بعد تخاذل الحكومات.. دور التمويل الشعبي في دعم الجهاد في غزة
بقلم عبدالحافظ الصاوي
المال في الإسلام له فلسفة، يُدفع به لقضاء المصالح المعتبرة والمرسلة، وهو غير مقصود لذاته. ومن أهم الأبواب التي يوظف فيها المال لدى المسلم، توفير احتياجات الأمة، وكذلك تمويل الجهاد، سواء أكان هذا الجهاد، مباشرًا بحمل السلاح، أم بتمويل مجالات من شأنها دعم الجهاد المباشر، وحفظ وصون حصون الأمة وثرواتها المادية والبشرية والطبيعية.
وإذا كان حفظ المال من المقاصد العامة أو الكلية في الشريعة الإسلامية؛ فإن الصحابي الجليل حسان بن ثابت قال:
أَصونُ عِرضي بِمالي لا أُدَنِّسُهُ .. لا بارَكَ اللَهُ بَعدَ العِرضِ في المالِ.
ومتى فقد المال وظائفه بالحفاظ على حياة الناس، وأعراضهم، فقد فقد مقومات امتلاكه
ولا يمكن لحكومة عربية أو إسلامية أن تدعي أنها قدمت الدعم والمساعدة للجهاد الفلسطيني بغزة ضد الاعتداءات الصهيونية، فما ينفق على التسليح والجيوش العربية والإسلامية يصل إلى تريليونات الدولارات، فضلًا عن أن بعض الدول العربية تُعد من أعلى الدول على مستوى العالم في مشتريات السلاح السنوية.
وحسب إحصاءات المعهد العالمي للسلام، حول الإنفاق على التسليح، تبين أن 13 دولة عربية، بلغ انفاقها على التسليح في عام 2022 نحو 137 مليار دولار. تتقدم هذه الدول المملكة العربية السعودية بحجم إنفاق بلغ 75 مليار دولار، وبما يمثل نسبة 54.7% من إجمالي الإنفاق العربي على التسليح في هذا العام.
ومن عجب أن هذه الترسانات من الأسلحة المكدسة لدى الجيوش العربية، لم ترسل حتى رسالة تحذير للكيان الصهيوني! وهو- بالأساس- لم يعمل لها حسابا؛ لعلمه بأن تلك الدول لا تجرؤ على مواجهته، ولعلمه أيضًا أن هذه الأسلحة تم شراؤها إما لحماية النظم الحاكمة، أو بسبب النزاعات البينية العربية أو الإسلامية.
وحتى إذا خرجنا من إطار المواجهة الحربية؛ فإن الدول العربية والإسلامية، فضلت الصمت، وعدم استخدام ما لديها من أوراق يمكن أن توقف الحرب منذ يومها الأول، وعلى رأس هذه الأوراق، النفط والغاز الذي تمتلكه وتبرز في إنتاجه وتصديره، بلدان عربية وإسلامية.
بل المخزي أن الدول العربية مهدت طريقًا بريًا عبر الإمارات والسعودية والأردن لتأمين التجارة الخارجية للكيان الصهيوني، وبالتالي فالحكومات العربية والإسلامية، اعتبرت نفسها خارج نطاق دعم جهاد المقاومة الفلسطينية في غزة.
ولابد أن نذكر أنه في الوقت الذي ساهمت فيه مصر بالحصار على أهل غزة إبان جهادهم ضد الكيان الصهيوني بإغلاق معبر رفح، وعدم دخول المساعدات أو خروج المصابين إلا بإذن الكيان الصهيوني- وجدنا الحوثيين في اليمن- وهم من لم تكتمل لهم ولاية الدولة- قاموا بتهديد فعلي للكيان الصهيوني وداعميه، عبر منع وضرب السفن التي تتبع إسرائيل بشكل مباشر، أو تلك التي تتبع دول داعمة للكيان الصهيوني.
ولنا أن نتخيل لو أن كل دولة إسلامية أو عربية، أو المنظمات الجامعة لتلك الدول، اتخذت موقفًا عمليًا كما فعل الحوثيون، من أجل وقف الحرب على غزة، أو دعم الجهاد الفلسطيني هناك؟ إن وقف تصدير النفط العربي، الذي يمثل 25% من الصادرات النفطية العالمية، من شأنه أن يحدث آثارًا ملموسة في حركة الاقتصاد العالمي، تجعل الدول الكبرى تمارس دورًا ضاغطًا على الكيان الصهيوني لإنهاء الحرب. ولكن؛ هل يحدث هذا؟ أشك!
الدور الشعبي
منذ اللحظات الأولى لطوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023، استحضرت الشعوب العربية والإسلامية مسؤوليتها، في دعم طوفان الأقصى، وتقديم ما يمكن أن تساعد به الجهاد في غزة، بدءًا من حملة ناجحة للمقاطعة على مستوى العالم، بل شاركت في أعمال المقاطعة بعض الشعوب غير العربية أو الإسلامية، نظرًا لهمجية أعمال الإبادة التي يقوم بها الكيان الصهيوني في غزة، وقد أثمرت عملية المقاطعة ثمارا إيجابية؛ تمثلت في الخسائر التي منيت بها شركات كبرى داعمة للكيان الصهيوني، حيث انخفضت مبيعاتها، أو تراجعت قيمة أسهمها في البورصات، أو تبرأ بعض الشركات العالمية الكبرى من دعمها للكيان الصهيوني.
فضلًا عن الجهود الشعبية في الدول العربية والإسلامية، التي اتجهت بشكل سريع لتنظيم حمالات للتبرع المالي لدعم أعمال الإغاثة والرعاية الطبية للمصابين في غزة، وإن كان الأمر يتطلب المزيد مما تقدمه الشعوب، لمساندة الجهاد في غزة ضد الكيان الصهويني. ومن تلك الصور التي يجب أن تأخذ مسار التنفيذ في القريب العاجل ما يلي:
• تأسيس صناديق وقفية لأغراض متعددة. حيث يُعد الوقف من أفضل وسائل التمويل التي تتمتع بالاستدامة، وهي ما يناسب دعم الجهاد في غزة، فقد خلفت الحرب أوضاعا اجتماعية صعبة، تستلزم إنفاقًا طويل الأجل، لا يليق به سوى التمويل الوقفي، فهناك أبناء الشهداء، ومن فقدوا ذويهم بالكلية، ولم يبق إلا الطفل وحيدًا، وهناك المصابون، وهناك حاجة الناس للسكن، حيث دمرت البيوت، وأصبحت الشوارع مأوى للناس، كما دمرت الورش الصناعية والمزارع.
فضلًا عن البنية الأساسية، التي دُمرت، من مدارس ومراكز صحية ومستشفيات، وكذلك تم تدمير الجامعات، فكل ذلك يحتاج إلى تمويل، وللأسف التجربة السابقة في غزة، تشير إلى تقاعس الحكومات، وعدم وفائها بعهودها في مسألة إعادة الإعمار.
فمنظمة الاسكوا، تذكر أن عدد الشهداء في مطلع فبراير 2024 بلغ 27.4 ألف شهيد، كما أن عدد المصابين بلغ 67.3 ألف مصاب. كما توقفت عمليات التعليم بكافة المراحل، وتفشت ظاهرة الجوع. وتشير التقديرات إلى أن نسبة 92% من سكان غزة أصبحوا يعانون من الفقر متعدد الأبعاد، وكل هذا يحتاج إلى إنفاق في ظل تقاعس الحكومات العربية والإسلامية في مسار إيقاف الحرب، أو تقديم العون والمساعدة، لذلك يقترح أن يتم تأسيس الصناديق الوقفية الآتية:
رعاية أبناء الشهداء.
رعاية المصابين والجرحى.
المساهمة في إيواء النازحين، سواء حاليًا، أو مستقبلًا للعودة لبيوتهم وتشييدها.
السعي لاستمرار عمل المراكز الطبية والمستشفيات، وبناء ما تهدم منها.
إعادة بناء المدارس والجامعات، ودعم عودة الطلاب للعملية التعليمية.
دعم إعادة تأهيل البنية الأساسية من طرق ومحطات مياه وصرف صحي.
إعادة تأهيل الورش والمزارع، والمشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر.
قد تأتي هذه البنود بشكل مبدئي، ولكن الوضع في غزة، يحتاج المزيد من التمويل، لمتطلبات عودة عمل الحكومة، وانتظام حياة الناس، من تدبير أمر الرواتب للعاملين بالحكومة والمدارس والمستشفيات والأجهزة الأمنية.
وقبل هذا كله، ضرورة تمويل الوضع القائم، لمساندة الجهاد في غزة؛ فقد تكون التبرعات مهمة ضرورية الآن، واعتبار ذلك واجب الوقت، ولكنها لا تصلح في الأجلين المتوسط والطويل؛ ولذلك وجب السعي من الآن لتأسيس ما تم طرحه من صناديق وقفية، لتمويل الأفكار التي تم ذكرها.
الفكرة قابلة لأن تنفذ بشكل مركزي، بحيث تقوم على شأنها مؤسسة عالمية، سواء من بين تلك المؤسسات القائمة، أو من خلال إنشاء مؤسسة خاصة لأجل هذا الغرض.
ومن الضروري، أن نبين أن فكرة صناديق استثمار الوقف لا تعتمد فقط على الأوقاف العينية كالعقارات والأراضي وما شابه، ولكن يمكن الإفادة من الأوقاف النقدية، التي تعتبر الباب الأفضل للاستعانة من التبرعات النقدية، حتى ولو كانت صغيرة، فمن خلال المساهمات النقدية، يتم تكوين رؤوس أموال الصناديق الوقفية، التي عليها أمر تمويل متطلبات الجهاد في غزة، في مختلف المجالات.