رسالة الأسبوع.. فلسطين ووحدة الأمة
رسالة من: أ.د.
محمد بديع المرشد العام للإخوان المسلمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
.
فإن قضية فلسطين من الأهمية بمكان، وهي ليست قضية السلطة ولا الفلسطينيين ولا العرب، ولكنها هي القضية الأساس في حياةِ كل مسلم، وحولها يتَّحد المسلمون مهما كان تفرقهم، وفي سبيل عودتها يجاهد كل مسلم ويضحي، ويبذلون الأموال والأنفس في سبيل استردادها ( وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِ يمٌ) (المائدة: 54).
أيها المسلمون في كل مكان، أيها العالم أجمع.
اسمعوها منا صريحة واضحة مدوية: إن قضية فلسطين لها معالم واضحة جلية، لا تقبل المساومة، ولا مكانَ فيها للتفاوض أو التنازل، نعلنها في قواعد ثابتة لا تقبل التغيير ولا التبديل، ألا وهي: أولاً: فلسطين والقدس أرض إسلامية مقدسة، جزءٌ من عقيدة الأمة الإسلامية، والتفريط في أي جزء منها، تفريط في حضارة الأمة وعقيدتها، وهذا إثم عظيم.
ثانيًا: قضية فلسطين أمانة في عنق كل مسلم، الانتصار لها واجب، والدفاع عنها فريضة، والتفريط فيها جريمة في حق الدين، ووصمة في جبين الإنسانية، وأن الانتصار لخصومها ومغتصبيها والمعينين لها خروج عن الوحدة التي أمر الله بها: " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ " (الأنبياء: 92)، بهذا أعلن أعضاء المؤتمر الثالث لمجمع البحوث الإسلامية المجتمع في غزة سنة 1966م.
ثالثًا: إن التنازل عن أي جزءٍ منها لليهود أو لغيرهم، بل إن مجرد الاعتراف بأي حق لغير المسلمين فيها، ليس ملكًا لشخص، أو جهة، أو دولة، بعد فتح المسلمين لها، وإقرار الله عز وجل لنا فيها.
رابعًا: إن الجهاد فرض عَين على جميع المسلمين لاستردادها يستوي في ذلك المسلم العربي وغير العربي، فالجميع مطالب بصيانة مقدساته، وفي مقدمتها أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى النبي صلى الله عليه وسلم ومعراجه، وعلى ذلك أجمع علماء المسلمين.
الإمام البنا- رحمه الله- ونصائحه الثلاث بخصوص فلسطين: قد يبدو للكثير أن ما يجري على أرض فلسطين الآن عملاً عاديًّا؛ لأنه لم يقف على أسرار المؤامرة الخطيرة التي دُبِّرت منذ أربعة قرون واحتضنتها اليهودية العالمية، وعملت دائبة على سبيل تحقيق أهدافها عمل الجبابرة، لا تدخر وقتًا ولا جهدًا ولا مالاً ولا دعاية ولا مخادعة، وتحت عنوان "أحلام ثلاثة قرون وثلث تبددت في لحظة" كتب الإمام الشهيد حسن البنَّا- رحمه الله- نبذة عن تاريخ هذه الحفنة من الصهاينة وأتبعها بنصائح ثلاث ليت العالم سمع لها في حينها؛ حيث يقول: أولاها: إلى الصهيونيين أنفسهم أينما كانوا، وحيثما وجدوا، أن يستسلموا، وأن يدعوا هذا الهوس السياسي، ويتخلوا عن هذا الحلم الخيالي الذي أضرَّ بهم وبإخوانهم من اليهود في كل مكان، فهي نكبة الأبد، وشقاء الدهر.
إن من الخير لليهود أن يعيشوا مواطنين سالمين، في الدول التي ينتسبون إليها، لا أن تقوم لهم دولة، تنتسب إليها أقلية منها، وتعتبر الأكثرية أجنبية في كل وطن.
وثانيها: لأمريكا وروسيا وغيرهما من الدول التي حَلا لها أن تداعب المجتمعات السياسية، بالاعتراف بدولة لم توجد بعد، وإلى هذه الأمم المتحدة ومجلس الأمن، أن يتخلوا عن هذه الخطة من النظر السياسي الضيق المحدود بالأطماع والأغراض، ويتصوروا الأمور على وضعها الحقيقي، وسيرون أن هذا المنطق السليم، يفرض عليهم العدول عن تحدي الأمة العربية والإسلامية؛ فإن لهم جميعًا تاريخهم وماضيهم وكرامتهم وكيانهم، ولا يمكن أن ينزلوا عن أوطانهم وديارهم، لمجرد رغبة دولة من الدول، أو هيئة من الهيئات، كما يفرض عليهم هذا المنطق، أن ينصحوا اليهود بأن يعيشوا في أي مكان مواطنين طيبين، أو أن يبحثوا لهم عن وطن لا أصحاب له، وأرض الله واسعة.
وثالثها: للحكومات العربية والإسلامية والشعوب العربية والإسلامية، لقد عرفْتِ الطريق الحقَّ فالْزَمِيه، واستعيني بالله تعالى واصبري: " إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ " (الأعراف: 128).
في التاريخ عبرة: أيها المسلمون أجمعون، أيها العالم أجمع.
أما آن لنا أن نتعلم من التاريخ القريب، احتلال فرنسا للجزائر وسوريا ولبنان، ومن قبلها محاولتها احتلال مصر، واحتلال إنجلترا لمصر والسودان، وفلسطين والعراق، واحتلال إيطاليا لليبيا، ودعوى فرنسا أن الجزائر ولاية فرنسية، وحاولوا طمس كل معالم إسلاميتها بهدم المساجد، وطمس عروبتها بهجر اللغة العربية، وجعل الفرنسية لغة التعامل في الدواوين والمصالح، وكذلك فعلت إيطاليا بليبيا.
فماذا كانت عاقبة هؤلاء جميعًا؟ هل استقرَّ لهم قرار على تلك الأرض، أم مادت من تحت أقدامهم، ودحرتهم على أعقابهم خاسرين، وصدق الله سبحانه " أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا 10 ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ " (محمد: 10 – 11).
أيها العالم، أنا لكم ناصح أمين منذ أن قامت دولة الكيان الصهيوني والدم يجري في المنطقة، ولن يتوقف نزيف الدم طالما بقيت مغتصبة لأرض فلسطين، واعلموا أن الأمة العربية والإسلامية لن يقرّ لها قرار إلا إذا استردت فلسطين مهما دفعت من دماء وأموال.
أيها الصهاينة، لا تغرَّنكم قوتكم فهي سراب ولن تنفعكم، ولا تحسبوا أن اغتيال قائد يحقق لكم أمنًا، أو يلقي في قلوب المجاهدين يأسًا، بل كلما مات بطل منحتموه أسمى أمانيه، وحلَّ مكانه ألف بطل، ودماء الشهداء تروي شجرة الجهاد، فتتفرع وتورق وتثمر العزة والكرامة والحرية والتحرر واسترداد الأرض وحماية العرض وعودة المقدسات " وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ " (ص: 88).
الطريق لاسترداد فلسطين: إن الواجب على المسلمين أن يعملوا على استرداد فلسطين بكل الوسائل الممكنة، وفي مقدمتها إعداد القوة؛ تحقيقًا لقول الله تعالى: " وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ " (الأنفال:60) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: " المؤمن القويّ خير من المؤمن الضعيف "، بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: " اللّهُمّ إِنّي أَعوذُ بِكَ مِنَ الْهَمّ وَالْحَزَنِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنَ الْجُبْنِ والْبُخْلِ، وَأعوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَال "، ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف: - ضعف الإرادة: بالْهَمِّ والحزن.
- وضعف الإنتاج: بالعجز والكسل.
- وضعف الجيب والمال: بالجبن والبخل.
- وضعف العزة والكرامة: بالدَّيْنِ والقهر؟ الإيمان أول درجات القوة: يقول الإمام البنا رحمه الله: "ونحن نعلم أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ثم يلي ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح، ولا يصحّ أن توصف جماعة بالقوة، حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال، مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان، فسيكون مصيرها الفناء والهلاك".
ولكي ينصرنا الله عز وجل لا بد من تحقيق شرط النصر المتمثل في قوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " (محمد: 7).
والإيمان ضرورة أيضًا من أجل تجميع القوى الهائلة المهدرة والانتفاع بها، وضرورة من أجل تفجير طاقاتهم الروحية وحلّ كل المشكلات بين المسلمين، وتذويب الخلافات، وتوحيد كلمتهم وأهدافهم.
يقول الإمام البنا: "يظن كثير من الناس أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال والعتاد وآلات الحرب والكفاح لينهض ويسابق الأمم التي سلبت حقه، وهضمت أهله، ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه وألزم: القوة الروحية من الخُلُق الفاضل، والنفس النبيلة، والإرادة الماضية، والتضحية في سبيل الواجب، والوفاء الذي تنبني عليه الثقة والوحدة، وعنهما تكون القوة.
لو آمن الشرق بحقه وغيَّر من نفسه، واعتنى بقوة الروح، وعُنِيَ بتقويم الأخلاق، لأَتَتْه وسائل القوة المادية من كل جانب وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين.
يعتقد الإخوان المسلمون هذا تمام الاعتقاد، وهم لهذا دائبون في تطهير أرواحهم، وتقوية نفوسهم، وتقوية أخلاقهم، وهم لهذا يجاهدون بدعوتهم، ويريدون الناس على مبادئهم، ويطالبون الأمة بإصلاح النفوس، وتقويم الأخلاق.
وهم لم يبتدعوا ذلك ابتداعًا شأنهم في كل ما يقولون، ولكنهم يستمدُّونه من القاموس الأعظم، والبحر الخضم، والدستور المحكم، والمرجع الأعلى، ذلك هو كتاب الله تبارك وتعالى، وقد سمعت من قبل تلك المادة الخالدة من ذلكم القانون: " إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ " (لرعد: 11).
قوة الترابط ووحدة البنيان: والإيمان يصهر كل من يعتنق الإسلام في بوتقة واحدة، ويجعل من الجنسيات المتعددة، والألوان المختلفة، والطبقات المتفاوتة، والأقطار المتباعدة، جسدًا واحدًا، وبناءً مرصوصًا، وأمة واحدة، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم.
وإن هذا الاتحاد وتلك الوحدة، لهي من أعظم القوى في مواجهة الأعداء، ومن ثَمَّ يدرك سرّ حرص الأعداء على تفريقنا وإشعال الخصومة بيننا وشعاره الذي يرفعه وهو يحلّ في ديارنا مستعمرًا "فَرِّقْ تَسُد"؛ ولهذا كان حقًّا على المسلمين أن يستظلوا بقول الله تعالى: " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا " (آل عمران: 103).
أيها المسلمون، "تعالوا لِنتحد" فبذلك نطهِّر البلاد من المستعمر الغاصب، ونسترد المقدسات والديار المسلوبة، ونأخذ المكان اللائق بنا كخير أمة أخرجت للناس.
وفي الوقت الذي يدعو فيه الإيمان إلى الترابط والاتحاد يحذر من التنازع والشقاق قال الله تعالى: " وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ " (الأنفال :46).
قوة الساعد والسلاح: ثم في المرتبة الأخيرة تأتي قوة الساعد والسلاح يقول الإمام البنَّا: ولا يصحّ أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعًا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال، مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان، فسيكون مصيرها الفناء والهلاك.
والإسلام يحثُّ على إعداد القوة لا للاعتداء، ولكن للردع " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ " "الأنفال: 60" وإذا وجدت القوة تحقق السلم، وحلَّ السلام.
وما أحكم القائل: "القوة أضمن طريق لإحقاق الحق، وما أجمل أن تسير القوة والحق جنبًا إلى جنب".
أيها المسلمون، أخلصوا دينكم لله تعالى، وأحسنوا صلتكم بالله، واستمدوا بإيمانكم وصدقكم، من خزائن الله التي لا تنفد، ومن قوته التي لا تقهر، وجنده الذي لا يغلب: " وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ " (الصافات: 173) " إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَاد " (غافر: 51).
أيها المسلمون، في كل مكان: كونوا سندًا وظهيرًا لإخوانكم في فلسطين، وأمدُّوهم بما يحتاجون إليه، وناصروهم بكل المحافل الدولية، وإياكم أن تظلوا في لعبة الخدعة الكبرى التي يسمونها اتفاقيات السلام، وكفاكم عشرات السنين في تفاوض ولم يعترف لكم أحد بوجود في فلسطين، ولن يعترف لكم أحد بذلك؛ لأن عدوكم لا يعرف غير منطق القوة.
أما أنتم يا أبطال فلسطين، يا جندَ الله المرابطين في ثغور الشام، فالثبات الثبات، والصبر الصبر، فالنصر قريب، وفرج الله آتٍ ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) (الروم: 4 – 5).
والله أكبر ولله الحمد القاهرة في: 8 من المحرم 1434هـ، الموافق 22 من نوفمبر 2012م.