الحرب على حماس حرب على الثوابت والمبادئ والحقوق المشروعة
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أشرفِ الخلقِ أجمعين، وعلى آلِهِ وصحبِهِ، وبعد.فإن قلوبَ المسلمين وأفئدتَهم يتنازعُها الحزنُ والأسى والخوفُ والوجلُ على ما يحدثُ في فلسطينَ، وما يُخشى أن يحدُثَ في قابلِ الأيامِ، بعد أن تقدَّمَ المتآمرون على القضيةِ الفلسطينيةِ خطوةً إلى الأمامِ، واكتسبوا أنصارًا جددًا من داخلِ فلسطينَ وخارجِها!! وما يبدو في الأفقِ الفلسطينيِّ يُنذرُ بتطوراتٍ خطيرةٍ، وانقلاباتٍ على الثوابتِ الأصيلةِ التي التزمت بها شعوبُ المنطقةِ وعاشت عليها.
تطوراتٍ وانقلاباتٍ يتحوَّل فيها الأخُ الشقيقُ إلى عدوٍّ لدودٍ مستباحِ الدمِ، ويصبحُ معها العدوُّ الأولُ حليفًا مؤتمنًا وصديقًا موثوقًا!! وذلك وفقَ خطةٍ تنطلقُ من أروقةِ البيتِ الأبيضِ؛ الذي تسكنُه إدارةٌ تهيمنُ عليها طموحاتُ التفرُّدِ بإدارةِ العالمِ، وتُحرِّكُها شطحاتٌ تلموديةٌ مرتبطةٌ باليمينِ الصهيونيِّ.
فبعد تعثُّرِ المبادراتِ والمشروعاتِ التي أطلقتْها الولاياتُ المتحدةُ في المنطقةِ من خريطةِ الطريقِ إلى مشروعِ نشرِ الديمقراطيةِ، ومن الشرقِ الأوسطِ الكبيرِ إلى الشرقِ الأوسطِ الجديدِ، وبعد الخسارةِ التي مُنِيَ بها الصهاينةُ في لبنانَ، والشكوكِ التي أحاطت بفاعليةِ قوةِ الرَّدعِ الصهيونيةِ.
ها هي الخطةُ الأمريكيةُ تدخلُ مباشرةً مرحلةً جديدةً بمشاركةٍ عربيةٍ وصهيونيةٍ، نحو إلغاءِ النظامِ الجماعيِّ العربيِّ، وتعزيزِ الطائفيةِ والانقساماتِ داخلَ المنطقةِ العربيةِ من ناحيةٍ، والانقلابِ على الديمقراطيةِ، وإشعالِ الحروبِ الأهليةِ في فلسطينَ من ناحيةٍ أخرى، وقد بدأ بالفعل تنفيذُ النقطةِ الثانيةِ، وهي الانقلابُ على الديمقراطيةِ الفلسطينيةِ التي لم تكن على المقاسِ الأمريكيِّ؛ لأن حماسَ التي حمَلتها الانتخاباتُ إلى السلطةِ لم تُلقِ بنفسِها في أحضانِ السياسةِ الأمريكيةِ ولم تَسِرْ وفقَ الأجندةِ الأمريكيةِ.
وهي ليست المرةَ الأولى التي تُشهرَ فيها الولاياتُ المتحدةُ سيفَها في وجهِ حماس، لكنها قد تكون المرةَ الأولى التي تجاهرُ فيها بحربٍ ليست أمريكيةً صهيونيةً فحسب، بل حربٌ دوليةٌ تتسعُ دائرتُها لتشملَ دولاً عربيةً، بالإضافةِ إلى الاتحادِ الأوروبيِّ.
وبعد محاصرةِ الحركةِ وتجفيفِ الدعمِ الماديِّ عنها دخلَت مرحلةُ المواجهةِ الحاسمةِ؛ بُغيةَ دفعِها إلى التخلِّي عن مشروعِ المقاومةِ، ومن ورائها دفعِ كلِّ الاتجاهاتِ الحيةِ والقوى الممانعةِ في المحيطِ العربيِّ الإسلاميِّ إلى الاستسلامِ للمشروعِ الصهيوأمريكيِّ.
لماذا استهدافُ حماس؟! * حماس مستهدفةٌ؛ لأنها تدعو إلى إدارةِ الصراعِ وفقَ إستراتيجيةٍ تقوم على توحيد الأمة، وتجميع طاقاتها وتسخيرِ قدراتِها - للانفكاك من الاستلابِ الأمريكيِّ - وإطلاق المشروع الحضاري الإسلامي كأساسٍ للتعاطي مع الخطر الصهيوني، الذي يشكِّل امتدادًا للمشروع الاستعماري الغربي.
* لأن حماس تريد أن تجعل من المقاومة الفلسطينية بؤرةَ إشعاعٍ لبزوغ المشروع الحضاري الإسلامي، ورأسَ حربةٍ في مقارعة أطماع التوسع والتمرد وأحلام السيطرة ونهب الثروات.
* ولأن حماس تنهض بواجبها في المقاومة فإن طروحاتِها تجد صدًى واسعًا في العالمَين العربي والإسلامي؛ مما يغذي اتجاهاتِ المقاومة للسياسات الأمريكية، ويعطي الحافزَ والنموذجَ للوقوف في وجه الأطماع الأمريكية.
* حماس برصيدها في الشارعَين العربي والإسلامي تمثل النموذجَ والقدوةَ، وتمثل ضغطًا على نظُم الحكم في العالمَين العربي والإسلامي؛ من أجل إعادة ضبط العلاقة مع واشنطن.
* حماس تدفع ثمنَ ما تتمتع به من مسئوليةٍ عاليةٍ ومصداقيةٍ وحسٍّ وطنيٍّ قائمٍ على المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني والتمسك بالثوابت وأصالة المنهج.
* حماس تدفع ثمن رفضها لمؤامرات تمرير الحلول السياسية، التي تتجاوز الثوابت والحقوق الفلسطينية الأساسية، وما تحظى به هذه المؤامرات من رضًا رسميٍّ عربيٍّ ودوليٍّ، يُجيز اغتصاب الأرض وضياع الحقوق.
* حماس تدفع ثمنَ قرارِها المستند على التمسك بخيار المقاومة كإستراتيجية للتحرير وعلى الحرص على الوحدة الوطنية ووحدة الصف الداخلي.
* حماس لا تجهل ولا تتجاهل ما يدور حولها من أحداث، وهي تأخذها بعين الاعتبار، وتحدد الآليات والسياسات المناسبة للتعامل مع المتغيرات، دون أن يعني ذلك الانسياق وراء متغيرات تتعارض مع ثوابت الحركة وحقوق الشعب الفلسطيني، فهي تحدد سياساتها بناءً على الثوابت وتمشيًا مع ما يعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
ولا يخفى أن موقف الإدارة الأمريكية من حماس مرتبطٌ بوضعها في العراق؛ حيث تتطلع للبقاء أطول فترة ممكنة؛ وهي لذلك تريد القضاء على كل دوافع المقاومة والجهاد ضد المحتلين في المنطقة، وهي تنظر إلى حماس والفصائل الفلسطينية باعتبارها أكبر مصدر لتغذية دوافع المقاومة، وترغب في القضاء على أي محور يمكن أن تلتفَّ حوله الجماهير، بما يمثله من قيم جهادية ووطنية وتاريخية، وهي ترى أن التعبئة التي بدأتها ضد ما تسميه الإرهاب لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا إذا شملت تصفية منظمات المقاومة الفلسطينية، وتنقل بذلك رسالةً مباشرةً إلى دول وشعوب المنطقة؛ للاستجابة للمطالب الأمريكية قبل أن تدركها ساعة الحساب.
وكما تداعت الأمم على حماس عام 1996 (حيث اجتمع زعماء العالم في قمة شرم الشيخ إثْر العمليات الاستشهادية التي جاءت ردًّا على اغتيال الشهيد يحيى عياش) يجتمع القوم اليوم على حماس من جديد.
الكيان الصهيوني الذي يرى في حماس عدوَّه الألَدّ، قادة السلطة وحركة فتح، دعاة الاستسلام داخل النظام العربي، والولايات المتحدة، والوضع الدولي المتراجع أمام واشنطن.
التفجير من الداخل إن الخطر الأشد يأتي اليوم من داخل فلسطين، فالقيادات المرعوبة منذ خروجها من الحكومة وضياع النفوذ والسطوة اللذَين تمتعت بهما منذ توليها السلطة في أعقاب اتفاقات أوسلو، هذه "القيادات" أخذت تتآمر ضد حماس، ولو أدى ذلك إلى صداماتٍ مسلَّحةٍ وإراقة دماء الأبرياء، ولو كان ذلك يحقق البند الأول من بنود خريطة الطريق بشأن تصفية ما يزعم أنه البنية التحتية للإرهاب.
إن الذين يشاركون في الحملة على حماس ليسوا معنيين بالمقاومة ولا بتخفيف معاناة الشعب الفلسطيني، فضلاً عن أن يكونوا معنيين بتحرير الأرض المغتصبة، ولكنهم معنيون بالكراسي والمناصب وتنفيس عقدهم تجاه حماس والظاهرة الإسلامية.
إننا نخشى من أن السلوك غير المنضبط لبعض الأطراف قد يتسبَّب في حربٍ أهليةٍ، طالما تجنَّبتها حماس، خاصةً أن فتح توقن أن حماس تشدِّد على الابتعاد عن الصراع الداخلي والفتنة وعدم الانجرار إلى حرب أهلية، والمؤسف أن يستغل البعض هذا التوجه الحميد لممارسة الضغط والابتزاز على حماس وحشرها في الزاوية من أجل انتزاع مواقف سياسية معينة.
حماس تجنَّبت الحرب الأهلية، وهناك قطاع كبير من فتح أيضًا ضد الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي، لكن مسار الأحداث لا يبشر بالخير؛ لأنه يترافق مع فتنة منظمة، تتولى كبرها قياداتٌ تنظيميةٌ وأمنيةٌ في فتح وبقايا من الأمن والمخابرات والشرطة ومَن يصعب عليهم استيعاب التخلي عن الحكومة لحماس التي انتخبها الشعب انتخابًا حرًّا وديمقراطيًّا، وهم لذلك لا يتورَّعون عن جرِّ البلاد والعباد إلى الهاوية، حتى أصبح هؤلاء شركاءَ في الحملة العالمية والعربية على حماس.
يعزز هذا القول ما تواترت به الأنباء عن إقامة معسكر تدريب تعده الولايات المتحدة في الخفاء في أريحا لتدريب قوات تابعة لرئيس السلطة الفلسطينية على شنِّ حرب أهلية، وما نُشِر عن طلب رئيس السلطة من الإدارة الأمريكية شحنةً كبيرةً من الأسلحة للحرس التابع له، وأن بنادق أمريكية استُخدمت بالفعل في عمليات إطلاق نار ضد أعضاء في حماس، وقام جهاز أمن الرئاسة بتجنيد الآلاف من الشبان، في حين وصلتهم معداتٌ وسياراتٌ شاركت في موجة التمرد التي وقعت أول الشهر الجاري ضد القوة التنفيذية التابعة لوزارة الداخلية، وما نشر عن قيام جيش الاحتلال برعاية توصيل إمدادات سلاح لعناصر الرئاسة، واعتراف رئيس الوزراء الصهيوني بإقرار شحنة أسلحة وذخيرة لتعزيز قوات الأمن التابعة لعباس، موضحًا: "فعلت ذلك لأن الوقت ينفد ونحتاج لمساعدة أبو مازن" كما قال مسئولون فلسطينيون ودبلوماسيون غربيون إنَّ الأردن ومصر قدَّمتا أسلحةً وذخيرةً وتدريبًا لحرَس الرئاسة، فيما يلجأ بعض منتسبي الأجهزة الأمنية ومسلّحي "فتح" للتهديد باغتيال القيادات المنتخَبة واستهداف وزراء ونواب وقادة حماس.
وتمادى بعض مسلحي "فتح"، فمنعوا استعادة الهدوء في الشارع الفلسطيني؛ وأقدموا على إعدام شاب فلسطيني بدم بارد في مدينة أريحا بعد أن همَّ بنجدة شيخٍ رفض الانصياع لأوامر المتمردين بإغلاق محله.
وقد أظهرت التصريحات الصهيونية مدى الانحياز لسلطة عباس وحركة فتح، فقد صرَّح وزير البنى التحتية الصهيوني بنيامين بن اليعازر "إنني أصلي من أجل أن تنتصر حركة فتح في هذه المواجهة، فمن المهمِّ جدًّا لإسرائيل أن تخرج حركةُ حماس خاسرةً بشكل واضح" مضيفًا أنه يتوجَّب على إسرائيل أن تمد يد العون لفتح ولأبو مازن الذي يتزعَّم "معسكر الاعتدال".
واعتبر بن أليعازر أن المواجهات الحالية يمكن أن توفِّر فرصةً لتجاوز نتائج الانتخابات التشريعية وإيجاد قيادة فلسطينية يمكن أن تشكِّل عنوانًا مناسبًا لإسرائيل، كما وصف شمعون بيريز (نائب رئيس الوزراء الصهيوني) الاشتباكات بين فتح وحماس بأنها" تبعث على الارتياح؛ لأنها تدل على أن معسكر الاعتدال الفلسطيني حيٌّ ويتنفس"!! وقال إنه يتوجَّب العمل بكل قوة من أجل تعزيز قوة ونفوذ أبو مازن وإضعاف حماس.
وقال الصحفي روني شاكيد في "يديعوت أحرنوت": إن معارك الشوارع الأخيرة جزءٌ من الصراع على الحكم، والذي سيقرر مستقبل الفلسطينيين: هل البقاء ككيان إسلامي أصولي كما تريد "حماس" أو الانخراط في المنطقة وفي الأسرة الدولية مثلما تتطلَّع "فتح" وأبو مازن؟! موقف مشرِّف لحماس ولرئيس الحكومة وفيما يقع هذا التواطؤ المخزي من جانب أطراف فلسطينية نجد أن موقف حماس ورئيس الحكومة إسماعيل هنية موقفٌ رائعٌ ومشرِّف، فقد أكَّد هنية على الموقف الثابت من عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، وعدم التنازل عن أي شبر من الأرض الفلسطينية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم.
كما أكد دعمَه تشكيلَ حكومةِ الوحدة الوطنية على أساس وثيقة الوفاق الوطني، واستمرار الحوار "من حيث انتهى الجميع"، وشدَّد على وحدة الشعب الفلسطيني و"تماسكه بكل فئاته وفي كل أماكن تواجده بالداخل والشتات.
وقال هنية: "سنبقى في الحكومة، وفي حكومة الوحدة الوطنية، وسنكون في كل حكومة، ولا اعتراف بشرعية الاحتلال"، مؤكدًا ضرورةَ إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية.
وفي الوقت ذاته أعاد هنية إلى الأذهان أنَّ "قضية فلسطين ليست قضيةَ الفلسطينيين وحدَهم، بل قضية العرب والمسلمين، قضية الأمة كلها"، مطالبًا العرب والمسلمين بأن يتحملوا مسئولياتهم تجاه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، مشدِّدًا أيضًا على ضرورة كسر الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني.
وهكذا تتضح المواقف وتنكشف الحقائق، ونحن مطمئنون إلى أنه مهما تكاثرت المؤامرات وتكالب الأعداء فإن حركةً بهذا التجذُّر والعطاء ستظل ثابتةً بإذن الله في وجه العواصف.
لقد حازت حماس مشروعيتَها ونالت ثقةَ الشعب الفلسطيني فيها، من خلال تصدُّرها للمقاومة وعبر التضحيات التي قدمتها، لا بسبب خضوعها وخنوعها واستسلامها، وإن تلك المؤامرات الظالمة تؤكد على نقاء الحركة، وتدلِّل على ارتباطها بمصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه، وإلا لما طالها كل ذلك.
وتدرك حماس أن التسويات المطروحة آيلةٌ إلى الفشل لا محالة؛ لكونها تتجاهل حقوقَ الشعب الفلسطيني، مهما تظاهرت بأنها ناجحةٌ، ومهما نتج عنها من خطوات شكلية.
حماس لن تلين إن شاء الله، وكما أثبتت في اللحظات الكاشفة والمواقف الحاسمة صلابةَ عودها وارتباطَها بمشروع المقاومة ارتباطَ الروحِ بالجسد فإنها ستُواصل- بإذن الله- تقديم البراهين على أن مشروع المقاومة الفلسطينية قد اشتدَّ عودُه ولم يعُد قابلاً للكسر أو الاحتواء.
ولئن كانت حماس قد أعطت وضحَّت فإن جميع أبناء الأمة مدعوُّون إلى القيام بواجباتهم والوعي بمسئولياتهم، وتقديم كل سبل المساندة والدعم والاحتشاد خلف مشروع المقاومة، والاصطفاف مع حماس في وجه حملةٍ يحركها أعداءُ الأمة، ولا تستهدف حماسَ وحدَها بقدر ما تستهدف الأمَّة بأسرها.