عودة «الدعوة» والعودة إليها
بقلم: أحمد عبد العزيز
أن تصدر «الدعوة» مجددا، بعد كل هذه العواصف والأنواء التي تعرضتْ لها «الدعوة»، فهذا حدث عظيم. وأن أعاود الكتابة على صفحات «الدعوة»، بعد ما يربو على ثلاثين عاما، بطلب من الإخوة القائمين عليها اليوم، فهذا حدث له دلالاته التي أعتبرها مهمة للغاية، لا سيما أن قيادة الإخوان (منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي) تعتبرني «معارضا» لها، أو «متمردا» عليها، أو بالتعبير الشائع والدارج، بين الإخوان: “ أخ عليه ملاحظات”!
أما شخصي الضعيف، فيرى نفسه «إصلاحيا» مسكونا بحب دعوته التي اجتهد في فهمها فهما «موضوعيا»، خاليا من التعصب والغلو، وفكَّر (على مدى سنوات) في سُبل «غير تقليدية»؛ لتحقيق أهداف «الدعوة» وغايتها.. وآية ذلك، أنه قام بعرض العديد من الأوراق (خلال تلك السنوات) على قيادة الإخوان، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة..
أما لفظ «الدعوة الأول» ليس له دلالة «الثاني»، وإن تطابقا في النطق، والإملاء، والغاية أيضا.
فلفظ «الدعوة الأول» يعني مجلة «الدعوة»، لسان حال الإخوان المسلمين، صوت الحق والقوة والحرية (وهذا شعارها المنطوق)؛ أما لفظ «الدعوة الثاني» فهو الوصف «الداخلي» الشائع بين الإخوان لجماعتهم، وهو وصف دقيق للغاية، إذا ما نظرنا لبدايات هذه «الدعوة» التي لم يحلم أشد المتفائلين يوم تأسيسها، بأنها ستكون دعوة «عالمية» بالمعنيين: الجغرافي، والسياسي للكلمة.
فالأصل في الإخوان المسلمين أنها «دعوة» إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، قبل أن تكون «تنظيما» له قيادة وأُطُر، وهذا لا يعني أن الدعوة إلى الله «فوضى وارتجال»، وإنما تعني أن الإخوان المسلمين كانت (ويجب أن تبقى) مدرسة «دعوية» مفتَّحةَ الأبواب أمام الجميع، بلا استثناء، ودون قيود.
ففي عهد «الدعوة» الأول، كان يكفي، أن تطرق باب «الشُّعبة» الكائنة في منطقتك، وتسجِّل اسمك، وتدفع اشتراكا رمزيا، وبذلك تكون قد استوفيت «شروط العضوية» في الإخوان المسلمين.
أما التغيير «الجوهري» الذي طرأ على طبيعة «الدعوة» وشكلها «التنظيمي» = فقد وقع في منتصف سبعينيات القرن الماضي، إبَّان إطلاق سراح مَن نجا من الهلاك في سجون عبد الناصر، بقرار من الرئيس الراحل أنور السادات، وكم كنت أتمنى (ولا أزال) أن يُكشف اللثام عن طبيعة الاتفاق الذي أبرمه السادات مع قيادة الإخوان (وقتذاك) لإطلاق سراحهم؛ إذا لا يُعقل أن يكون خروج الإخوان من السجون قد تم دون شروط، رغم حاجة السادات (سياسيا وشخصيا) لإغلاق هذا الملف. هكذا أظن، وليس كل الظن إثم.
وقد يسأل سائل من شباب الإخوان: ماذا تعني بقولك «رغم حاجة السادات (سياسيا وشخصيا) لإغلاق هذا الملف»؟ وهو سؤال وجيه، والإجابة عنه تدخل في دائرة التثقيف وصناعة الوعي، قبل أن تكون مجرد رواية لواقعة» تاريخية».
ففي الأول من نوفمبر سنة 1954، أي بعد أربعة أيام فقط، من «حادث المنشية»، أو بالأحرى «مسرحية المنشية»، تشكَّلت «محكمة» أُطلِق عليها «محكمة الشعب» برئاسة جمال سالم، وعضوية: حسين الشافعي، وأنور السادات، وقد أصدرت هذه «المحكمة» حكما بالإعدام على سبعة من الإخوان المسلمين، هم: محمود عبد اللطيف، ويوسف طلعت، وإبراهيم الطيب، وهنداوي دوير، ومحمد فرغلي، وعبد القادر عودة، وحسن الهضيبي، وسيد قطب.. تم تنفيذ الإعدام في الخمسة الأول، في حين تم تخفيف «الحكم» على المستشار الهضيبي (المرشد العام)، والأستاذ سيد قطب الذي أعدمه عبد الناصر لاحقا في 29 أغسطس من سنة 1966.
وقد وضعتُ كلمة «المحكمة» بين علامتي تنصيص اعتراضا واحتجاجا؛ لأن أيا من أعضائها لم يدرس القانون! ومن ثم، فهم ليسوا قضاة، فضلا عن أداء جمال سالم (رئيس المحكمة) المجافي جملة وتفصيلا لمفهوم العدالة!
يقول ريتشارد ميتشل في كتابه «الإخوان المسلمون»، الصادر عن مكتبة مدبولي عام 1977: «أما رئيس المحكمة جمال سالم، فقد كان تصرفه أقرب إلى تصرف المدعي العام؛ كان يقاطع الشهود، دون تحرج، إذا لم تعجبه إجاباتهم، وكان يضع الكلمات في أفواههم، فيتقوَّل عليهم ما لم يقولوا، وكان أحياناً يستعمل التهديد؛ ليفرض عليهم الإجابة التي يريدها»!
وللتذكير والإنصاف: المدعي العام لا يجوز له فعل ما فعله جمال سالم بأي حال!
ولكي يكتمل هذا المشهد العبثي السوداوي، فقد نصت المادة السابعة من «قانون» إنشاء هذه «المحكمة» على: «إن أحكام هذه المحكمة نهائية، ولا تقبل الطعن، بأي طريقة من الطرق، وأمام أي جهة من الجهات»! أما المادة الخامسة من «القانون» نفسه، فقد حددت زمن الفصل في القضية بـ 48 ساعة فقط! حيث نصَّت على: «لا يجوز تأجيل القضية أكثر من مرة واحدة، ولمدة لا تزيد عن 48 ساعة، للضرورة القصوى».. إنها عدالة العسكر التي لا تزال تتمرغ فيها مصرنا، منذ سبعين سنة، وحتى اليوم!
ولا شك عندي أن السادات كان غير راض عن هذا الحكم الظالم الجائر، لكنه بريق السلطة الذي يُزيغ الأبصار، ويُقلِّب القلوب، ويُميت الضمائر، أو يُخدِّرها إلى حين، أو إلى الأبد!
فالسادات هو الشخص الوحيد، من بين ما سُمِّي «مجلس قيادة الثورة» الذي تكلم عن «فكرة» الإخوان المسلمين بإنصاف، وإعجاب، ونقد موضوعي أيضا، وكأنه لا يزال واحدا من الإخوان، في كتابه «البحث عن الذات» الذي نشره وهو رئيس، وكان يمكن ألا يفعل، غير أنه فعل، بل وذكر المعروف الذي صنعه معه الإمام حسن البنا (رضوان الله عليه)، إبَّان القبض عليه متهما (وآخرين) باغتيال أمين عثمان، وزير المالية، الصديق المخلص للإنجليز، الخائن لوطنه وشعبه.. فقد خصص الإمام البنا عشرة جنيهات معاشا شهريا لأسرة السادات، طوال مدة سجنه التي استغرقت نحو عامين!
كان في السادات بقية من خير، وبعض من ضمير، جعلاه يطلق سراح الإخوان، وأنصفهم في مذكراته، ربما تكفيرا عن عضويته في تلك المحكمة العبثية، وصمته على هذا الجَور والظلم، في حينه، وهذا ما قصدته بالجانب الشخصي.. كما أنه كان بحاجة إليهم؛ للتصدي للفكر الشيوعي الذي غزا جامعات مصر، وإعلامها، ونقاباتها، خلال الفترة الناصرية، أو هكذا شاع، وهذا ما قصدته بالجانب السياسي.
الحديث عن «محكمة الشعب» وإنصاف السادات للإخوان فرضه السياق..