الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

 الأسس القويمة للحكم الرشيد

الأسس القويمة للحكم الرشيد

رسالة من أ.
د.
محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

وبعد؛ فها هي أمتنا تنتفض لتخلع عنها ثوب القهر الذي ألبسها إياه الطغاة الذين تسلَّطوا عليها فكانوا أشدَّ عليها من أعدائها، وحاولوا طمس هويتها ومسخ شخصيتها، فإذا بالأمة تنفض عنها غبار السلبية وتستعيد كرامتها، وتنفي عن نفسها الاستكانة للظلم والطغيان، بعد أن أطلق شباب الأمة شرارة الثورة المباركة في تونس ومصر وليبيا وغيرها، وتجاوبت معهم جموع الأمة بكل أطيافها وطوائفها وقواها السياسية، فبرزت روح الثورة المباركة التي وحَّدت الأمة، وأعادت تشكيل الشخصية البنَّاءة الحضارية في أمتنا، والتي تجمع بين الروح الوثَّابة الطاهرة وبين العمل السلمي الصحيح المنضبط المتوازن بصورةٍ أذهلت العالم كله، وتُبشِّر بمستقبلٍ باهرٍ ظاهر إن شاء الله.
  من أهم واجبات الحكم الرشيد الذي نريده في الجمهورية الثانية الجديدة: في إطار النظر لمستقبل الأمة الذي يتجاوز الديكتاتورية والاستبداد فإننا نتطلع إلى تحقيق الحكم الرشيد الذي يقود الأمة للنهضة، ويرتفع بها إلى أسباب الرقي والتقدم، والذي يجب أن يجعل من أهم واجباته:   - الرد الفوري لمظالم الاستبداد التي وقعت على الشعب على مدى العقود السابقة، والحزم في محاسبة المسئولين الحساب الحازم، حتى يطمئن الشعب إلى العدل، وأذكر هنا بما فعله الحاكم العادل عمر بن عبد العزيز حين تولَّى الخلافة، وعرف المظالم التي وقعت على الأمة ممن سبقوه من الحكام فبادر إلى ردها، ولما جعل أحد ولاته يسأله ويراجعه ويتباطأ في ذلك، وأحسَّ عمر رضي الله عنه بما في ذلك من التأخير في ردِّ المظالم، كتب إليه يقول: أما بعد، فإني أكتبُ إليك آمرك أن ترد على المسلمين مظالمهم فتراجعني ولا تعرف بُعد مسافة ما بيني وبينك، ولا تعرف أحداث الموت، حتى لو كتبت إليك أن أردد على مسلم مظلمة شاة لكتبتَ: أرددها عفراء أو سوداء؟ فانظر أن ترد على المسلمين مظالمهم ولا تراجعني.
  - المواجهة الصريحة والواضحة والقوية لكل أسباب ومظاهر الإفساد التي مارسها النظام لسنوات طويلة واليقظة والانتباه والتفقد لكل مرافق الدولة بما يحمي مقدرات الأمة، ويحفظ ثرواتها لتكون لأصحابها، فلا ريبَ أن الفساد- وبخاصة المالي والسياسي- هو أحد أهم أسباب انهيار الدول وسقوط النظم، ولأمرٍ ما دعا النبي صلى الله على عبيد الدينار والدرهم والترف، فقال صلى الله عليه وسلم: " تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِىَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ و َانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ" (البخاري) فعبد الدينار وعبد الدرهم هو ذلك المفسد الذي لا همَّ له إلا الاستيلاء على المال وجمعه بأية وسيلةٍ، وهو في سبيل ذلك يمارس كل أسباب الإفساد المادي على كل المستويات، ويسعى إلى التقرُّب من السلطة الحاكمة لحماية فساده والتوسع فيه، وتكون الكارثة حين يتزاوج رأس المال الفاسد مع السلطة المستبدة، فيحصل كل ما عانت الأمة منه على مدى العقود الماضية، وما قامت الثورة لرفضه وإنهائه.
  - تعميق الحرية باعتبارها فريضةً شرعيةً، ليس لأحد أن ينتقص منها، كما هي فطرة إنسانية يجب احترامها على الدوام، ولا يخفى على كلِّ ذي بصيرة كم من العقول المصرية هاجرت إلى بلاد الغرب؛ حيث الحريةُ فأبدعتْ وقدمت الكثيرَ للغرب، وفي مناخ الحرية الصحيحة تنهض الأمة وتقوم برسالتها خير قيام، وتأمل كلمة عنترة لأبيه شداد لما طلب منه الدفاع عن القبيلة، قال: إن العبد لا يحسن الكرَّ والفرَّ، ولكنه يحسن الحلبَ والصَّرَّ! فأجاب الوالد: كُرَّ وأنت حرّ!.
  وقاتل "عنترة" وتحت لواء الحرية أدَّى واجبه، ولو بقي عبدًا ما اهتمَّ بهلاك أمةٍ من الناس فَقَدَ بينهم كرامتَه ومكانَتَه.
  إن الاستبدادَ السياسيَّ وغياب الحريات الحقيقية يفسدُ الفطرةَ البشريةَ، ويُهَدِّدُ الحياةَ المجتمعيَّةَ، ويقلِّص من فرص الإبداع والإنجاز، ويحطمُ فضائلَ النفس البشرية، ويُحَلِّل مقوماتِها، ويغرسُ فيها طباعَ العبيد، ويُشْعِرُ الفردَ بالضآلة والمهانة، فينشأُ نشأةً لا يَثِقُ فيها بنفسه، ولا يقدرُ على اتخاذ القرار الذي يناسبُه، فتنشأُ الأجيالُ في ظلِّ الاستبداد الأعمى عديمةَ الكرامة، فاقدة الولاء والانتماء، قليلةَ الغَنَاء، ضعيفةَ الأخذ والرد.
  - تعميق الشورى والديمقراطية وإيمان الرئيس الأعلى والهيئات الحاكمة بها والعمل بكل قوةٍ لتنميتها وتجويدها، والمنهج الإسلامي يقوم على قول الله تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: من الآية 38)، وأنزل الله- عزَّ وجلَّ- يؤكد للنبي المعصوم تفعيل مبدأ الشورى (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران: من الآية 159)، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يتردد في أن يشاور من حوله، ويقول لأبى بكر وعمر رضي الله عنهما: " والله لو اجتمعتما على رأي ما خالفتكما "، ويقول عنه أبو هريرة رضي الله عنه: "ما كان أحدٌ أكثرَ مشورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إذا كان النبي المعصوم يفعل هذا، فما بالك بمَن دونه؟.
  - تعميق وتحقيق العدالة التي تحفظ الحقوق للجميع على قدم المساواة، وهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضع لرجال حكومته قانون التعامل مع الشعب، فيقول: "أدِرُّوا على المسلمين حقوقَهم، ولاَ تَضْرِبُوهم فَتُذِلُّوهُمْ، وَلاَ تُجَمِّرُوهُمْ (أي لا تحبسوهم بغير حق) فَتَفْتِنُوهُمْ، ولا تُغْلِقُوا الأَبْوَابَ دونَهم، فَيَأْكُلَ قَوِيُّهم ضَعِيفَهم، ولا تَسْتَأْثِرُوا عليهم فتَظْلِمُوهُم، ولا تَجْهَلُوا عليهم".
  وأما الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز فيقدم معلمًا مهمًّا من معالم العدل والإنصاف ورعاية الحقوق، فيقول: إني تقَّلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتفكرتُ في الفقير الجائع والمريض الضائع والعاري المجهود والمظلوم المقهور والغريب المأسور والكبير وذي العيال في أقطار الأرض فعلمتُ أنَّ ربي سيسألني عنهم وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت ألا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمتُ نفسي فبكيت".
  - تقديم أهل الكفاية والكفاءة لكل مواقع القيادة في الأمة؛ تنفيذًا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : " مَنْ اسْتَعْمَلَ رَجُلاً عَلَى عِصَابَةٍ، وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَرْضَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ" (أحمد وصححه الحاكم) حتى لا يتحكم في مصير الأمة الجُهَّال الفاسدون الذين يفوضون في حلِّ المشكلات وعقد الصفقات، وتدبير أمر الأمة المغلوبة، فيأخذونها للهاوية، وقد ورد ذكرهم في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " َيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ، وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ " قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: " الرَّجُلُ التَّافِهُ - وفي رواية: السَّفِيهُ، وفي رواية" الْفُوَيْسِقُ- يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ ".
  - تعميق الوحدة بين طوائف وتيارات المجتمع والإبقاء على روح الإسلام العظيم وحضارته الراقية التي تجلَّت في ميدان شهداء التحرير من التوحد والتعاون والتآخي، فلا تعمل الحكومة الرشيدة لصالح فئة، ولا تصوغ قوانين لصالح طائفة، إنما تصوغ للأمةِ كلها وتعتبرها وحدةً واحدة، حتى غير المسلمين (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إليهمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ (8)) (الممتحنة).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " مَن آذى ذميًّا فأنا خصمه يوم القيامة "، وترفض اللعب بورقة التنوع الديني، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، عندما دخل المدينة وكتب الوثيقة بينه وبين اليهود، وبينه وبين المشركين الذين يعيشون في داخل المدينة من أهل يثرب، والتي كانت أول وأعظم دستور لإقامة الحقوق وصيانة الحرمات.
  - الحكم الرشيد لا بد أن تكون له رسالة مجيدة في هذه الحياة يسعى لتحقيقها ويجمع الأمة عليها ويسعى جاهدًا مع الأمة لتحقيقها بكل الوسائل من خلال إقامة النظم السياسية والتشريعية والقضائية والاجتماعية والأخلاقية والتعليمية والإعلامية التي تكفل نجاح هذه الرسالة واستقرار الناس في ظلالها، وبالتالي لا بد أن تقدم الحكومة للشعب المشروعات العملية التي تحقق الكفاية والاستقلال في القرار والتقدم في كل المجالات بصورةٍ واضحة مقنعة يلتف حولها الشعب الذي أثبت وعيًا غير عادي ووطنية وعزيمة رائعة غير مسبوقة، فلكي ينجح المشروع القومي لا بد أن تقتنع الأمةُ بجدواه وأن تدرك قيمته؛ حتى يشارك الأفراد بإيجابيةٍ في هذا المشروع.
  ويكفي أن ينظر أي عاقلٍ إلى رجال ونساء وشباب وفتيات الأمة الذين هبوا لحملة تنظيف الشوارع والأحياء على مستوى القطر كله، بعد تجربة تنظيف ميدان التحرير التي قدمت صورة ملهمة لكل حكومات وشعوب الدنيا.
  - العمل على إحياء منظومة القيم الإسلامية والأخلاق الإنسانية التي تبني الشخصية العزيزة الواعية التي تحافظ على مكتسبات الثورة المباركة وتجاهد دونها، وتربية الشعب والأمة من خلال كل وسائل التوجيه وبناء الرأي العام على الإيمان برسالة الدولة والإخلاص لها والاعتزاز بها والسعي بصدق إلى الغاية المرجوة.
  - وفي هذا الصدد لا بد أن تُطْلَق يدُ الدعاة الأكفاء من علماء الدين والمربين الأمناء والمثقفين المخلصين لتربية الأمة، وليطلوا على الناس من كل المنابر الإعلامية والدينية والتعليمية وغيرها؛ ليبعثوا برسالة الإصلاح إلى أعماق النفوس، ويحيوا منظومة القيم في واقع الأمة في كل فئاتها.
  - الاهتمام بقضايا الأمة، وعلى رأسها قضية فلسطين، ونصرتها في كل المحافل الدولية، وإعانة أهلها في إقامة دولتهم المستقلة على ثرى فلسطين وعاصمتها القدس الشريف، وإعادة النظر في موقع الأمة على خريطة العالم، وإقامة العلاقات بين الأمة وبين سائر الأمم في الدنيا بناءً على مواقفها من قضايا الأمة دون تبعية أو استخذاء أو تفريط.
  وفي الختام فإن الكلمة العليا هي للشعب الذي هو مصدر السلطات، وهو صاحب الحق الأصيل في اختيار حكامه ونوابه وفي متابعتهم ومحاسبتهم وفي عزلهم وتبديلهم، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور (41)) (الحج)، والله أكبر ولله الحمد، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.