أسباب النصر وأسباب الهزيمة
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله ربِّ العالمين، قاصم الجبارين، ومذل المستكبرين، وناصر المخلصين، ومعز المؤمنين، والصلاة والسلام على الهادي الأمين، سيد المجاهدين، ورحمة الله للعالمين، وبعد.فإن الأممَ كالأفراد، تصح وتمرض، وتقوى وتضعف، وتنتصر وتُهزَم، وفق قوانين وسنن إلهية، لا تحابي أحدًا، ولا تتخلَّف ولا تتبدَّل على مرِّ العصور ﴿وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف: من الآية 49)، وقد أمرنا الله تعالى أن نتدبر أمورَنا في حال النصر والهزيمة؛ فإذا انتصرنا شكرنا وعرفنا غاية النصر وتبعاته وأماناته، وإن هُزمنا حاسبْنا أنفسَنا، وبحثنا عن أخطائنا، واستغفرنا لذنوبنا، وصحَّحنا مسارنا كي لا نضعف أو نهون.
﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)﴾ (آل عمران).
لقد كانت هزيمة يونيو 1967م من أبشع الهزائم التي ألمَّت بأمتنا العربية والإسلامية، في ستة أيام- بل ساعات- ضاع بيت المقدس الشريف؛ أول القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وضاعت معه سيناءُ، وهي ضعف مساحة الوجه البحري، ومرتفعات الجولان التي تتعب النسور في الوصول إليها، والضفة الغربية وهي نصف مساحة الأردن.
بضعة ملايين قليلة تهزم 200 مليون عربي ومليار مسلم، وكيان صهيوني حديث العمر يهزم جيوش ثلاث دول عربية كانت تملأ الأرض طنينًا عن إلقاء "إسرائيل" في البحر، ومَن هؤلاء الذين هزمونا؟! شراذم الأرض، وشذَّاذ الآفاق، مَن ضُرِبَت عليهم الذلة والمسكنة والتيه في الأرض، ومن عاشوا مشرَّدين في حارات اليهود آلافَ السنين.
وكما أن لانتصارهم المباغت أسبابًا ومقدماتٍ؛ فإن لهزيمتنا أمامهم أسبابًا واضحةً لا تخفَى عن كل ذي عقل وقلب.
1- هم تجمَّعوا حول عقيدة رسَّخوها في عقول أبنائهم، واستحضروها عنوةً من رفات التاريخ، وبنَوا عليها أوهامًا وآمالاً وأكاذيبَ؛ أنهم شعب الله المختار، وأن أرض فلسطين هي أرض أجدادهم، وأن الله تعالى وعدهم إياها في أسفارهم من عهد إبراهيم وداود وسليمان؛ فاستطاعوا بهذه العقيدة أن يجمعوا اليهود من شتات الأرض ويصهروهم في بوتقةٍ واحدةٍ (أكثر من 90 جنسية)؛ ليصبحوا وكأنهم كيان واحد، واستطاعوا أن يحشدوا وراءهم العالم المسيحي الغربي والشرقي، بدعوى أنهم أصحاب "العهد القديم"، وأنهم أقرب للنصارى من العرب والمسلمين.
في المقابل تمت تنحية العقيدة الإسلامية تمامًا من الساحة الفلسطينية والعربية، واستُبدلت بها أيديولوجياتٌ وثقافاتٌ يمينيةٌ ويساريةٌ؛ من ناصرية وبعثية وقطرية وشيوعية وعبثية، تفرقت بها الأمة، وتمزقت كلَّ ممزَّق، وخسر العرب تأييد مليار مسلم، بل يُراد الآن تنحية العالم العربي لتصبح القضية فلسطينيةً بحتةً، بل يشترك العرب في المؤامرة العالمية لحصار الشعب الفلسطيني المجاهد في غزة وما حولها.
2- اختار اليهود على مدار تاريخهم الحديث قادةً ماكرينَ مخلصينَ لفكرتهم وعقيدتهم؛ يتبادلون الأدوار والمهام، كل قائد يسلِّم القيادة لمن هو أكفأ منه (من هرتزل إلى بن جوريون إلى وايزمان إلى جولدا مائير.
.
إلخ)، على حين مُني العرب بسلاطين وملوك ورؤساء تسلَّطوا على شعوبهم بالحديد والنار، لا كفاءة ولا قدرة ولا إخلاص، لا همَّ لهم إلا البقاء على عروشهم لآخر رمق وتوريثها لأنجالهم وذراريهم، ولو كان الثمن هو ضياع مصالح الأمة وثرواتها وأرضها ومكانتها وشعوبها.
وعلى حين تمسك اليهود بعقيدتهم، واعتزوا بها، وتحدَّوا العالم كله من أجلها، حتى قال بن جوريون: "لا معنى لإسرائيل بدون القدس ولا معنى للقدس بدون الهيكل".
رأينا من قادتنا وملوكنا ورؤسائنا من يَسِم الدينَ بالرجعيةِ والتخلفِ، ويحارب الإسلامَ ويطارده جهارًا نهارًا؛ بالكلمة والعقل والاضطهاد والتعذيب والسجون والقتل.
3- لم يضيِّع اليهود لحظةً في تاريخهم الحديث إلا في التخطيط والمكر وتجييش الجيوش، وتجهيز العصابات، وجمع المال، وتطوير السلاح، وبناء الاقتصاد، وتطوير العلم، في حين كان العرب جميعًا، بلا خطة ولا هدف ولا عمل، إلا في الكيد لبعضهم البعض، رغم ما حباهم الله من ثروات بشرية ومادية هائلة، ضيَّعوها في الخلافات والملذَّات والمعارك الوهمية والمغامرات السياسية مما جعلهم في ذيل الأمم.
4- على حين كان تمسك اليهودي بعقيدته وتشبّثه بها، جرى تفريغ الشباب الفلسطيني والعربي من العقيدة والإيمان ونشر التحلُّل والفساد وإشاعة الفاحشة، بل والتباهي بها حتى ضعف البنيان وتحلَّلت القوى وانهارت العزائم.
5- تدمير البناء الداخلي للدول العربية؛ بظلم الحكام، واضطهاد الشعوب، ومصادرة الحريات، وكبت الآراء، وتقديم التافهين، واستبعاد الكفاءات (اضطهد النظام في مصر علماء الذرة في مفاعل أنشاص؛ بدعوى أنهم إخوان مسلمون، فسجن بعضهم، وقتل آخرين، وشرَّد الباقين)، في حين كان اليهود يستجلبون العلماء من أنحاء الأرض إلى مفاعل ديمونة، وتوضع لهم الإمكانات، ويُعتبرون ثروةً قوميةً تُحرَس وتُحمى)؛ حتى استطاعوا أن يجعلوا "إسرائيل" ثالث قوى نووية في العالم.
6- اضطهاد المجاهدين الحقيقيين المخلصين للقضية؛ فتفرض الهدنة سنة 1948م ليتم اعتقال مجاهدي الإخوان، وتضطهد الحركات الإسلامية في 1954م، 1965م، وحتى الآن يُضطهد المقاومون الأبطال في حماس، ويُحاصَرون في غزة، ويُمنع عنهم السلاح، بل الدواء والغذاء؛ لعلم الأعداء أنهم وحدهم هم القادرون على وقف المدِّ الصهيوني، وتحجيم مؤامراتهم، وإجهاض مشروعهم.
7- الخيانة والعِمالة على كافة المستويات، والتي كشفت عنها تحقيقات ما بعد الهزيمة؛ حيث افتخر قادة بأنهم كانوا على صلة باليهود في كل المراحل، وكان من قادة الجيوش مَن تجاهلوا إنذاراتٍ مؤكدةً، حتى ضُربت الطائرات والسلاح على الأرض، وتم إعلان سقوط هضبة الجولان قبل أن يطأها جندي صهيوني واحد.
هذه بعض- وليست كل- أسباب الهزيمة المنكرة، وللأسف الشديد فإن كثيرًا من هذه الأسباب لا زالت تنخر في عظام الأمة وتهدِّد حاضرَها ومستقبلَها، بل تتفاقم بدعاوى السلام الكاذب والاتفاقيات الكارثية، من قرار التقسيم، إلى هدنة 1948م، إلى مبادرة "روجرز"، إلى اتفاقية "كامب ديفيد"، إلى "مدريد"، إلى "أوسلو"، إلى "خارطة الطريق"، إلى "المبادرة العربية"، إلى "أنابوليس".
إلخ، كلها تدابير تحاك وتُدبَّر لإعطاء المزيد من الوقت لابتلاع كل الأرض العربية، وصهينة القدس، وهدم الأقصى، وبناء الهيكل، ومحاصرة الفلسطينيين وإجبارهم على ترك بلادهم وديارهم.
فهل نتعلم من أخطائنا؟! وهل نتوب من خطايانا؟! وهل نصطلح مع ربنا ونصطلح مع شعوبنا ونتمسك بعقيدتنا ونخطط لإصلاح شئوننا في كل مجالات الحياة التي أَسِنَت بإداراتٍ فاشلةٍ وقياداتٍ مهزومةٍ وخططٍ مرتجلةٍ وولاءاتٍ لأعدائنا وتمزيقٍ لصفوفنا؟! وهل نتعلم من كتاب ربنا؟! ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11) ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج: من الآية 40).
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.