الهجرة.. وبناء الدولة
رسالة من: أ.د.
محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومَن والاه وبعد، حينما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة- مهاجرًا من مكة المكرمة- اُستقبِل منذ اللحظة الأولى ليكون إمامًا لأمة، وحاكمًا لشعب، وقائدًا لنهضة، ومؤسسًا لحضارة، إنسانية رفيعة تستمد كل مقوماتها من منهج السماء.
لإنقاذ البشرية كلها وإخراجها من الظلمات إلى النور.
نعم ظلَّت دعوته الأصلية قائمة واضحةً جلية ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (٤٥) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّـهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (٤٦)) (الأحزاب).
نبيًّا يُوحَى إليه، ورسولاً يُبلِّغ رسالة ربه.
وأُضيف إليها في المدينة المنورة ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)) (النساء)، ( وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّـهُ إِلَيْكَ .
) (المائدة: من الآية 49)، ( فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مَمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)) (النساء)، (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّـهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)) (المائدة).
لقد آن للنظرية أن تتحقق، وللمنهج أن يُطبَّق، وللدعوة المباركة أن تتحول إلى دولةٍ رشيدةٍ، بكل مقومات الدولة الصحيحة.
لتُخرج للحياة ( خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ .
) (آل عمران: من الآية 110)، ولتخرج للبشرية النموذج الصحيح للحياة والإنسانية التي يرضاها رب العزة لخلقه ( اليَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا ) (المائدة: من الآية 3) ( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِني هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (١٢٣)) (طه).
وليس أدل على ذلك إلا الاستقبال الحبيب من أهل المدينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد طول انتظار وترقب وشوق.
بهذا النشيد الخالد الذي سجَّله التاريخ بأحرفٍ من نور، وردده الكون كله مع رجال ونساء وفتيان المدينة: طلع البدر علينا.
.
من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا.
.
ما دعا لله داع أيها المبعوث فينا .
.
جئت بالأمر المطاع إذن.
هو الأمر المطاع والدستور الحاكم، والقانون المتبع، والمنهج المستحب.
هو الشريعة المنظمة لكل شئون الحياة ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨)) (الجاثية).
أول كلماتٍ قالها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم وسمعها منه أهل المدينة عن بكرة أبيهم: " أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام ".
- فأما إفشاء السلام.
فمعناه إشاعة الأمن والأمان؛ فلا يقوم مجتمع ولا تنهض أمة، ولا تنشأ حضارة، ولا يُبدع إنسان.
إلا في ظل الأمن والأمان " كل المسلم على المسلم حرام.
دمع وماله وعرضه ".
- وأما إطعام الطعام: فمعناه توفير الاحتياجات الأساسية لكل أفراد المجتمع، فما ينبغي أن يجوع في المجتمع المسلم أي إنسان- بل حتى الحيوان-.
لأن المجتمع كله يأثم شرعًا بذلك " ليس منا مَن باتَ شبعان وجاره جائع وهو يعلم "، ولا تنفع صلاة ولا عبادة إلا بأداء حق الضعفاء والمحتاجين ( وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ (٢٤) للسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥)) (المعارج)، ( أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)) (الماعون).
- وأما صلة الأرحام: فهي تقوية للوشائج الإنسانية، وتدعيم للروابط الاجتماعية، التي بدونها تفقد الحياة أجمل معانيها.
إن الأهل والعشيرة والقرابة والرحم والنسب والمصاهرة تمثل كلها سياجًا عاطفيًّا يعيش فيها المجتمع الحاضر وتنمو فيها الأجيال الجديدة في جوٍّ من الحبِّ والترابط والتعاطف والتآلف.
- وأما الصلاة بالليل والناس نيام.
فهي ميزة الحضارة الإسلامية الرفيعة السامقة إنها حضارة مرتبطة بالله تعالى.
تستمد منه العون والهدى ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥)) (الفاتحة)، تذوق من خلالها نعمة الاطمئنان ( أَلاَ بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (٢٨)) (الرعد) ( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) (سبأ: من الآية ١٥)، تطمئن على الحاضر القريب والمستقبل البعيد، على البداية والنهاية والخلود ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّـهِ ) (البقرة: من الآية ٢٨١)، ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (٦)) (الانشقاق)، فليس بالطعام فقط يحيا الإنسان.
إن هناك جوعة روحية وظمأ قلبيًّا لا يشبعها إلا الصلة الوثيقة برب الأرض والسماء.
كانت أولى خطواته العملية صلى الله عليه وسلم بناء المسجد وإصلاح السوق.
- بناء المسجد: ليكون المنطلق لبناء الإنسان الصالح والمجتمع الصالح رجالاً ونساءً.
صغارًا وكبارًا، وتتحول إحدى الصلوات المفروضة إلى صلاة جامعة يوم الجمعة.
نصفها بيان وإرشاد، وتفصيل وتوضيح ومناقشة لكل ما يهم المجتمع في حاضره ومستقبله.
" من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم "، ونصفها الآخر عبادة مختصرة في ركعتين فقط تربط الصف المؤمن بخالقه ومنشئه وراعيه.
- وأما إصلاح السوق: لتنتعش الحياة الاقتصادية وترتقي المعاملات المادية، فلا يحتكر القوتَ محتكرٌ، ولا يتحكم في أقوات الناس وأسعار السلع أصحاب الأغراض وأغنياء الحرب ومنتهزو الأزمات.
وكان من أعظم وأهم خطوات البناء لإقامة الدولة الرشيدة تلك المؤاخاة العجيبة التي جمعت أشتات المجتمع الإنساني كله على اختلاف الأجناس والانتماءات.
- كان قد آخى- قبل الهجرة- بين أبي بكر العربي القرشي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وسلمان الفارسي.
كلهم إخوة في الله وشركاء في الحياة.
- ومع وصوله للمدينة آخى بين الأوس والخزرج، وقد كانا فريقين مختلفين متنازعين بينهما حروب وعداوات رغم وجودهما في مدينةٍ واحدة.
- ثم آخى بين المهاجرين والأنصار في إطارٍ من الحب العظيم (ما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة)، على عكس ما يحدث في تاريخ الهجرات الكبيرة حتى سجَّلها القرآن الكريم كنموذجٍ فريدٍ غير مسبوقٍ للسماحة الإنسانية حين يحدوها الإيمان بالله ( وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مَمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩)) (الحشر).
- ثم أعلنها مؤاخاةً إنسانيةً جامعةً تجمع حتى المخالفين في الدين والعقيدة، فعقد المعاهدة تلو المعاهدة مع يهود المدينة، وأعلن الميثاق الخالد الذي تشرف به الإنسانية "لهم ما لنا وعليهم ما علينا".
غير أن اليهود بادلوه بالغدر والخديعة ونقض العهود وإشعال الحروب.
- استقبل وفود العالم وراسل قادة الأمم ودعاهم إلى مبادئ إنسانية عالية، مذكرًا إيَّاهم بعهدهم مع أنبيائهم ووصايا الأنبياء السابقين إليهم.
هذه هي الخطوات المباركة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لبناء أعظم دولةٍ عرفها العالم وشهد لها التاريخ.
وهي الخطوات التي نترسمها الآن ونحن نعيد بناء أمتنا من جديدٍ بعد عقود من التيه والضياع.
نعود لنستلهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هجرته الشريفة وإقامة دولته الفريدة عبقرية البناء.
المؤيدة بوحي السماء.
والله أكبر ولله الحمد.