ردوا الكيد باليقظة والوحدة
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.وبعد!! فإن من يتأمَّل واقعَ العالم اليوم لا بد له أن يتعجَّب ويَقلَق!! يتعجَّب من حال دولٍ استجمَعَت كلَّ أسباب القوة المادية، من ثَرَاءٍ فاحشٍ وأسلحةٍ جبَّارة (تقليديةٍ ونوويةٍ) وتطوُّرٍ مذهلٍ (علميٍّ وتقنيٍّ).
فإذا بهذا كلِّه يملأُها شعورًا بالتميُّز على غيرها، ويزيدها غرورًا واستكبارًا، ويدفعها إلى التآمر والعدوان على الدول الضعيفة، والتسلُّط على ثرواتها ومقدَّراتها، بل وعلى إرادتها وسياستها كذلك، وهذا الحال العجيب يشير إليه قولُه تعالى: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ (العلق: 6- 7) فما أصدق تعبيره عن حال الأفراد طبعًا وعن حال الدول أيضًا.
ويَقلَق من انفراد دول الاستكبار تلك- وخاصةً أمريكا- بمسرح العالم في أُحاديةٍ قطبيةٍ شاذَّةٍ وغريبةٍ؛ حيث لا توجد في الدنيا الآن قوةٌ تواجه هذا القطبَ الأوحَدَ المتغطرس وتُجبِرُه على مراجعة حساباته وسياساته، ويزيد من قلق المتأمل في عالم اليوم أن هذه القوة الغاشمة العمياء تغذِّيها ثقافاتٌ عنصريةٌ انتهازيةٌ بَشَّر بها أمثالُ "داروين وميكيافيللي" سابقًا و"هنتنجتون ووُلفوويتز" الآن.
بعض ضحايا التآمر ودوافعه إن السياسة الأمريكية القائمة على التآمر والعدوان تتجلَّى آثارُها ويتزايدُ ضحاياها في مناطق كثيرة من العالم ومنها في منطقتنا: فلسطين.
وقصة التآمر عليها قديمة ومريرة، ومعروفة للقاصي والداني، وقد سعَت القوى الاستعمارية لجَعلها نقطةَ ارتكاز للمشروع الصهيوني الغربي، ليَشقَّ الكيانَ العربيَّ فلا يلتئمُ له شمْلٌ ولا تقومُ له قائمةٌ، وقد أعرب "بالمرستون" (وزير خارجية بريطانيا في عام 1860)- أي قبل مؤتمر بازل- عن أمله في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين؛ حتى لا يستطيع محمد علي ولا خلفاؤه أن يجمعوا مصر والشام والحجاز في كيانٍ واحدٍ لا يقوَى على مواجهته شيءٌ!! لبنان.
ويشتد الكيدُ لها لجوارِها المباشر مع بقعة الصراع المحورية (فلسطين)، ولوجود المقاومة الإسلامية الباسلة في الجنوب وقد أذلَّت الصَّلَفَ الصهيونيَّ وأطاحت بخرافة القوة التي لا تُقهَر، وزلزلت نظرية الأمن التي يقوم عليها الكيان الغاصب.
العراق.
وقد تعدَّدت دوافع قوى الاستكبار لاستهدافه؛ لأنه قوةٌ مرهوبةٌ تنامت بدعم خارجي وفق حسابات سابقة معروفة، فصمَّموا على تدميره لحساب المشروع الصهيوأمريكي، ولاحتلال المنابع الثرية بالطاقة، ولإقامة قواعد انطلاق متقدمة لسهولة التعامل مع دول بحر قزوين، ولتهديد إيران لثقلها الإقليمي الكبير، وللتصدِّي لمحاولات فرض نفوذها على الدول المجاورة لها.
الصومال.
وهي من أهم دول شرق أفريقيا الداخلة في دائرة الاستهداف الاستعماري؛ وذلك من أجل فرض السيطرة على شاطئ المحيط الهندي، وللتحكُّم في عنق الملاحة الدولية (باب المندب) الذي تمر عبره التجارة العالمية وخاصةً النفط؛ حيث تمر أيضًا الإمدادات العسكرية المتوجِّهة إلى الخليج العربي.
السودان.
وتتآمر عليه القوى الخارجية؛ لأنه أيضًا من دول شرق أفريقيا، ولأنه يمثِّل الحدود الجنوبية للشرق الأوسط الجديد الذي تخطط له أمريكا وحلفاؤها، ولأنه يمثِّل- كذلك- طريقَ الالتفاف الخلفي نحو مصر؛ حيث ينبع منه شريان حياتها، ويوفر العمق الاستراتيجي لأمنها، ومصر تطلق عليها قوى الاستكبار (الجائزة الكبرى) فإذا تمكَّنوا منها- لا قدَّر الله- دانَت لهم سائرُ الدول العربية بلا عناء ولا مقاومة، وهذا ما كشف عنه (دواسيزار) المحلل السياسي والعسكري بصحيفة (ليبراسيون) الفرنسية.
وسائل تحقيق الأطماع تسعى قوى الاستكبار بكل الوسائل اللا أخلاقية واللا إنسانية إلى تحقيق مخططاتها الشيطانية: تارةً بالبطش والقمع وشنّ الحملات العسكرية، من صدمة الرعب وخريف الغضب وغيرهما؛ وذلك لإرهاب الشعوب وإذلالها وكسر إرادتها.
وتارةً بالخنق والحصار والتجويع وفرض التخلف العلمي والتقني.
وتارةً بالخداع والإغواء بدعوى الصداقة والشراكة، وذلك عن طريق الشركات العملاقة متعددة الجنسيات وعابرة القارَّات.
وتارةً بتخريب العقول (وخاصةً الشباب) وتدمير القيم والأخلاق، عن طريق الإعلام والفن والفكر والأدب والثقافة وغيرها.
ثالثة الأثافي.
ومع كل هذه الوسائل الإجرامية المذكورة إلا أن ثالثة الأثافي هي هذه السياسة الاستعمارية القديمة المتجددة (فرِّق تَسُد) والتي تُعتبر أشدَّ هذه الوسائل خطرًا وأقواها أثرًا؛ حيث يسعون دائمًا إلى إذكاء الخلافات وبثّ الفتن وإشعال الصراعات المفتعلة على الحدود والموارد؛ من أجل إحداث التوترات وتفكيك التكتلات الإقليمية أو تهميش دورها على الأقل، ثم يتعقَّبون كلَّ دولة على انفراد لإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعِرقية، فيتحوَّل أبناءُ القُطر الواحد إلى شراذم متنافرة بل متقاتلة، فلا يستطيعون أن يُحبطوا كيدًا أو يُواجهوا عدوًّا.
بوابات مرور المؤامرات إذا كنا قد تحدثنا عن أحوال الأعداء المتربِّصين المتآمرين ودوافعهم ووسائلهم إلا أننا نؤكد أن مؤامراتِهم وأهدافَهم ما كان لها أن تتحقق إلا من خلال نقاط ضعف أو بوابات مرور في الشعوب ذاتها، وذلك حين تبتلع بعض المجموعات أو الفئات من الداخل هذا الطُّعمَ الخبيثَ فتسقط في الفتنة وتستجيب لدعاوَى الفرقة والنزاع وتُبدي استعدادًا للاندماج في المنظومة القيمية والثقافية لأعداء الخارج وللتعاون معها لتحقيق مآرب شخصية رخيصة أو فئوية صغيرة على حساب مصلحة الوطن العليا المتمثلة في سلامته وأمنه وتماسك جبهته الداخلية وصلابتها.
فبذلك تكون هذه المجموعات أو الفئات الأنانية بمثابة (عرقوب أخيليس Tendo- Achilis) المذكور في الأساطير اليونانية القديمة؛ حيث حصَّنوا أخيليس هذا تمامًا من اختراق السهام، بأن أمسكوه من عرقوب قدمه وغمسوه في الماء المقدَّس، فمرَّ السهم المسموم من العرقوب الذي لم تمسه الماء فقتله.
استيقِظوا وأجمِعوا أمرَكم أيتها الشعوب.
ها قد عرفتم الداءَ فما أيسر الدواء!! وهو لا يكاد يخرج عن أمرين: (الوعي واليقظة) و(الوحدة): الوعي.
بهذا الخطر الخارجي الداهم والكيد العظيم، والوعي بضرورة المحافظة على سلامة الأوطان؛ فالوطن كالسفينة، إن عَبِثَ بها بعض ركَّابها غرقوا جميعًا، وإن تنازع ركَّابُها غلبَهم القراصنةُ وسلبوهم جميعًا، وينبغي نشْرُ هذا الوعي بين أبناء الشعوب جميعهم والتنادي بالنهوض والمواجهة والثبات والصمود، واعلموا أن هذه اليقظة هي أخوف ما يخافه المَرَدَةُ المتآمرون؛ ولذلك يحرصون دائمًا على الحيلولة بين الشعوب وبينها، ويتعقَّبون دعاتها ويحرصون بكل حيلة على إخماد أصواتهم وإحباط محاولاتهم.
والوحدة.
فإذا كانت قوى الاستكبار والاستعمار بهذا الحِرص الذي عرفناه على الفُرقة والتنازع بين أبناء الشعب الواحد فلتكُن الشعوبُ في المقابل أشدَّ حِرصًا على إجماع أمرها ووحدة صفِّها، فهذا مما يحبه الله تعالى.
﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف؛ 4)، وبهذا الحال ينالون ما عنده عز وجل، من عون وتأييد ونصر وتمكين، وقد أصبح من المعروف بداهةً في سنن الاجتماع أن إجماع الأمر والمواجهة في صفٍّ هما الأساس للغلبة والاستعلاء، وهذا ما صرَّح به السحَرة حين تحدَّوا موسى عليه السلام إذ قالوا: ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ (طـه: 64) وما عبَّر عنه الشاعرُ بقوله: تأبى الرماح إذا اجتمعْن تكسُّرا وإذا افترقن تكسَّرت آحادًا وعلى العكس من ذلك فإن الفُرقة أساس الفشل في الدنيا، وهذا ما يشير إليه قولُه تعالى: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 46)، وهي سبب العذاب الشديد في الآخرة، وهذا ما بيَّنه قولُه تعالى: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 105).
إعياء المارد ينبغي أن ندرك أن هذا الماردَ الأمريكيَّ الجبَّارَ قد ذبلت الهالة التي أحاط بها نفسه، وبطلت الحِيَل التي سَحَر بها أعينَ الناس واسترهبهم زمنًا طويلاً، وبدا عليه الإعياء واضحًا، وبدأ يتأوَّه بل ويترنَّح ويلاحقه الفشل هنا وهناك، ودونكم بعض مظاهر ذلك: - الإخفاق المزري في العراق، وقد صرَّح وزير الدفاع الأمريكي السابق "رامسفيلد" باستحالة إيجاد حل عسكري للوضع في العراق، ثم استقال أو بالأحرى أُقيل، وورد في تقرير (بيكر- هاملتون) الأخير حول السياسة الخارجية الأمريكية أن الوضع في العراق خطير ومتدهور.
- هزيمة الكيان الصهيوني في حرب لبنان الأخيرة والتي تمَّت بتنسيقٍ ودعمٍ كاملَين من أمريكا.
- الضربات الموجِعَة والمتكررة في أفغانستان.
- التردي والتخبُّط في التعامل مع الملف النووي لكل من إيران وكوريا الشمالية.
- هبوط أسهم فريق المغامرات والحروب من المحافظين الجدُد في الإدارة الأمريكية، والذي أدَّى إلى فوز الديمقراطيين بالأغلبية في الكونجرس.
- تصاعد نبرات الانتقاد للسياسة الأمريكية (من الداخل)؛ حيث قال أعضاء من الكونجرس لوزيرة الخارجية "رايس" إن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط جعلت أمريكا أقلَّ أمانًا، واستهجن الرئيس الأمريكي الأسبق "كارتر" الصمتَ الأمريكيَّ المستمرَّ إزاءَ السياسات والممارسات الصهيونية، واعتبارَ نقدها من المحرمات.
- ومن الخارج حيث أعلن "داليما"- وزير خارجية إيطاليا (وهي من حلفاء أمريكا)- أن التطورات الأخيرة في لبنان والتي أدت إلى اندلاع حرب بين الصهاينة وحزب الله تؤكد فشل السياسات الأمريكية بالمنطقة.
وحمَل الأمين العام للأمم المتحدة "كوفي عنان" بشدة على الولايات المتحدة لانتهاكها القِيَمَ في حربها على ما تسميه الإرهاب، وكأنَّ الرجل أراد أن يبرِّئ ذمَّتَه أمام التاريخ وهو يتأهَّب لتوديع منصبه.
وبعد معرفة مظاهر الإعياء والفشل التي يعاني منها ذلك الماردُ الأمريكيُّ.
أما آنَ للأفراد والجماعات والحكومات التي تسير في فلكه وترضَخ لإملاءاته وتسارع في مرضاته، أما آنَ لها أن ترفع رءوسها وتجرِّب أن تتذوَّق لذة (لا) التي يطلقها لسان العزة والإباء، نُهيب بهؤلاء جميعًا أن يجرِّبوها ويتذوَّقوها "فمن ذاق عرف".
ولله الأمر من قبل ومن بعد.
وصلِّ اللهم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.