الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

رسالة الأسبوع

رسالة أسبوعية تصدر عن جماعة الإخوان المسلمين

 الهجرة.. ونموذج الدولة الرشيدة (رسالة الأسبوع)

الهجرة.. ونموذج الدولة الرشيدة (رسالة الأسبوع)

  رسالة من: أ.
د.
محمد بديع- المرشد العام للإخوان المسلمين   الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن والاه، وبعد.

فقد كانت هجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة هي الخطوة الحاسمة في تحول الدعوة المباركة إلى دولة راسخة.

تحوُّل المبادئ والقيم والأخلاق والمثل إلى واقعٍ يعيشه الناس، وإلى أسلوب حياةٍ جديدة ونظامٍ محكم يتفاعلون معه وينعمون به ويحافظون عليه ويدافعون عنه من أعدائه المتربصين ومن منافسيه الحاسدين.
  إن هذا الدين العظيم منهاج حياة شامل كامل.

مصدره هدي ربِّ العزة جل شأنه، ينعم به على البشرية كي لا تضل ولا تشقى، نزل هذا المنهاج مع أول إنسان خلقه الله وهو آدم عليه السلام حتى لا يعيش بغير هدى من الله، وكانت تجربة الخطأ منقذة للبشرية؛ لأن مع الخطأ نزلت آية التوبة ( فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ) (البقرة :37) وهذا حدث مع أول رجل وأول امرأة وأول خطأ على ظهر الأرض، فكانت هذه رحمة الله العظمى بالبشرية جمعاء ( فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقَى * ومَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى ) (طه : 123-124) يبدأ بإصلاح الإنسان- عقله وقلبه- ثم سلوكه وأخلاقه، ثم ينظم علاقته بمن حوله من البشر وما حوله من كائنات.

إنه نظام محكم للحياة البشرية بأسرها ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأُنثَى وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) (الحجرات : 13).
  إن حقائق هذا الدين العظيم التي حملها الأنبياء والمرسلون على مدار التاريخ الإنساني تواجه مكائد الشيطان وجنوده ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلا إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ) (الحج : 52) وكذلك انحرافات وضلالات البشر، واختلال التصورات وفساد العقائد وانحلال القيم والجمود على الموروث، ومن ثَمّ تُقابَل دائمًا بالتجهم والمقاومة والسخرية والاستهزاء، ثم بالاضطهاد والمطاردة والإيذاء والاعتداء من المكابرين والمعاندين أو الجاهلين الجامدين على موروثاتهم، أو أصحاب المصالح ممن يستفيدون من انحرافات البشر وضلالاتهم ( وكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًا مِّنَ المُجْرِمِينَ وكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا ونَصِيرًا )، (الفرقان:31) ، وعلى هذه الوتيرة كانت المقاومة الشديدة لدعوة خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم من الاستغراب والاستهجان ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إلَهًا واحِدًا إنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) (ص:5) إلى السخرية والاستهزاء ( أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ) (الأنبياء:36) (لَوْلا نُزِّلَ هَذَا القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (الزخرف:31) إلى تنفير الناس من دعوته ( لا تَسْمَعُوا لِهَذَا القُرْآنِ والْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) (فصلت:26) وانتهى الأمر إلى الكيد والمكر ومحاولة الاغتيال ( وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويَمْكُرُونَ ويَمْكُرُ اللهُ واللهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ ) (الأنفال: 30) ولهذا قال الله عز وجل طمأنة للصادقين أتباع الرسل أن الله معهم ( فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (الحج : 52) ( وقَالَ اللهُ إنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وآمَنتُم بِرُسُلِي وعَزَّرْتُمُوهُمْ وأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ ولأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ) (المائدة: 12).
  وفي خضمّ هذه المواجهات والتحديات.

والتي هي من سنن الدعوات، تمَّ تكوين أعظم جيل عرفته البشرية.

جيل الصحابة الأولين الذين حملوا حقائق هذا الدين، وصمدوا في وجه الباطل وصبغوا حياتهم كلها بصبغة الله تعالى ( ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً ) (البقرة: 138)، وتخلقوا بأخلاق القرآن وجاهدوا وصبروا وتحملوا ألوان الأذى في النفس والمال والولد.

حتى أذن الله تعالى أن يجعل لهم مخرجًا بالهجرة إلى أرض جديدة.

تحتضن دعوتهم، وتستجيب لرسالتهم، وتتفاعل مع الحق المبين.
  كانت الهجرة الأولى إلى بلاد الحبشة، حيث يلتقطون أنفاسهم في بلد يحكمها حاكم نصراني عادل " لا يُظلَم عنده أحد "، ثم الهجرة الكبرى بعد ذلك إلى "يثرب" تلك البلدة الطيبة التي شرفت بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنارت بإقامته، وتحول اسمها بعد ذلك إلى "المدينة المنورة" التي تشع نورها وتنشر بركتها إلى العالمين.
لقد سبقت تلك الهجرة الشريفة- هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم- خطوات مضطردة في إبلاغ الدعوة ونشر الهداية، قام بها نفر قليل من تلاميذ النبي صلى الله عليه وسلم أمثال مصعب بن عمير ورفاقه الأبرار رضي الله عن الصحابة أجمعين.

ودائمًا "الدعوة" تسبق "الدولة" و"الهداية" تسبق "النظام" فكانت القلوب تتفتح لاستقبال النور، قبل أن تفتح "الديار" لاستقبال الأطهار، وكانت بيعة العقبة الأولى ثم الثانية تمهيدًا للخطوة الحاسمة، ويسجل التاريخ شهادة للإسلام أن المرأة المسلمة شريكة أساسية في البيعتين الأولى والثانية لإقامة الدولة الإسلامية، وكذلك شريكة فاعلة في الهجرتين، حتى صارت المدينة على أهبة الاستعداد، بل الشوق لاستقبال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  وحينما جاءت اللحظة الحاسمة- بتدبير الله تعالى- كانت الخطة المحكمة والإعداد الجيد والأخذ بكل الوسائل، ثم التوكل على الله تعالى.

أسبابًا في نجاح الهجرة، ودروسًا لكل الأجيال القادمة، كيف يكون التدبير الجيد والأخذ بالأسباب والاعتماد على الله سبحانه توكلاً على ربِّ الأسباب لتحقيق الأهداف السامية والغايات العظمى.
  واستقبلت المدينة المنورة حامل لواء الدعوة وخاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم استقبال الفاتحين.

فاتحي القلوب والعقول.

وأسلمت قيادها للنبي الهادي في حبٍّ وشوق، وترنَّم الشباب والصبايا بهذا النشيد الخالد:   طَلَعَ البَدْرُ علينا من ثَنِيَّات الوداع وَجَب الشكرُ علينا ما دَعـا لله داع أيُّها المبعوثُ فينا جِئتَ بالأمرِ المُطاع   إذن هو الأمر المطاع، والشرع المطاع، طاعة الحب والإيثار لا طاعة القهر والإجبار، والدين القويم، والنظام العظيم والدستور الإلهي، والهدي النبوي، والصورة المثلى للحياة البشرية تتحول واقعًا في تلك البقاع المقدسة لتكون مثالا حيًّا ونموذجًا واقعيًّا للحياة التي يرضاها الله تعالى لعباده المؤمنين، هاتفين جميعًا ونحن نهتف بعدهم لنذوق حلاوة الإيمان بتكرار الرضى في الحديث النبوي الشريف بواو العطف "رضيت رضيت رضيت" بالله ربًّا وبالإسلام دينا وبحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولاً.
  وتبدأ مراحل البناء وإعادة التنظيم بخطوات نحن أحوج ما نكون للانتباه إليها:   1) بناء المسجد: في "قباء" أولاً، ثم في "المدينة المنورة"؛ ليكون نقطة الانطلاق بارتباط المجتمع كله بالله تعالى، والتقاء القلوب على الإيمان، وتوحيد الصفوف على طاعة الله تعالى وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ( الَّذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ .

.
) (الحج: 41).
  2) المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار: عن حبٍّ وشوق، لا عن إجبار أو إكراه، فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة (!!) وتم تحقيق التكافل والمشاركة المجتمعية في أروع صورها ( والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ والإيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِمْ ولا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا ويُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ ولَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (الحشر: 9).
  3) المؤاخاة والإصلاح بين الأنصار بعضهم ببعض: حيث تلاشت الخلافات الداخلية بين الأوس والخزرج والتي كانت تشعل الحروب بينهم بسبب المنافسة، وبفعل اليهود الذين كانوا يستفيدون من النزاعات بين الطرفين، ويؤججون الحروب ليتاجروا في السلاح فيكون القاتل والمقتول مكسبًا لهم، ويكون سلاح القاتل وسلاح المقتول أرباحًا لهم، ولكن الله الرحيم العليم قال وقوله الحق: ( كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) (المائدة: 64) وألف بين قلوب المهاجرين والأنصار، وداخل الأنصار بين الأوس والخزرج، وأصبح الجميع إخوة في الله عز وجل ( إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ واتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) (الحجرات: 10).
  4) عقد المعاهدات والمواثيق مع غير المسلمين: والتي كانت بمثابة أول "إعلان دستوري" يشمل الخطوط الكلية الواضحة لنظام الدولة الجديدة في الداخل والخارج، وتضمن حقوق الجميع وتحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين من المسلمين وغير المسلمين، وأوفى هو عليه الصلاة والسلام بعهودهم ونقضها غيرهم في كل مرة.
  5) إنشاء السوق: ليتحقق النظام الاقتصادي الإسلامي والذي لا يقوم المجتمع إلا به، ولتحقيق مبادئ الشريعة في المعاملات المادية على أساس الكسب الحلال والمرابحة، والابتعاد عن الربا والاحتكار والمعاملات المخالفة لشريعة الدين، ولقد لفت القرآن الكريم النظر لأسباب قوة الدولة فجمع القوة الاقتصادية مع القوة العسكرية في آية واحدة ( ودَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً واحِدَةً ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وخُذُوا حِذْرَكُمْ إنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا ) (النساء: 102).
  على هذه الأسس والقيم تمت إقامة المجتمع المسلم والدولة المسلمة الأولى في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتابعت الخطوات لتدعيم الدولة وتقويتها وإعدادها لمراحل جديدة من الجهاد والنضال لنشر المبادئ السامية، وللدفاع عن الحق ونشر العدل ومقاومة الظلم في ربوع العالم، وكانت غزوات وملاحم انتهت باتساع رقعة العالم الإسلامي، وطرد المعتدين من جنود الإمبراطوريات المعتدية والتي احتلت تلك البقاع قرونًا طويلة.
  ما أحوجنا أن نستلهم خطوات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة؛ لسنتَرْشِد بها ونترسَّم خطاها ونحن نعيد بناء دولتنا المصرية الحديثة على هذه الأسس الإسلامية التي نتمنى ويتمنى معنا كل المسلمين المخلصين في العالم أن تكون نموذجًا للبشرية تحقق رضا الله عز وجل ومصالح العباد والبلاد، وإعادة تنظيم حياة البشر وفق منهج الله تعالى الذي به تتحقق سعادة البشر في الدنيا قبل الآخرة.
  وما أحرانا أن نستشعر أن أمامنا مراحل طويلة وأعباء كبيرة لبناء أنفسنا وتوحيد صفوفنا وتدعيم قوتنا لنعود كما كنا وكما يريدنا الله تعالى، وكما يحب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
  (كُ نتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ) (آل عمران : 110).
  القاهرة في: 1 من المحرم 1434هـ الموافق 15 من نوفمبر 2012م