

الثورة السورية.. مكامن الخطر ومصادر التهديد
في السابع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، انطلقت ثلاث عمليات عسكرية ولوجستية لإسقاط نظام بشار الأسد في سوريا. الأولى: عملية "ردع العدوان"، وقادتها قوات هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، والثانية: عملية "فجر الحرية"، وقادها الجيش الوطني السوري والفصائل المتحالفة معه، والثالثة: عملية "أمل العائدين"، وقادتها مؤسسة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء).
وخلال 11 يومًا فقط، نجحت هذه العمليات في إسقاط بشار الأسد وهروبه خارج البلاد، وإعلان تحرير العاصمة السورية دمشق، ودخول قوات المعارضة قصر بشار في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، وبدء مرحلة جديدة، ليس فقط في تاريخ سوريا، ولكن في تاريخ المنطقة العربية والشرق الأوسط.
ومع الأجواء الاحتفالية بهذا الانتصار، التي تجاوزت حدود سوريا وغمرت الكثيرين، وخاصة في دول الثورات العربية، ظهرت موجة واسعة من التفاؤل، لكن كانت هناك أيضًا حالة من القلق والترقب؛ إذ لم يمر سوى 14 عامًا فقط فصلت بين الفرحة بسقوط نظام مبارك في مصر بعد 18 يومًا فقط من انطلاق ثورة الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، وسقوطه في الحادي عشر من فبراير/ شباط 2011، والفرحة بسقوط بشار.
فلأن الكثيرين عاشوا التجربة المريرة في مصر بعد ذلك، في الانقلاب العسكري المدعوم من قوى الثورة المضادة في الثالث من يوليو/ تموز 2013، كان القلق والترقب حاضرًا؛ خوفًا من ثورة مضادة، تقف خلفها نفس الأطراف التي دعمت الثورة المضادة في مصر، ولكن مع تنويع في السياسات والمسارات والأدوات التي تتبناها.
وكان القلق والترقب منطقيًا وواقعيًا؛ لأن بوادر الثورة المضادة في سوريا بدأت منذ اليوم الأول لسقوط بشار، وتشابهت بعض أدواتها مع ما شهدته التجربة المصرية، ولكن ما حدث في السادس من آذار/ مارس 2025 كان أحد أخطر أشكال الثورة المضادة في سوريا؛ حيث شنّت فلول النظام السوري السابق مجموعة من الهجمات المتزامنة في مدن وقرى الساحل السوري، استهدفت دوريات الأمن العام ومقراته، في عملية هي الأوسع والأولى من نوعها منذ سقوط نظام الأسد بتاريخ 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
بدأت الهجمات بنصب كمائن على طريق "اللاذقية - جبلة - بانياس"، وأدت إلى قطع الطريق، ثم مهاجمة عدة مواقع، منها قيادة القوات البحرية، والكلية البحرية، والسيطرة عليهما قرب جبلة، وفروع الأمن الجنائي باللاذقية وجبلة، وقيادة المنطقة بالقرداحة، والمشفى الوطني بجبلة. كما تم قطع طريق دريكيش، وطريق القسطل - اللاذقية، وطريق بيت ياشوط، ومطار سطامو العسكري، وجسر قاعدة حميميم، وحواجز مرفأ طرطوس. وأسفر الهجوم الأولي عن استشهاد نحو 20 عنصرًا من رجال الأمن العام، وخطف نحو 50 آخرين تمت محاصرتهم واعتقالهم.
وتزامن الهجوم مع إعلان تشكيل مجلس عسكري يقوده أحد قادة الفرقة الرابعة في النظام السابق، وأحد المقربين من ماهر الأسد. وقد دعا البيان إلى حمل السلاح ومواجهة قوات الحكومة الجديدة. كما جاء هذا الهجوم بعد يوم واحد فقط من إعلان الحرس الثوري الإيراني عن تشكيل ما أسماه "المقاومة الإسلامية في سوريا – أولي البأس"، وكذلك الإعلان عن تشكيل ما سُمي "القوة 313 للجهاد في سوريا".
كما تزامنت هذه الهجمات مع الاضطرابات في السويداء، وقبلها في مدينة جرمانا، وتحركات تعزيزات عسكرية لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في جبهات سد تشرين ومسكنة، وتحرك وحدات الحماية الكردية داخل مدينة حلب، التي قامت بالسيطرة على دوار الليرمون قبل تراجعها بعد ذلك. هذا بجانب التمددات والاعتداءات المتكررة من جانب الكيان الصهيوني على الأراضي السورية، والخطاب الصهيوني المثير للفتن الطائفية في الحالة السورية عبر بوابة الدروز وتحت مظلة "حماية الدروز"، وخاصة بعد أحداث جرمانا.
هذه التحركات المتزامنة والمنسقة، إضافة إلى الإعلانات المسبقة للتشكيلات العسكرية في الساحل السوري، وسياسة التحشيد الإعلامي في الفترة الأخيرة ضد النظام الجديد في سوريا، تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن هناك عملية مخططة ومدروسة، تقوم بها أدوات داخلية لكنها مدعومة من جهات خارجية، تسعى لخلط الأوراق أمام النظام الجديد، وتوزيع الأدوار بين هذه الأطراف مع التنوع والتعدد في الجبهات، سعيًا نحو تشتيت قدرات النظام حتى يعجز عن المواجهة. وبهذا، تتمكن هذه الأطراف من إيجاد مواقع أقدام ترسخ فيها وجودها، ثم تؤسس لكيانات تفكيكية للدولة السورية، من خلال تغيير خارطة السيطرة في سوريا وتعويض بعض الأطراف لخسائرها منذ سقوط بشار الأسد، وفي مقدمة هذه الأطراف روسيا وإيران وإسرائيل وفلول النظام وبعض الفصائل الكردية وبعض المكونات الدرزية.
لكن سرعة استجابة القوات الأمنية والعسكرية للنظام نجحت مرحليًا في إفشال محاولات المهاجمين بالسيطرة على مدن الساحل: طرطوس، وجبلة، واللاذقية، واستئصال جزء كبير من مجموعات وخلايا فلول النظام السابق. ولكن يبقى الخطر قائمًا، والتهديد مستمرًا، أمام تعدد الأطراف وتعقد المشهد.
فالأمر لا يقف عند أكبر الخاسرين من سقوط بشار، مثل روسيا وإيران وإسرائيل، ولكن القائمة تضم نظمًا سياسية عربية كان من مصلحتها كذلك استمرار بشار، مع اختلاف الأهداف والغايات، مثل النظام في مصر، وفي الأردن، وفي الإمارات.
بل إن الإمارات، منذ اليوم الأول لعملية "ردع العدوان"، حرّكت آلتها الإعلامية للنيل من العملية وتشويه رموزها. وكان موقفها شديد السوء من قادة النظام الجديد، وكيف لا، وهي الحليف الأقرب للكيان الصهيوني، وللفصائل الكردية الانفصالية المسلحة، التي أفردت لرموزها وقادتها مساحات واسعة على وسائل إعلامها بعد سقوط بشار، ليس فقط لتفكيك سوريا، ولكن لاستعداء كل من تركيا وقطر، اللتين أظهرتا كل صور الدعم والمساندة للنظام الجديد.
إن أمام سوريا مرحلة انتقالية شديدة الخطورة، في ظل حالة التكالب الإقليمي والدولي عليها، ولكن الفارق الأساسي بينها وبين الحالة المصرية، والذي يرفع من احتمالات نجاح الثورة السورية، هو تغير الأدوات، وامتلاك القدرات، وتجربتها، والوجود المباشر على الأرض، ووجود حواضن إقليمية قوية وفاعلة، من مصلحتها الاستراتيجية نجاح الثورة في سوريا.