الواقع المؤلم.. والأمل الإسلامي
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمدُ للهَ ربِّ العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ المرسلين؛ سيدنا محمدٍ، النَّبي الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد.يبدو المشهدُ العالميُّ- وبالذَّاتِ في جانبه العربيِّ والإسلاميِّ- في الوقتِ الراهنِ ملطَّخًا بالعارِ على الإنسانيَّة وعلى كلِّ القيم التي يتشدَّق بها البشرُ في كلِّ مكانٍ وزمانٍ، من شعاراتٍ ديمقراطيَّة وليبراليَّة واشتراكيَّة.
وغير ذلك، في ظلِّ الحالة التي وصلت إليها الأوضاعُ العامَّةُ في عالمِ اليومِ، من دمارٍ وسفكٍ للدماءِ وانتهاكٍ للأعراضِ والحريَّاتِ والحقوقِ الآدميَّةِ، وأعظمها حقُّ الإنسانِ في الحياةِ!! إنَّ المُتابعَ منَّا الآن لما يجري على السَّاحةِ الفلسطينيَّة، من تجويعٍ وحصارٍ ومُحاولاتٍ فاشلةٍ لكسرِ إرادةِ الشعبِ الفلسطيني كي يتخلَّى عن حقوقه المقدَّسة في أرضه ولاجئيه وأقصاه.
يرى حقيقةَ الوضعِ المُزريِّ الذي تردَّت إليه الإنسانيَّةُ، والمتابعُ منا اليوم لما يحدث في العراق في ظلِّ الاحتلال، من شحنٍ طائفيٍّ، وقتلٍ على الهويَّة، وتدنيسٍ لحرماتِ بيوتِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وتدميرٍ لقبورِ الصَّحابةِ الكرامِ- رضوانُ اللهِ عليهم أجمعين- يتأكدُ أكثرَ وأكثرَ من حجمِ التردِّي الذي وصل إليه الحال الإنساني.
وفي قلبِ إفريقيا- تلكَ القارةِ التَّعسةِ بما ابتُليت به من استعمار الغرب لها- تُطالِعُنا الصُّور البائسة بالمرضى والجوعى والنازحين، الذين حملوا على أكتافهم أمتعتَهم القليلةَ؛ فرارًا من وضعٍ سيِّئ إلى وضعٍ أسوأ منه.
وفي مصر؛ حيث أمسك حكمٌ استبداديٌّ خانقٌ بمسارات الأمور، دأَبَ على وضْعِ الشُّرفاءِ والإصلاحيِّين خلف القضبان؛ لمجرد أنَّهم يدْعُونَ إلى مكارمِ الأخلاق، وإلى صالحِ هذا الدِّينِ وهذا الوطن، الذي استلبتْه من أبنائِه زمرةٌ، لا تَعرِفُ مصلحتَه، ولا تُقيم وزنًا لاعتباراتِ أمنِه واستقرارِه وصالحِ أبنائه، فعلى مستوى الوطن كله نرى مظاهرَ الفقرِ والبطالةِ والبؤسِ الطَّاحنِ، حتى المياه في بلاد النيل أصبحت سِلعةً غاليةً ونفيسةً!! سُنَنٌ إلهيَّةٌ وبالرَّغمِ من قتامةِ الصُّورةِ وبالرَّغمِ من الحال التي وصل إليها الإنسان، إلا أنَّ تجاربَ التَّاريخِ الإنسانيِّ تخبرُنا بمجموعةٍ من الحقائق المُهمَّة حول سُنَّةٍ من سُنَنِ الله عزَّ وجل في خلقه، وهي سُنَّةُ التَّبديل والتَّحويل؛ فالقرآن الكريم يخبرنا.
﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾ ( الرَّحْمَن).
هذه الآية الكريمة تُشير إلى أنَّ حالِ الإنسانِ في الدُّنيا ليس على ثباتٍ، بل إنَّ التغيير والتَّبديلَ هما أصلُ الفعل الإلهي في خلقه، وهو أمرٌ ثابتٌ وراسخٌ في المُعتقَد الإنساني، ويؤكده التَّاريخ؛ فأين طواغيتُ الأزمنةِ الغابرة؟! أين عاد وثمود وفرعون؟! أين كفارُ قريشٍ وغلاةُ مُشرِكي مكة ممَّن عانَدوا رسولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- في سنواتِ البعثةِ النَّبويَّةِ الأولى؟! لقد رحلَ كلُّ هؤلاءِ، وبَقِيَت سُنَّةُ اللهِ وكلمتُه ﴿لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ (يونس: من الآية 64).
ومصداقًا لقولِ الله- عزَّ وجلَّ- فإنَّ الدَّارس الحقيقي للتَّاريخ الإنساني يقفُ ويعجبُ أمام حدثَيْنِ شديدَيْ الأهميَّة، وهما واقعةُ فتح مكَّة المكرمة بيدِ جيش المسلمين الذي قاده الرَّسولُ الأكرم- صلى الله عليه وسلم- في العامِ الثَّامنِ للهجرةِ النَّبويَّةِ الشَّريفةِ، وواقعةُ سجود إخوة يوسف- عليه وعلى نبينا أفضلُ الصَّلاةِ وأجلُّ التَّسليمِ- له.
مَن كان يصدِّقُ أنَّ محمدًا- صلى الله عليه وسلم- وهو خارجٌ من مكة بعد ثلاث عشرة سنةً من جحودِ المشركينَ والكفارِ وتكذيبهم له، وحملهم له وللمسلمين من الصَّحابةِ الكرامِ الأوائلِ- رضوانِ الله عليهم أجمعين- على الخروجِ من بيوتهم وتركِهم مالَهم وأبناءَهم خلفَهم فرارًا بدين الله- عزَّ وجلَّ- من إيذائهم.
من كان يصدِّق أنَّ ذات الرَّجُلِ وذات صحْبِه سيعودون ظافرين فاتحين إلى ذات البلد، بل ويعفُون- في صورةٍ إنسانيَّةٍ ينفرد بها الإسلامُ في تهذيبه للأخلاق- عمَّن ظلموهم.
مَن كان يصدِّق أنَّ نبيَّ اللهِ يوسفَ- عليه السَّلام- سيتعهَّده اللهُ سبحانه وتعالى من غياباتِ الجُبِّ حتى يصبحَ على خزائن الأرضِ، بل يُسْجِد له سبحانه وتعالى إخوتَه الذين ظلموه؟! قال تعالى في سورةِ القصصِ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ (5)﴾، هذه السُّنَنُ الإلهيَّةِ وما صدَّقها من التاريخ الإنساني يؤدي بنا إلى التَّأكيد على أنَّ الإنسانَ وحالتَه الرَّاهنةَ لا بد أن تتغيَّر على يدِ الشُّرفاءِ والأحرارِ، كما كان الوضع عبر التَّاريخ.
بشارات هذه الحقائقُ الرَّاسخاتُ أدْعَى إلى أنْ تبعث الاطمئنان في نفوسِ كلِّ الإخوانِ والشُّرفاءِ والمظلومينَ في هذا العالم من ضحايا الاستعمار والاستبدادِ والقهر والظُّلمِ الإنساني، إنْ هي إلا بشاراتٌ إلهيَّةٌ لهم بأنَّ التغيير قادمٌ لا محالةَ بإذن اللهِ تعالى؛ لأنَّ هذه البشارات نابعةٌ من الحتميَّاتِ والسُّنَنِ التي خلقها الله تعالى.
هذه البشاراتُ يجب على الأمَّة تدارُسُهَا وتدارُسُ أسبابِها الأصيلةِ لإعادة رسم طريق حركتها في هذا العالم الذي باتت تُسَيِّرُه أمريكا والصُّهيونيَّة العالمية بمشروعها الإقصائي، وهو واجبٌ شرعيٌّ وليس ترفًا؛ لأنَّ الأمَّةَ مُهَدَّدَةٌ في وجودها وهويَّتها؛ حيث قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: " يوشك أنْ تداعى عليكم الأممُ من كلِّ أفقٍ كما تداعى الأكلةُ على قصعتها" ، وفي هذا الحديث حدَّد الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- أسباب ذلك الوضع الذي بدأت بوادرُه في الظهور؛ بأنَّ ذلك يعود إلى انتزاعِ المهابةِ من قلوبِ أعداءِ الأمَّةِ، وحلولِ الوهنِ في قلوبِ المسلمينَ، والوهن كما حدَّده الرَّسول في حديثه هذا هو حبُّ الحياةِ وكراهيةُ الموتِ.
ولعل الإنسانيَّة تسعد إذا ما تمَّ تطبيق الحلِّ الإسلامي عليها وعلى مشاكلها الرَّاهنة؛ فالإسلام- بمنظومة أخلاقه وتعاليمه الإنسانيَّة والحلولِ التي جاء بها- يُعتبر هو الحلَّ الحقيقيَّ للصُّورةِ القاتمة التي نطالعها في كلِّ مكانٍ من حولنا.
فالإسلام يعالج كلَّ ما هو سيِّئ في هذا العالمِ؛ يُحارب الغشَّ والخداعَ وسفكَ الدِّماءِ، ويمنع إقصاء الآخر أو الاستيلاءِ على ثرواتِه.
والإسلام هو الذي تمَّت به مكارم الأخلاق.
والإسلام هو الذي يساوي بين النَّاس ويعلن أنَّ الأُخوَّة الإنسانيَّة العالميَّة هي شعار وأساس العلاقاتِ بين البشر، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ (الحجرات)، وقال الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم-: " كلكم لآدمَ، وآدمُ من تراب ٍ"، وقال أيضًا- عليه الصَّلاةُ والسَّلام-: إنَّه " لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتَّقوى "؛ فالتقوى فقط- وفق القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة الشريفة- هي معيارُ المُفاضلة بين البشر وليس عرقهم أو دينهم أو أيّ شيءٍ آخرٍ.
والإخوان المسلمون، وهم يدعون إلى إعادة إحياء النَّموذج الإسلامي، وعندما يقولون إنَّ الإسلام هو الحل إنَّما ينبع ذلك عن فهمٍ عميقٍ للفطرةِ الإنسانيَّةِ والطَّبيعةِ البشريَّةِ، وإدراكٍ حقيقي لطبيعة مشكلات الإنسانيَّة الرَّاهنة، وعبقريَّةِ وبساطة الحلِّ الإسلاميِّ، ونقول: إنَّ الإخوان المسلمين وهم يسيرون في هذا الطريق يعلمون جيدًا ما يسعَون إلى تحقيقه، ويدركون أنَّ الطريق ليس مُمَهَّدًا، بل محفوفٌ بالمخاطرِ والأشواكِ، ويعلمون جيدًا الثَّمنِ الذي يدفعونَه من أمنهم وحريتهم وأموالهم، ولكنَّ الإخوان على الدَّربِ سائرون، قال تعالى في سورةِ الحجراتِ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ (15)﴾ (الحجرات)، وقال أيضًا: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).
كيف العمل؟! وعندما نقول إنَّ في الإسلام إنقاذًا للبشريَّة فإنَّ هذا يعني كثيرًا من الأعمال والواجبات الواقعة على كلِّ أخٍ وكلِّ مسلمٍ، كلٌّ في موقعه، في مواجهة حالة اليأسِ والتَّيئيس التي باتت تطبع نفوس الناس في ظلِّ هذه الأجواء من الدِّماء والدَّمار.
فالسِّياسيُّون مُطالَبون بالإصلاح والدَّعوةِ إليه، ومحاربة الفساد المالي والأخلاقي والسِّياسي، والعمل على ترسيخ المشروع الإسلامي على أجندته وأجنداتِ مُختلفِ القوى الشَّريفة والحُرَّة.
والمثقفُون ورجال الفكر وعلماء الدِّين مُطالَبون برسْم مساراتٍ شاملةٍ وواضحةٍ للخروج من هذا المأزق، وتوضيحها لعموم الناس، وليس التَّأكيد على أفضليَّةِ المشروعِ الإسلامي فحسب، بل وتبيان لماذا وكيف يمكن الوصول إلى النَّموذجِ الإسلامي المنشود؟! الطُّلاب.
التَّربويُّون.
المرأة.
الشَّاب.
الفتاة.
كلُّ أطيافِ المجتمعِ، وكلُّ أبنائه في مصر وفلسطين والعراق والسودان وباكستان، وفي كلِّ بلدان الأمَّة.
مطالَبون بالعملِ على نصرة المشروع الإسلامي الذي فيه هداية هذا العالم ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)﴾ (المائدة).
وصلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله رب العالمين.
القاهرة في: 3 من شعبان 1428هـ الموافق 16 أغسطس 2007م