طوفان الأقصى.. ومعركة الصورة
بقلم محمود الشريف باحث في علوم الاتصال
حين اقتحمت الدبابات الأمريكية بغداد في 9 أبريل/نيسان 2003، استسلم مشاهدو التلفزيون حول العالم للمشاهد التي بثتها في الصباح على الهواء مباشرة مختلف القنوات الأمريكية من ساحة الفردوس في بغداد لإسقاط التمثال العملاق للرئيس العراقي صدام حسين، فأينما اتجهت أنظار المشاهدين من «سي إن إن” إلى “فوكس” إلى “سي بي إس” يجدون نفس المشاهد المتلفزة، ومن فاتته وجبة الفطور الإعلامية الدسمة فسيجد ضالته في الصفحات الأولى من كافة الصحف حول العالم، التي عرضت نفس الصور مع المقارنة بينها وبين سقوط تماثيل لينين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وسقوط أنظمة هتلر ولينين وشاوشيسكو. ورغم تشكيك البعض في عدد المواطنين الذين احتواهم الميدان وقتئذ ومدى سيطرة القوات الأمريكية على مجريات المعارك في بغداد، فإن هذا المشهد الأيقوني قد فرض واقعا جديدا أدى لانهيار معنويات الجيش العراقي وهروبه من القتال وسقوط العاصمة في يد الغزاة.
لقد تعلمت الإدارة الأمريكية خطورة معركة الصورة بعد خسارتها الحرب الإعلامية إبان احتلالها لفيتنام، وانتشار صور آثار القصف الوحشي للمدنيين الفيتناميين بقذائف النابالم الحارقة، وهو ما سبب ضغطا شعبيا رهيبا لم تصمد أمامه الإدارة الأمريكية؛ فأخرجت قواتها من فيتنام منهزمة منكسرة، فعملت بعدها الإدارة الأمريكية على فرض نوع من «الضبط الاجتماعي» على المواطن الأمريكي ابتداءً لمنع أي تشويش داخلي على ممارساتها كما حدث في حالة الحرب الفيتنامية، ثم الرأي العام العالمي؛ لتحقيق الهيمنة وإسقاط قدرة الشعوب على المقاومة. وتم ذلك عبر تكوين ما أُطلق عليهم Spin Doctors -أو سائسي العقول؛ إن قربنا المصطلح للعربية- وهم متحدثون رسميون أو شبه رسميين يقومون نيابة عن الإدارة الأمريكية بالتلاعب بالحقائق التي تبث لوسائل الإعلام المحلية والدولية، مع إعطاء تفسير إيجابي للأحداث، وتبرير أخلاقي لأي ممارسات تقوم بها هذه الإدارة. يتم ذلك بالتزامن مع صناعة الصورة السينمائية للبطل الأمريكي الخارق الذي يخوض معاركه «الأخلاقية» لتحرير العالم من الإرهاب، وفرض العدالة والسلام العالمي، وتسويق هذه الصورة عبر الشبكة الإعلامية الضخمة المهيمنة على العالم!
يقول «هربرت أ. شيللر” في كتابه “المتلاعبون بالعقول” الذي نشر عام 1973: “يقوم مديرو أجهزة الإعلام في أمريكا بوضع أسس عملية تداول الصور والمعلومات ويشرفون على معالجتها وتنقيحها وإحكام السيطرة عليها، تلك الصور والمعلومات التي تحدد معتقداتنا ومواقفنا بل تحدد سلوكنا في النهاية. وعندما يعمد مديرو أجهزة الإعلام إلى طرح أفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي فإنهم يتحولون إلى سائسي عقول.»
لم تكن الربيبة «إسرائيل» بمعزل عن هذا المعترك، فقد مارس سائسو العقول الممولون من اللوبي الصهيوني دورهم في السيطرة على ما يصل لمدارك الأمريكيين عن الأحداث في فلسطين، ومع مجيء العصر الرقمي بثوراته التقنية قاموا ببناء جيش من مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي المدربين جيدا على فرض سردية واحدة تبرر أي جريمة يرتكبها الاحتلال الصهيوني تجاه الفلسطينيين، وعرضها كدفاع شرعي عن النفس، ولاحظ تسمية جيش الاحتلال الهمجي بـ «جيش الدفاع»!
وبعد عقود من «استقرار» الصورة التي وضعها الكيان الصهيوني عن نفسه وعن عدوه، جاءت ملحمة السابع من أكتوبر 2023 ؛ لتحدث صدمة تاريخية موجعة، أفقدت العدو توازنه، وجعلته يطلق فرقه الدعائية المسماة بالـ «هاسبارا” بشكل مسعور لتغذية الوعي العالمي بصورة ذهنية وحشية عن المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها “حماس”، لتبرير الإبادة الجماعية للفلسطينيين وتهجيرهم من غزة، وتصفية المقاومة التي كسرت صورته أمام العالم، فارتكزت الدعاية الصهيونية على عزل ما جرى في السابع من أكتوبر عن السياق التاريخي للقضية الفلسطينية، وإظهار المقاومة كفعل اعتداء، في حين أن العدوان الوحشي غير المسبوق على غزة ردّة فعل على ما حدث في السابع من أكتوبر، مع استحضار مشهد المحرقة النازية لابتزاز المشاعر العالمية كالعادة. كما عملت الدعاية على تشويه صورة المقاومة بتشبيهها بداعش من ناحية، وبالغزاة الروس لأوكرانيا من ناحية أخرى، لصناعة صورة لعدو يكرهه العالم، ويدعم تصفيته بأي شكل.
لكن يبدو أن طوفان الأقصى أتى بما لا تشتهيه سفن الصهاينة، فقد دارت معركة طاحنة لا تقل ضراوة عما يحدث على أرض غزة وجوها وبحرها، بل قد تزيد، ميدانها الوعي العالمي.. فبعد ظهور آلاف الصور التي تظهر الفظائع التي ارتكبها الصهاينة بحق الشعب الفلسطيني؛ انبرى المئات من صناع المحتوى حول العالم لدحض السردية الصهيونية الواهية وتفكيكها وإبراز بطلانها بسردية فلسطينية مقاومة، أفقدت العدو توازنه، فربطت الأحداث بالسياق التاريخي للقضية، وأبرزت الصورة الوحشية للاحتلال الصهيوني، وبرعت المقاومة في الوقت نفسه في التوثيق الإعلامي لتفوقها على الأرض وجسارتها في القتال والاشتباك والمناورة، فجاءت قذائف الصور متناغمة معها، تزيل الغشاوة عن العيون، كعصا موسى يلقيها على ما صنعه السحرة؛ فإذا هي تلقف ما يأفكون.
في الولايات المتحدة على سبيل المثال، أنتجت «معركة الصورة والمعنى» تحولات أظهرتها استطلاعات الرأي المتتالية؛ أن جيل الألفية، وهو ما يطلقون عليه «جيل زد Z”، يرفض أغلبه ممارسات حكومة بايدن ودعمه غير المشروط لإبادة الفلسطينيين في غزة، وقس على ذلك في مختلف دول أوروبا الداعمة للكيان الصهيوني.. هذا الجيل خرج عن سيطرة الإعلام الصهيو-أمريكي وشركات العلاقات العامة المأجورة، وصار قادرا على استقاء معلوماته بنفسه من الضحية لا من الجاني، وبناء منصته الإعلامية وسرد قصصه ورؤيته للأحداث.
وكما شاهد العالم صورة إسقاط تمثال صدام حسين في مطلع القرن الحالي عبر الماكينة الإعلامية الصهيو-أمريكية، يشاهد الآن صورا لسقوط العديد من الأصنام التي نصبتها ذات الماكينة عبر عقود واحدا تلو الآخر؛ بيد شعب صامد، ومقاتلين يحملون الكاميرا خلف القاذف، ومرابطين عبر الشاشات وشبكات التواصل الاجتماعي يقذفون بصورة الحق على الباطل فتدمغه فإذا هو زاهق.