وقفات مع الإخوان
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد للهِ ربِّ العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ، النَّبي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.فلقد انقضت أيامٌ مباركاتٌ من أيام الله، بما حَوَتْه من إشراقاتٍ ربانيةٍ، ونفحاتٍ إيمانيةٍ، وتجلياتٍ نورانية.
أيامٌ يعتبرها السالكون إلى ربِّ البرية واديًا للتزود، ومعينًا يملأ القلوبَ والأرواحَ، فيتعرَّضون لها؛ امتثالاً وتصديقًا لوصية الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
" ألا إن لكم في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرضوا لها ".
ومن ثم فلا بدَّ للإخوان من وقفة مع أنفسهم؛ ليتأكدوا من صلاحيةِ الزاد لطول السفر، وأمانِ العدة في عتمة الدرب.
﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: من الآية 197)؛ سعيًا لإعادة رسم خريطة الحياة الذاتية لكل حاملٍ للواءِ هذه الدعوة؛ للوصول لأقرب نقطة في علاقته بالله عز وجل.
تلك العلاقة التي تُحيله كائنًا ربانيًّا "لو أقسم على الله لأبرَّه"، وتلك هي نقطة التغيير الحقيقة التي يرى الإخوان فيها ذواتهم، ويحققون بها أُولَى معالم إعمار الأرض والاستخلاف فيها ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: من الآية 55).
فبعد انقضاء شهر الصيام والقيام والاعتكاف والرحمة والمغفرة والعِتق من النيران.
حريٌّ بكل السائرين على طريق الله أن يبحثوا عن مكانهم من غاية حياتهم، وما حقَّقوه من قيم الاسلام في نفوسهم، قبل أن يسعوا إلى رؤيتها واقعًا متحققًا على الأرض؛ ليتحركوا بدعوتهم قرآنًا يمشي بين الناس في كل مجال، وهذا لن يكون إلا عندما تصبحُ نفوسُنا حيةً قويةً فتيَّةً، ونمتلك قلوبًا جديدةً خفَّاقةً، تحركها مشاعر غيورة متوهِّجة، وتحملها أرواحٌ طموحةٌ متطلِّعة متوثِّبة، تتخيل مُثُلاً عُليا، وأهدافًا ساميةً، تسمو نحوها، وتتطلع إليها، ثم تصل إليها.
إنها تلك الروح التي حملت ربعي بن عامر على أن يهتف أمام الجبابرة: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
فيا أيها الإخوان.
اعلموا أن لكل ميلادٍ مخاضًا، ولكنَّ المخاض لا يكون إلا بآلام، فعلى من ينتظر الميلاد أن يدرِّبَ نفسه على الصبر؛ فهو عدةُ كلِّ حَمَلة الحق، ووسيلةُ كلِّ عامل.
﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر﴾ (العصر).
ومن يرَ في السير على درب الدعوة وجاهةَ الساسة وأضواءَ النجوم؛ فقد خسر كلَّ الخَسَارة؛ إذ إن أصحاب الدعوات ليس عندهم من جزاء إلا ثواب الله إن أخلص رفيقهم، والجنة إن علم الله فيه خيرًا، وهم كذلك مغمورون جاهًا، فقراء مالاً، شأنُهم التضحيةُ بما معهم، وبذلُ ما في أيديهم، ورجاؤهم رضوان الله، وهو نعم المولى ونعم النصير.
والسائر على درب الإخوان المسلمين يضع نصب عينيه أمانةً ثقيلةً ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72)، ليس استئثارًا بالحق والحقيقة، ولكن لاستشعاره عظمةَ الانتماء لأمة الإسلام المستأمَنة على رسالة الله في أرضه، ولها في العالم مرتبةُ الأستاذيةِ- ولا نقول مرتبة السيادة- بحكم هذه الأمانة، فلا يُسمح لها أن تذلَّ لأحد، أو تُستَعْبَدَ لأحد، أو تلين قناتُها لغامز، أو تخضع لغاصب معتدٍ أثيم.
﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 110).
فإن كانت الأمة قد فقدت أولى قبلتَيْها، ومسرى نبيِّها، وتقطعت أوصالها، وامتدت يدُ الأكلة إلى قصعتها، تارةً في العراق، وثانيةً في أفغانستان، وثالثةً في السودان والصومال والشيشان، وغيرها من بلاد المسلمين وشعوبها، قد استولت عليها نظُمٌ مستبدةٌ، وثقافاتٌ مستورَدةٌ، وأخلاقياتٌ واردةٌ، وقيمٌ دخيلةٌ، كلُّ هذا يضاعف التبعة، ويضع المسلم أمام مسئولياته الجسام؛ سعيًا لبناء ذاتٍ متسلِّحة بالإيمان ومتترِّسة بالعلم، ومتحصِّنة بقيم الحرية الإنسانية؛ لاسترداد الحق المسلوب، والتراث المغصوب، والحرية الضائعة والأمجاد الرفيعة، والمُثُل العالية.
ولتعلموا أيها الإخوان أن أعظم ما يواجهكم من تحدياتٍ هو محاولةُ إيهان عزائمكم، والتشكيك في صحة نهجكم، ونُبل رسالتكم؛ ليدفع بكم خصومُكم صوبَ اليأس المُقْعِد، أو الشك المفرِّق، أو الاندفاع المتهوِّر، فلا يغرنَّكم ما ترون من شيوع الفساد والاستبداد؛ فالأيام دول، وما يُقهَر الفاسدُ ولا المستبدُّ بالاستكانة أو الدَّعة والتسليم، وإنما بالإيمان بقدرة الله على التغيير بالمخلصين لأوطانهم، ومن قبلها رسالاتهم ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
واحذروا الركون للأمر الواقع، والتسليم للظلم والظالمين؛ فإن قدوتَكم محمدًا- صلى الله عليه وسلم- لم يركن لجبروت الواقع، ولم يقعد عن العمل؛ حيث لا يعرف الكللُ ولا المللُ إليه طريقًا، رافعًا شعارَه الخالد: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: من الآية 108).
ولا تنسوا أن ميدان العمل يتطلب تميزًا في كل المجالات؛ ليتحوَّل كل صاحب دعوة إلى شامة، يرى الناس فيها رقيَّ دينِهم، ومجْدَ أمتِهم التليد، وعظمةَ عقيدتهم الداعية للبناء، فلا تُؤتى الدعوة بتقاعسِكم وقعودِكم، وتخلُّفِكم عن ركب الحضارة، بل كونوا أياديَ للبناء في عالمٍ تتسارَع فيه معاولُ الهدم، وكونوا النخيلَ الذي يظلِّل من قَيْظِ الظلم، ويرمي بالثمر في وجه قاذِفِيْهِ بالحجارة؛ أملاً في أن يرى الله منكم قلوبًا تستحق التمكين للإصلاح، فيمنَّ على أمتنا به، وهو وعدُه الثابت، وأملُ المخلصين المتحقِّقُ لا محالة ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5).
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
وصلَّى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلَّم، والحمد لله رب العالمين.