الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

مقالات وآراء

باب للفكر والرأى والنقاشات الحرة. ينشر الآراء منسوبة لأصحابها...

المعاصي وأثرها على الصيام في شهر رمضان

المعاصي وأثرها على الصيام في شهر رمضان

رجب أبو مليح

أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة بماليزيا

الصيام الشرعي المعروف هو: الإمساك والامتناع الإرادي عن الطعام والشراب، ومباشرة النساء وما في حكمها، خلال يوم كامل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنية الصوم والامتثال والتقرب إلى الله تبارك وتعالى.

لقد فرض الله العبادات عامةً للارتقاء بالأخلاق وتهذيب السلوك، فقال سبحانه وتعالى:

{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} (البقرة: 45).

وقال تعالى عن الصلاة:

{اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} (العنكبوت: 45).

وقال تعالى في شأن الزكاة:

{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} (التوبة: 103).

وقال تعالى:

{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة: 263).

وقال في شأن الصيام:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: 183).

وقال تعالى في شأن الحج:

{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (البقرة: 197).

ومن هذا يتبين أن الغاية العظمى من تشريع العبادات هي تحقيق كمال العبودية لله عز وجل، ولا بد أن يظهر هذا في أخلاق المسلم، فقد حصر النبي ﷺ رسالته على إتمام مكارم الأخلاق، فقال:

"إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وفي شأن الصيام، قال النبي ﷺ:

"من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

وقال:

"ربَّ صائمٍ ليس له من صيامه إلا الجوعُ، وربَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر".

ومن ثم، اختلف الفقهاء حول المعاصي: هل تفطر الصائم إفطارًا ماديًا مثل تعمد الأكل والشرب والجماع في نهار رمضان، أم لا؟

يرى بعض الفقهاء، ومنهم الظاهرية، أن المعاصي تفطر الصائم مثل الطعام والشراب والجماع؛ فمن اغتاب مسلمًا، أو ظلمه، أو اقتطع حقه عن طريق الرشوة، أو سجنه بغير حق، أو عذَّبه، أو جنى جناية بفمه أو عينه أو رجله أو يده، فقد أفطر عامدًا.

وعند هؤلاء الفقهاء، فإن من أفطر عامدًا في رمضان فلا كفارة له، وإن صام الدهر كله، وأمره متروك لله، إن شاء عذَّبه وإن شاء عفا عنه.

أما جمهور الفقهاء، فيرون أن المعاصي تنقص أجر الصائم وتجرحه حتى تكاد تأتي عليه، فلم ينل من صيامه إلا الجوع والعطش، ومن قيامه إلا السهر والتعب، كما أخبر النبي ﷺ.

ورأي الجمهور هو الراجح، وهو ما نُفتي به، غير أن المسلم العاقل لا يُتعب نفسه في الصيام بالنهار والقيام بالليل، ثم لا يخرج من ذلك بشيء! فالصيام مدرسة أخلاقية كبرى، يتربى فيها المسلم على تحقيق التقوى بمعناها الشامل، فإن لم يستفد منها فهو أحمق لا يُحسن التصرف.

قال النبي ﷺ:

"الصيام جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب - وفي رواية: (ولا يجهل) - فإن امرؤٌ سابَّه أو قاتله، فليقل: إني صائم، مرتين".

فإذا كان هذا حال المسلم إذا شُتم، فكيف إذا كان هو السبَّاب أو الطعَّان أو اللعَّان؟!

إن المسلم يتعود على ترك الحلال - من طعام وشراب ومعاشرة زوجته - لأن الله حرَّمه عليه في نهار رمضان، فكيف بالمعاصي التي هي محرمة في كل وقت؟!

وفي هذا الشهر، يحرص المسلم على تجنب الطعام والشراب، حتى إذا نسي وأكل، نزعج أشد الانزعاج، رغم أن الشرع رفع عنه الحرج.

ومع ذلك، نجد من يغفل عن خطورة الغيبة والنميمة، وكأن الصيام مجرد امتناع عن الطعام!

وإن العقل ليحتار في أمر أولئك الذين يكثرون من الصيام والقيام، لكنهم يغرقون في حقوق العباد؛ فترى أحدهم يشتم هذا، ويقذف ذاك، ويأكل مال غيره!

إن آلاف المظلومين الذين يقبعون في السجون ظلما، سترتفع دعواتهم إلى السماء، وما بينها وبين الله حجاب.

قال الله تعالى:

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} (إبراهيم: 42).

وقال الشاعر:

ندم البغاةُ ولاتَ ساعةَ مندمِ ** والبغيُ مرتعُ مبتغيه وخيمُ

اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.