم وقدوتِهم- صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فضلَ لعربيٍّ على أعجميٍّ ولا لأبيضَ على أسودَ إلا بالتقوى" وقوله أيضًا: "إن الله قد أذهب عنكم نخوةَ الجاهلية وتعظُّمَها بالآباء" .
- التنافس على السلطان والنفوذ فكيف يقبل مَن بَقيت فيه مَسكةُ عقلٍ أن يدبَّ النزاعُ ويَستشريَ الصِّراعُ في الأمةِ؛ بسبب مطمعٍ عاجلٍ لبعضِ فُتاتِها، فلا تبقَى للأمةِ حينئذٍ هيبةٌ ولا قوةٌ ولا حتى وجود.
- ترك بعض الحق فإذا أخذ الناسُ من المنهج وتركوا وفقَ أهوائهم تمزَّق الحقُّ أشلاءً وتلاوَم الناسُ وتدابَروا، وربَّما تقاتَلوا كذلك وكانوا كمن قال الله فيهم ﴿.
.
فَنَسُوا حَظًّا ممَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ (المائدة: من الآية 14).
- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإذا تُرك هذا الواجبُ عمَّت المعاصي والمنكراتِ، وأوغَلَ الناسُ مبتعدين عن صراطِ الله المستقيمِ؛ ولعلَّنا ندركُ الارتباطَ بين تركِ هذا الواجبِ وحدوثِ الفُرقةِ حين نلاحظُ ورودَ (النهي) ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)﴾ (آل عمران) مباشرةً عقِبَ "الأمر": ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (104)﴾ (آل عمران).
دعوتنا توحّد لقد عرفت دعوةُ الإخوان المسلمين هذا كلَّه بحمد الله تعالى، فأصَّلت في أدبياتِها ما يجمع ولا يفرِّق، وما يقرِّب ولا يُباعِد، وما يُحبِّب ولا يبغِّض، ومن ذلك موقفُها من الخلافاتِ الفرعيةِ الذي أوجزَه إمامُها المؤسِّس يرحمُه الله بقوله: "نحن نُجيزُ الخلافَ ونكره التعصبَ للرأي، ونحاول الوصولَ إلى الحقِّ، ونحمل الناسَ على هذا بألطف وسائل اللين والحب"، ومنها أيضًا تبنِّي هذه القاعدة الذهبية "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضُنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" ثم رأينا تاريخيًّا كيف خصَّص الإمام البنا- يرحمه الله- حجرةً فى دار الدعوة بالحلمية للتقريب بين المذاهب، وكيف كان موقفه إيجابيًّا من الدعواتِ التي ظهرت على الساحة في عصره.
نداء فيا دعاةَ الإصلاح في كل مكان من هذه الأمة، ويا أصحابَ الرأي والفكرِ، ويا مسئولي المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية، ويا زعماءَ الأحزابِ والنقاباتِ والجمعياتِ والاتحاداتِ، ويا أولي أمرِ المسلمين.
نهيب بكم جميعًا أن تنشروا ثقافةَ الوحدة في ربوعِ هذه الأمة، وأن تَحرصوا على إقامةِ دعائمِها وتوفيرِ مقوماتِها، وأن تكونوا بالمرصادِ لعواملِ الخلافِ والفُرقةِ، وصدَق مَن قال: تأبَى الرماحُ إذا اجتمعْنَ تكسُّرا وإذا افترقْن تكسَّرت آحادا والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.