القدس تناديكم.. والأقصى يستصرخكم
رسالة من محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.يقول الله تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(1)﴾ (الإسراء).
هذه الأرض المباركة، وفي قلبها القدس، تنادي اليوم كل مسلم، بل كل حرٍّ شريفٍ، أن يقف وقفةً مع نفسه ومع الآخرين، ليسأل نفسه: ماذا فعلت لإنقاذ القدس وفلسطين؟! وهذا المسجد المبارك.
أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
يستصرخ كل مسلم؛ ليقف مع نفسه وقفةً صريحةً ليسأل: ماذا قدَّمت لتحرير الأقصى من الأسر، بل لإنقاذه من المحاولات المستميتة الرامية لتصديع أركانه؛ تمهيدًا لهدمه وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه؟! إن أول واجبات الفرد أن يدرك أبعاد هذه القضية.
قضية الأقصى والقدس، وأن يسترجع تاريخ تلك المدينة المقدسة.
مدينة السلام.
ليست هذه أول مرة تتعرض فيها القدس للاحتلال أو يتعرض المسجد الأقصى للتدنيس والحصار، وأشهر تلك التواريخ هو ما يعرفه الجميع من إقامة إمارات إفرنجية (صليبية) في شواطئ البحر المتوسط من تركيا إلى فلسطين، واستمرَّت طوال مائتي عام؛ حتى قام البطل المسلم الكردي صلاح الدين الأيوبي بتحريرها، ودخل المسجد متواضعًا خاشعًا لله تعالى في السابع والعشرين من رجب الفرد عام 582 هجرية.
لقد تمكَّن الصليبيون من احتلال فلسطين، وسيطروا على القدس (493هـ- 1099م)، بعد أن خاضوا في دماء المسلمين، وقتلوا في القدس فقط حوالي 70 ألفًا، والسبب- رغم تفوُّق المسلمين وقتها حضاريًّا وعلميًّا- كان التشرذم والصراعات السياسية والحروب الداخلية.
لقد رفع صلاح الدين الأيوبي راية الجهاد، وأعاد توحيد الشام ومصر تحت قيادته، بعد أن أنهى حكم الدولة الفاطمية التي تعاونت آنذاك مع الإمارات الصليبية على سواحل المتوسط، وخاض عدة معارك، كان أهمها معركة "حطين" في 24 ربيع آخر/ 4 يوليو 1187م، وهي المعركة الفاصلة التي أدَّت إلى تحطيم الوجود الصليبي، وفتح بيت المقدس بعد 88 عامًا من الحكم الصليبي.
إلا أنه بعد وفاة صلاح الدين، وبسبب الصراعات الداخلية في الدولة الأيوبية سيطر الصليبيون مرةً أخرى على القدس معظم الفترة بين 626- 646هـ؛ إلى أن استقرَّ الوضع للمسلمين، وعادت نهائيًّا إلى حظيرة الإسلام حتى دنَّسها اللورد اللنبي بقواته، وتم الاحتلال البريطاني لفلسطين 1917م، وقال قولته الشهيرة أمام قبر صلاح الدين في دمشق: "ها قد عدنا يا صلاح الدين".
ولقد استمرَّ الحكم الإسلامي لفلسطين نحوًا من 1200 سنة منذ الفتح 27 جمادى الأولى 13هـ/ 30 يوليو 634م حتى عام 1917م.
واليوم تتعرض القدس لحملة تهويد؛ بهدف تغيير ملامحها، وطرد سكانها العرب، مسلمين ومسيحيين؛ بغية تكريس احتلالها وتثبيتها كعاصمة لهذا الكيان العنصري المغتصب لأرض فلسطين.
وتتآمر القوى الكبرى كلها لتنفيذ تلك الخطة؛ إما بالدعم المادي والسياسي الكامل، كالولايات المتحدة الأمريكية، أو بالصمت والتواطؤ مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا، أو بالعجز والتظاهر بالعجز مثل الدول العربية والحكومات الإسلامية.
وإذا كانت القوى العالمية تسُوق مبرراتٍ تاريخيةً أو دينيةً أو سياسيةً زائفةً، أو كان لها مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية؛ فإن العرب والمسلمين والمسيحيين الشرقيين لا يجب أن تنطلي عليهم مثل هذه المبرِّرات، ولا تغيب عنهم هذه المصالح، وهم بالتأكيد يتحمَّلون المسئولية الكاملة عن ضعفهم وعجزهم.
المؤامرة مفضوحة، والنُّخب السياسية والاقتصادية والثقافية متواطئة، والعامة لا يصحُّ لهم أن يسيروا مغمضي العيون خلف قادة وحكام يوردونهم موارد الهلاك بسياسات فاشلة؛ أدَّت على مدار قرن من الزمان إلى التمكين للعدو الصهيوني.
إن نضال الشعوب العربية والإسلامية يجب أن يبدأ باسترداد حرياتهم وكرامتهم، وأن يجبروا الحكام والنخب على الاستماع لصوتهم.
صوت الحق.
إن الحكام الذين فرَّقوا الأمة شيعًا ودويلاتٍ- وما زالوا- ومعهم نخب سياسية يعملون على مزيد من تقسيم الأمة والدول الوطنية إلى كانتونات طائفية وإثنية وعرقية وجهوية؛ من أجل التمكين لقوة واحدة وحيدة هي القوة الصهيونية.
هؤلاء جميعًا يجب أن تلفظهم الأمة، وأن تتصدى لهم الشعوب.
إن وحدة الأمة العربية وتلاحم الأمة الإسلامية وتماسك النسيج الوطني لكل دولة وطنية.
هي المقدمة الأولية لاسترداد القدس، والوقوف ضد الهجمة الصهيونية على القدس ومحاولاتهم المستميتة لتهويدها وهدم المسجد الأقصى المبارك.
إن اعتزاز الأمة العربية برسالتها الإسلامية العظيمة، وحملها لدعوة القرآن الكريم، وعلوِّ همَّتها للنهوض بمجتمعاتها، وإيقاظ النفوس وعلاج الأرواح قبل علاج الأبدان؛ هو الطريق السليم لوضع العرب والمسلمين على الخريطة العالمية تصديقًا للقول الكريم: ﴿وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران: 139).
لقد اجتمع وزراء خارجية ستة دول عربية منذ أيام في عمان عاصمة الأردن الشقيقة للتداول بشأن زيارة الملك عبد الله الثاني إلى واشنطن كأول زعيم عربي يزور "أوباما" في عهد الإدارة الأمريكية الجديدة.
ماذا كانت حصيلة لقاءاتهم؟ كانت التمسك بمبادرة السلام العربية التي رفضها العدوُّ الصهيوني!.
لقد رفض شارون مبادرة الملك عبد الله خادم الحرمين الشريفين، والتي أقرها القادة العرب في قمة بيروت عام 2002م، والتي جاءت في سياق الحرب على الإرهاب بعد أحداث سبتمبر والإرهاب الأمريكي للعالم كله وللسعودية بالذات؛ بعد اتهام 4 أفراد ممن اتهمتهم أمريكا بأحداث سبتمبر، على الرغم من عدم وجود تحقيقات معلنة، ولا محاكم عادلة، ولا وضوح في الرؤية تجاه تلك الأحداث!.
لقد فرض شارون 14 تعديلاً أفرغت المبادرة- الضعيفة أساسًا- من مضمونها الحقيقي، ووافقت الإدارة الأمريكية على تلك الشروط، ثم كان إعلان الرئيس الأمريكي السابق- الذي لم يغيِّره اللاحق- عن يهودية الدولية الصهيونية؛ بما يعني تفريغ فلسطين والتاريخ من مواطنيها العرب الأصليين.
ومع ذلك كله ما زال العرب متمسِّكين بمبادرة فقدت كل إمكانية لتطبيقها، لماذا؟! ببساطة لأن القادة العرب لا يملكون البديل أو لا يقدرون على تكاليف التصدي للمؤامرة على فلسطين والقدس والمقاومة.
لقد انتهت الحرب على الإرهاب، كما أعلنت وزيرة الخارجية الأمريكية، وعلى الرغم من ذلك بدأت الحرب على المقاومة الشجاعة ضدَّ العدو الصهيوني باسم مقاومة الإرهاب في بلاد العرب، وباتت التهم تلاحق فصائل المقاومة؛ بأنها تهدِّد الأمن الوطني لتلك الدولة أو الأمن القومي العربي بالانحياز إلى دولة إسلامية غير عربية؛ مما أشعل حروبًا داخلية أطربت العدوَّ الصهيونيَّ، وزادته فرحًا، ولم يتأخر في صبِّ الزيت على نار الفتنة؛ يريد إشعالاً لفتنة (عربية فارسية)، وأخرى (سنية شيعية)، وثالثة (إسلامية مسيحية)، ورابعة (عربية إفريقية)، وهو المستفيد الوحيد من إثارة كل تلك النزعات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية.
هذا ما لدى القادة العرب.
ولذلك لا يمكن التعويل على جهودهم لإنقاذ القدس أو تحرير فلسطين ما لم تتحرَّر إرادتهم من الهيمنة الأمريكية والأوربية والصهيونية، وما لم تتمتع شعوبهم بالحرية الحقيقية لاختيار حكومات حرة غير خاضعة لسلطان أجنبي.
أيها العرب.
أيها المسلمون.
إن القدس تناديكم والمسجد الأقصى يستصرخكم.
إن المقدسيِّين يطالبونكم- أيها القادرون من المسلمين- بدعمهم.
لماذا لا تبادرون بإنشاء صندوق إسلامي لدعم المقدسيين أمام حملة هدم بيوتهم وطردهم وتشريدهم خارج مدينتهم؟! لماذا لا تُنشئون صندوقًا ماليًّا أهليًّا وليس رسميًّا؛ لدعم إعمار المسجد الأقصى الشريف؟! لماذا- أيها العرب والمسلمون- لا تقاطعون رجال الأعمال الذين ضَعُفت عزيمتهم وخارت قوتهم أمام سحر المال الصهيوني والأمريكي والغربي فتحالَفوا مع العدو الصهيوني لمصالح شخصية ضيقة، على حساب المصلحة العليا للأمة؟! أما أنت أيها الأخ الحبيب.
فعليك واجبات صعبة في ظل تلك الظروف، وأهمها: 1- أن تعلو همَّتك فوق كل المثبِّطات لتغيير نفسك ونفوس مَن حولك حتى يغيِّر الله هذه الأوضاع والأحوال، وتذكَّر قول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: من الآية 11).
2- أن ترتبط بالله تعالى ارتباطًا إيمانيًّا قويًّا ثابتًا، مستمدًّا من قوته قوةً تزيل ضعفك، ومن عزَّته عزةً تَذهب بذلَّتك، ومن غناه غنىً يغيِّر فقرك، ومن إرادته إرادةً تقوِّي بها عزيمتك وتتغلَّب بها على عجزك.
3- أن تهتم بفلسطين وقضيتها، وأن تتابع أخبار القدس والأقصى من كل جوانبه، التاريخية والجارية، السياسية والاقتصادية، الجغرافية والديمجرافية، المقاومة والسياسية؛ لتكون أهلاً لنقل الوعي بالقدس إلى مَن حولك، وأن تردَّ على كل الأسئلة وتزيل كل الشبهات.
4- أن تدعم جهاد شعب فلسطين وصمود فصائل المقاومة بكل صور الدعم والإسناد، وأن تستمر على ذلك كله، وتورِّثه لمن بعدك ومن حولك، فالقضية مضى عليها مائة عام، والأقصى والقدس في الأسْر منذ 43 سنة، ولن يحرِّرها إلا أنت أيها القارئ الكريم.
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال طائفة من أمتي، على الدين ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء؛ حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك "، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: " ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس "، وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أهل الشام وأزواجهم وذراريهم وعبيدهم وإماؤهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون، فمن نزل مدينة من الشام فهو في رباط، أو ثغر من الثغور فهو مجاهد ".
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.