الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

مقالات وآراء

باب للفكر والرأى والنقاشات الحرة. ينشر الآراء منسوبة لأصحابها...

رمضان المبارك 1446هـ وطوفان الأقصى

رمضان المبارك 1446هـ وطوفان الأقصى

وصفي عاشور أبو زيد

أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة

من المسلَّم به تاريخيًّا أن رمضان شهر انتصارات؛ فعلى حين يعدّ كثير من الناس شهر رمضان شهرًا للراحة والدَّعة، وتقليل ساعات العمل، وتقليص المهام، وترك الأعمال الثقيلة لما بعد رمضان، وإشغال النفس بالأعمال الخفيفة، رغم قيام الناس بذلك، وبخاصة المسلمون؛ فإن التاريخ سطَّر لنا انتصارات المسلمين في شهر رمضان.

فقد رأينا غزوة بدر الكبرى، التي تحوّل بها تاريخ المسلمين، وكانت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة.

وفتح مكة، الذي كان في العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة للهجرة.

ومعركة القادسية، التي وقعت في رمضان سنة خمس عشرة للهجرة، بقيادة الماهر سعد بن أبي وقاص.

وفتح بلاد الأندلس، الذي كان في رمضان سنة 92 هـ، بقيادة العظيم طارق بن زياد.

ومعركة الزلاقة، التي وقعت في جنوب دولة إسبانيا حاليًا، وكانت في سنة 479هـ.

ومعركة عين جالوت، التي حدثت في رمضان سنة 658هـ، بقيادة السلطان المظفر قطز، والقائد العسكري المتمرّس بيبرس.

وموقعة حطين، التي وقعت في رمضان سنة 583 هـ، بقيادة القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي.

ثم حرب السادس من أكتوبر 1973م، التي كانت في العاشر من رمضان سنة 1393هـ، وفيها تمكنت القوات العربية المسلمة من الانتصار على القوات الصهيونية الغاصبة، فعبرت الجيوش العربية قناة السويس، وحطّمت أسطورة "الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر"، وهدموا بحمد الله خط بارليف.

حتى جاءت معركة طوفان الأقصى

وظلّت الأمة العربية المسلمة ما يقرب من نصف قرن، حيث تركت الجهاد وتبعت أذناب البقر، وتبايعت بالعينة، فكتب الله عليها الذل، مصداقًا لما أخرجه أبو داود والطبراني وغيرهما بسندهم عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال:

"إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلًّا لا ينزعُه حتى ترجعوا إلى دِينِكم"([1]).

ظلّت الأمة نصف قرن من الزمان تاركةً الجهاد في سبيل الله، ومتبايعةً بالعينة، بل بالربا الصريح وما تزال، حتى قامت ثُلّةٌ مباركةٌ في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لا يضرّها من خذلها ولا ما أصابها من لأواء، حتى يأتي أمر الله وهم كذلك.

فعن أبي أمامة الباهلي أن رسول الله ﷺ قال: "لا تَزالُ طائفةٌ مِن أُمَّتي على الدِّينِ ظاهرينَ لعَدوِّهم قاهرينَ، لا يَضُرُّهم مَن خالَفَهم، إلّا ما أصابَهم مِن لَأواءَ حتى يَأتيَهم أمْرُ اللهِ وهم كذلك، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وأين هم؟ قال: ببَيتِ المَقدِسِ وأكنافِ بَيتِ المَقدِسِ"([2]). 

قامت هذه الثُّلَّة بغسل هذا العار، وبالنيابة عن الأمة في مراجعة دينها، فتصدّت للعدو الأشرس في تاريخها؛ ذلك العدو الذي رسم لنفسه صورة القوة التي لا تُقهر، والجيش الذي لا يُغلب، والترسانة النووية التي لا يمكن لأحد أن يُفكّر – مجرد تفكير – في مواجهتها والوقوف أمامها، فضلًا عن جهادها وتمريغ أنفها في التراب، وإساءة وجهها أمام العالم كله.

قامت كتائب المقاومة في السابع من أكتوبر 2023م بعملٍ أعاد للأمة توازنها، وجدّد صلتها بعقيدتها وإيمانها، وعزّز ارتباطها بكتاب ربها وسنة نبيها، وأعاد لها الوعي العميق بتاريخها وحضارتها، ووثّق ثقتها بنفسها، وصحّح لها كثيرًا من المفاهيم التي كانت راكدةً مدة نصف قرن، بل كانت مغلوطةً على كثير من المستويات، وفي عدد من المجالات ليس هذا مكان عدّها وإحصائها وبسطها، وأعطاها الأمل بأنها "تقدر"، نعم، "تقدر"، على مواجهة أكبر عدوٍّ للأمة؛ وذلك حين أغارت على العدو في صباح ذلك اليوم؛ فأسرت منهم مأسرة عظيمة، وغنمت منهم مغانم كثيرة.

مجموعة من الجنود لا يتجاوزون 1500 جندي مجاهد، خرجوا جميعًا لم يتخلف منهم واحد حين فاتحتهم القيادة في الأمر، خرجوا من تحت الأرض إلى سطحها، وضربوا العدو ضربة أصيب معها بالدوار، وما يزال لم يفق من آثار هذه الضربة، بل أصيب العالم المتصهين في مقتل، فأجلب بخيلِه ورَجِلِه، وماله وعتاده، وزياراته ودعمه المادي والمعنوي، وأنفق مئات ملايين الدولارات على العدو، ولكن صدق قول الله تعالى في هذا كله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ لِیَصُدُّوا۟ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ فَسَیُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَیۡهِمۡ حَسۡرَةࣰ ثُمَّ یُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ إِلَىٰ جَهَنَّمَ یُحۡشَرُونَ﴾ [الأنفال ٣٦].

يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: "أي‏:‏ فسيصدرون هذه النفقة، وتخف عليهم لتمسكهم بالباطل، وشدة بغضهم للحق، ولكنها ستكون عليهم حسرة، أي‏:‏ ندامة وخزيا وذلا ويغلبون فتذهب أموالهم وما أملوا، ويعذبون في الآخرة أشد العذاب‏.‏ ولهذا قال‏:‏ ‏﴿‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏﴾‏ أي‏:‏ يجمعون إليها، ليذوقوا عذابها، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء"([3]).

رمضان في ظل الطوفان وواجبنا

لقد مرّ على معركة طوفان الأقصى رمضانٌ واحد، وفلسطين والأمة في هذه المحنة الشديدة، التي تجسّدت فيها مِنَحٌ، وظلّ المجاهدون مرابطين على ثغورهم، وشعوب المسلمين يتجاوبون مع هذا الجهاد المبارك بقدر استطاعتهم، لولا تكبيل أيديهم بكوابح الاستبداد ومنع النصرة.

فحشدت الأمة ما استطاعت، وجمعت من الأموال ما قدرت عليه، وتضامنت على قدر طاقتها في ظل ما تحياه من حدود (سايكس – بيكو)، التي فرّقت الأمة، وشتّتت جهودها، وأقامت الحواجز والجدران للحيلولة دون أن يكون مفهوم "الأمة الواحدة" تجسيدًا عمليًّا على الأرض.

وفي هذا العام، وفي رمضان 1446هـ، وقد بدأت الهدنة، وبدأ تنفيذها على الأرض، وهو مستمر في هذا الرمضان، فما الواجب علينا في ظل ما عشناه، وما نراه اليوم؟

إن واجبنا أن نقوم بطوفانٍ جديد، من نوع آخر؛ فإذا كان المجاهدون قد قاموا بطوفان مسلّح، مثَّلوا فيه الأمة خير تمثيل باستخدام سلاحهم، وتقديم أرواحهم ودمائهم، وبذل عذاباتهم ومعاناتهم، وما يزالون، فإنه من الواجب علينا أن نقوم بطوفان آخر، وهو طوفان العون والإسناد، طوفان القيام بواجب المؤازرة والمعاونة والمساندة، وتجسيد ما أخرجه البخاري ومسلم بسندهما عن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: "أنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: المُسْلِمُ أخُو المُسْلِمِ لا يَظْلِمُهُ ولا يُسْلِمُهُ، ومَن كانَ في حاجَةِ أخِيهِ كانَ اللَّهُ في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عنْه كُرْبَةً مِن كُرُباتِ يَومِ القِيامَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَومَ القِيامَةِ"([4]).

إن غزة تنادي المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بل تنادي البشرية كلها، أن يقوموا بواجبهم الإنساني نحو غزة المحطمة، التي لم يترك فيها العدو بناءً قائمًا، وإنما خرّبها ودمّرها وجعلها أطلالًا، لكنه لم يقدر على تحطيم قوة الإيمان، ورابطة الإسلام، ومعاني العزة والجهاد، التي رأيناها على منصات تبادل الأسرى: روحًا وثّابة، وعزّة شامخة، ومغالبة للقرح الذي أصابهم.

غزة اليوم تحتاج – قبل أي وقت مضى – إلى الإسناد والإعمار والعون والتأييد؛ لأننا سنشهد في الأيام القادمة تجديدًا لهذه المعركة مرة أخرى – كما يبدو من ممارسات العدوّ وتصريحاته ومعاونيه – ولهذا فالواجب علينا أن نكون سندًا لهم، وعونًا لقضيتنا وقضيتهم، وألّا نخذلهم أو نُسلمهم؛ فإن لهذا أثرًا في دفعهم للأمام، وفي تقوية عزمهم، وإشعارهم بأن لهم إخوةً لن يتركوهم، ولن يُسلموهم، وهذا مما يشدّ أزرهم ويقوّي بأسهم في مواجهة هذا العدو، والدال على الخير كفاعله، ومن خلَّف غازيًا في أهله بخير فقد غزا، والمؤمنون إخوة، والله في عون العبد ما كان في عون أخيه.

([1]) أخرجه أبو داود (3462)، والبزار (5887)، والطبراني في ((مسند الشاميين)) (2417)، ابن تيمية، بيان الدليل (109): "إسناده صحيح".

([2]) أخرجه أحمد في مسنده "22320"، وقال الأرناؤوط: صحيح لغيره.

([3]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 3/ 618. طبعة دار ابن الجوزي.

([4]) صحيح البخاري (2442)، وصحيح مسلم (2580) باختلاف يسير.