خطابات أبي عبيدة… ورسائل العزة المنسية
بقلم د. خالد حمدى
ينتظر المسلمون كل حين خطاب أبي عبيدة أو الملثم(كما يحلو للكثيرين تسميته). والحق أنهم لا ينتظرونه لما في جعبته من الأخبار، فوكالات الأنباء أسرع منه أخبارا؛ لكن الذي جمع حوله القلوب، وشوق إليه النفوس؛ هو ما تحمله كلماته من معاني العزة رغم جراحات أصحابه، ونبرات القوة، رغم نزيف الأرواح الذي لا يكاد يتوقف.
ذلك لأن الإيمان أخو العزة، والإسلام لصيق الرجولة والشهامة، وإن كان صاحبه في موقف الألم والقرح.
روى البخاري أن أبا سفيان أشرف أي:(اطلع على المسلمين بعد غزوة أحد) فقال : أفي القوم محمد ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لا تجيبوه ، قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ؟ فقال : لا تجيبوه . قال : أفي القوم ابن الخطاب ؟ فقال : إن هؤلاء قتلوا ، فلو كانوا أحياء لأجابوا ، فلم يملك عمر نفسه فقال : كذبت يا عدو الله ، أبقى الله لك ما يحزنك . قال أبو سفيان : اعل هبل (صنمهم الذي يعبدونه ). فقال النبي - صلى الله عليه وسلم – أجيبوه ، قالوا : ما نقول ؟ قال : قولوا : الله أعلى وأجل ، قال أبو سفيان : لنا العزى ، ولا عزى لكم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أجيبوه ، قالوا : ما نقول؟ ، قال : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم…الحديث).
فالمسلمون رغم جراحاتهم الجسدية فإن عزتهم القلبية تأبى عليهم أن تمكن الكافر من فرحته!!
قال تعالى: “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافين لا يعلمون» (المنافقون: 8).
وهذا ما يفعله أبو عبيدة وإخوانه، يعضون على جراحهم، ويخرجون على شاشات التلفزة وقد فرغ الناس من دفن المئات، وباتوا على الطوى، وليس لأحدهم سقف يظله، ولا بيت يقله، ثم تستمع للرجل آخر الليل يهين عدوه. ويثبت إخوانه، ويملي شروطه رافعا سبابته هازّاً رأسه، قويا صوته عزيزة نفسه!!
عدت إلى السيرة فوجدت القوم لا يصنعون ذلك من عند أنفسهم، وإنما يستنون بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم في مثل مواقفهم هذه، سيما في غزوة الأحزاب التي يقولون إنها أشبه الغزوات بطوفان الأقصى أجواء وحصارا وخيانة وعددا وعدة وخندقا وأنفاقا.
ذكر كتاب السير أن أبا سفيان أرسل رسالة مكتوبة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم – جاء فيها : « باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى.. وإساف ونائلة وهبل، لقد سرتُ إليك في جمع وأنا أريد أن لا أعود إليك أبداً حتى أستأصلكم، فرأيتك قد كرهت لقاءنا واعتصمت بمكيدة ما كانت العرب تعرفها، وإنما تعرف ظل رماحها وشبا سيوفها، وما فعلت هذا إلا فراراً من سيوفنا ولقائنا، ولك مني يوم كيوم أحد» .فأرسل له رسول الله -صلى الله عليه وسلم - جوابه وفيه:» بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى صخر بن حرب، فقد أتاني كتابك، وقديماً غرك بالله الغرور. أما ما ذكرت أنك سرت إلينا وأنت لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمر يحول الله بينك وبينه ويجعل لنا العاقبة، وليأتين عليك يوم أكسر فيه اللات والعزى وإسافاً ونائلة وهبل، حتى أذكرك ذلك يا سفيه بني غالب «[ الحلبي : السيرة الحلبية 2/ 628].
فانظروا إليه صلى الله عليه وسلم، وهو من حيث القوة أقل من عدوه عددا وعدة، لكنه أقوى منه نفسا، وأعز منه دينا، وهذه والله لا تكون إلا للمؤمن، وكذلك يصنع أبوعبيدة وإخوانه.
وقد عمل العدو طيلة قرن كامل على بث روح الضعف والذلة والانكسار في الأمة: حتى لا تشرئب أعناقها لمكانتها السابقة، ولا لشريعتها العزيزة السامقة، فترضى بالدون، وتقنع بالاستكانة!!
فلما جاءت أحداث طوفان الأقصى وفي القلب منها خطابات أبي عبيدة العزيزة، وصرخات أهل غزة القوية رغم أطنان القنابل وعشرات ألوف الشهداء والجرحى- أيقظت في الأمة شيئا فطرها الله عليه، ودعاها دينها إليه، وورثها السابقون لها؛ اسمه العزة!!
يقول سبحانه: ﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ [ص: 28].
ويقول سبحانه: ﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾ [الجاثية: 21].
روى البيهقي أن الصحابي الجليل عَائِذَ بْن عَمْرٍو الْمُزَنِيّ رضي الله عنه ؛ وكان في السابقين إلى الإسلام-جَاءَ يَوْمَ الْفَتْحِ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قبل أن يسلم أبو سفيان، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَوْلَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: (هَذَا أَبُو سُفْيَانَ، وَعَائِذُ بْنُ عَمْرٍو)، فاعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة، وقال:
“هَذَا عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو سُفْيَانَ، الْإِسْلَامُ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى”.
حتى في الأسماء، أبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقدم الكافر على المسلم أو يعلو عليه، فكيف بما فوق ذلك؟!!
لو لم نخرج من طوفان الأقصى إلا باسترجاع معاني العزة إلى أصحابها الحقيقيين «وأنتم الأعلون» لكفى.
لأن معارك البارود والقنابل لا بد لها من قلوب أنِفةٍ عزيزة قبلها، وإلا لن تنتصر أبدا، فالقلوب قبل الأيدي تحارب.
وأول أسلحة القلوب سلاح العزة الذي هو حكر على المؤمنين ؛ على المؤمنين وحدهم.
وليت جموع الأمة توقن بذلك.