بداية الرحلة
في قرية دجوي مركز بنها التابعة لمحافظة القليوبية عاشت أسرة يوسف قتة، وفي 27/5/1913م زف إلى والده الحاج إبراهيم قتة خبر ولادته، فسماه يوسف تيمنا بسيدنا يوسف عليه السلام، وحرص على إلحاقه بكتاب القرية حتى يتعلم فيه أمور دينه، ومعاني القرآن الكريم، ثم التحق بالتعليم وبعد أن أنهى دراسته أقام بالقاهرة عند استلام عمله بشركة النيل العامة بالعباسية، وكان من ثم توفير مكان يسكن فيه يكون قريبا من عمله فسكن بالشرابية ليبدأ حياتا جديدة وسط هذا الحي وليتغير مسار حياته بعد أن التحق بجماعة الإخوان المسلمين.
بين الصفوف المؤمنة
ما كاد يوسف قتة يستقر في عمله بشركة النيل العامة وتستقر حياته في حي الشرابية إلا وبدأ يفكر في قضاء وقت الفراغ فيما بعود عليه بالنفع فوجد في أبناء خالته بباب الشعرية ضالته حيث أرشدوه إلى الإخوان المسلمين ودعاه أحدهم للذهاب إلى المركز العام، وهناك قابل الإمام البنا، وكان ذلك عام 1933م، ويصف هذه الحالة بقوله: «كنت دائمًا أذهب إلى زيارة أولاد خالتي في الشرابية، وخاصةً في يوم الجمعة، ففي إحدى المرات لم أجد فتحي أحد أولاد خالتي الأربعة، فسألت عنه فقالوا لي: في مشوار!!
وفي الجمعة التالية حدثت نفس الحكاية، وفي الجمعة الثالثة قلت سأنتظره حتى يأتي، فعندما دخل علينا وجدته يحمل بطانيةً تحت إبطيه، فقلت له أين كنت؟ فقال لي: انتظر، ثم أخذني إلى غرفته وقال لي كنت في كتيبة مع الشيخ حسن البنا (المرشد العام للإخوان المسلمين)، والكتيبة دي فيها قراءة قرآن ومحاضرات علم، وقيام ليل وتهجد، وغير ذلك، وقال لي إذا كنت تريد أن تتعرف عليهم فتعالَ معي لنحضر درس الثلاثاء للمرشد العامللإخوان المسلمين الأستاذ حسن البنا، وعندما ذهبت معه يوم الثلاثاء وصلنا قبل الدرس بوقت قليل، فقال لي فتحي: تعالَ نسلم على العاملين بالمركز العام للإخوان المسلمين، فدخلنا عليهم.
وقال لهم- وكانوا تقريبًا عشرة أفراد-: هذا يوسف ابن خالتي، فسلموا عليَّ بحرارة شديدة، وأخذوني بالأحضان والقبلات، وقابلوني مقابلةً طيبةً وكأنهم يعرفونني منذ وقت بعيد، فاستغربت من ذلك فقال لي: هؤلاء هم الإخوان المسلمون، ثم سمعنا الدرس، ورجعت إلى الشرابية، وفي الدرس التالي ذهبت ومعي سبعة من أصدقائي وأقاربي من المنطقة، ثم في الدرس الثالث ذهبت ومعي 15 واحدًا، وعندما كثُر عدد الإخوان في الشرابية قرَّرنا أن نستأجر شقةً؛ لتكون مقرًّا لنا، وكان إيجار الشقة (ثلاث غرف) بـ45 قرشًا في الشهر».
ويذكر موقفا في فن التعامل مع الغير فيقول: «عندما أردنا أن نعلن عن الشعبة وقف الأستاذ متولي عقيل- وكان كاتبا صحفيًّا كبيرًا- ليعلن عن افتتاح الشعبة، ويدعو الناس إلى حضور درس الأستاذ حسن البنا (المرشد العام للإخوان المسلمين)، فقام رجل يسمَّى الشيخ إسماعيل -وكان هو المشرف على مساجد المنطقة والمأذون الشرعي لها- وقال باستنكار: "إخوان إيه اللي بتتكلم عنهم"؟! "روح اجري أحسن أذهب بك إلى نقطة الشرطة" فقال له الأستاذ متولي عقيل: هيا بنا، فذهبا إلى النقطة، وعندما وصلا هناك أحضر ضابط الشرطة كرسيًّا وأجلس الشيخ إسماعيل، وقال ماذا حدث؟ فحكي له الشيخ إسماعيل ما حدث، وعندما بدأ يتحدث مع الأستاذ متولي عقيل فقال له قبل أن أتحدث لك لا بد أن تساوِيَ بين المتخاصمين، فإما أن تجلسنا معًا أو توقفنا معًا، فردَّ الشيخ إسماعيل وقال: "شوف العنجهية اللي هما فيها" لكن ضابط الشرطة هدَّأ من الأمور وصرفهما، وبعد ذلك نظَّم الإخوان حفلةً للإعلان عن تكوين مجلس إدارة الشعبة، حضرها الإمام الشهيد حسن البنا.
وتم فيها توجيه الدعوة لأعيان وكبراء الشرابية، وكان خلف منصة الحفل قهوة، فجلس عليها الشيخ إسماعيل ليستمع إلى ما سيقوله الإخوان في هذا الحفل، فعندما سمع الشيخ حسن البنا وهو يقول للإخوان: إن الشيخ إسماعيل عالم فاضل، ولابد أن تحترموه مثل والدكم.
فأتى الشيخ وجلس داخل الصوان، وعندما انتهى الحفل كان يسير مع الإخوان في كل مكان ويقول للناس: هؤلاء هم الإخوان وهم ناس محترمون وأفاضل، ويدعون إلى الخير، وطبعا الشيخ إسماعيل كانت كلمته مسموعة عند معظم أهالي المنطقة، وعليه يديه دخل الكثير جماعة الإخوان».
نشاطه
نشط يوسف قتة وسط إخوانه بوجهه الضحوك لينشر الفهم الصحيح للإسلام وسط الناس وليربى عليها إخوانه ويذكر الشيخ حمدي أحمد إبراهيم أنه دخل الدعوة عن طريق الحاج يوسف قتة وقت أن كان طالبا حيث أعجب به وبوجهه الضحوك وبأسلوب دعوته فأخذ يواظب على حضور الدروس التي كان يعقدها يوسف قتة في شعبة الشرابية، وعندما أخذ الشيخ حمدي يسرد هذه الأحداث ويتذكر هذه الشخصية التي حفرت في نفسه كثيرا من المعاني التربوية انتابه الحزن ودمعت عينه على فراق أستاذه ومربيه الأستاذ يوسف.
ظل يوسف قتة حريصا أيضا على الذهاب للمركز العام لينعم بالمعاني التربوية التي كان الإمام البنا يغرسها في نفوس إخوانه حتى تعرضت الجماعة للمحنة في 8/12/1948م حيث صدر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين ومصادرة أملاكها وكانت شعبته من ضمن الأماكن التي أغلقت، واعتقلت السلطات كثيرا من الإخوان، ثم ما كادت الأيام تمر بطيئة حتى أطلق الرصاص على صدر الإمام حسن البنا في وسط العاصمة فحزن يوسف على ذلك حزنا شديدا، وتذكر مواقف الرجل التربوية التي أثرت فيه فكان منها موقف للإمام البنا حيث حدث أثناء إحدى المحاضرات التي كان يُلقيها ؛ أن أرسل له أحد الأشخاص ورقةً يسأله: لو حكم الإخوان بكتاب الله فماذا سيكون عملك ؟! فردَّ الأستاذ البنا قائلاً سأعمل عندهم ساعيًا، أوصِّل الأوراق للمكاتب.
وسط المحنة
كان يوسف قتة أحد الذين شاركوا إخوتهم محنهم بقلب راض ووجه بشوش، فما كادت الجماعة تعود إلى نشاطها بحكم المحكمة عام 1951م حتى سارع يوسف قتة بفتح شعبة الشرابية ليعيد الوهج والنور الذي كان قد خفت بعد قرار الحل عام 1948م.
وانطلقت شرارة ثورة 23 يوليو والتي شارك فيها الإخوان بجهدهم بهدف الوصول بالبلاد إلى بر الأمان غير أن الظروف تغيرت وانقلب رجال الثورة على الإخوان، وقام عبد الناصر بعد حادثة المنشية في 26 أكتوبر 1954م باعتقال شباب الدعوة والزج بهم في غياهب السجون وكان يوسف قتة أحد الذين اعتقلوا بعد هذا الحادث وزج بهم في السجون فصبر وشكر لله واحتسب المر عند الله/ غير أن فرج الله سرعان ما جاء فكان قدر يوسف أن يخرج بعد ثمانية عشر شهرا عام 1956م، لكنه وضع تحت ملاحظة المباحث وظلت حياته تحت رقابة عيون عبد الناصر.
وما كاد عام 1965م يهل حتى اجتاحت مصر طوفان الاعتقالات بعد القرار الذي أصدر عبد الناصر باعتقال كل من سبق اعتقاله، فاختطف يوسف قتة من وسط أبنائه وزج به في السجن ليقضى ستة سنوات وسط المحنة فكان خلالها مثلا للصابر الراضي، كما كان نعم الصديق والأخ الذي خفف عن إخوانه كثيرا بمرحه وعذوبة حديثه، وطلاقة وجهه، وظل معهم حتى لأفرج عنه عام 1971م.
انطلاقه بعد المحن
ما كاد يخرج حتى اخذ ينظم شئون حياته وينتظر القلوب الطائرة حتى تلتقي، وما كاد الإخوان يخرجون من السجون حتى سارعوا إلى لم شمل هذه القلوب مرة أخرى تحت قيادة الأستاذ عمر التلمساني.
لقد عرف الحاج يوسف - رحمه الله - بالخلق الحسن والرضا والتوكل ولم تكن الابتسامة تفارقه أبداً رغم ما كان به من أمراض ، كما كان مثالاً عالياً للتوكل على الله عز وجل.
لقد حرص يوسف قتة على العمل من أجل دعوته، فما كاد يسأل عن حياته أو ذكرياته إلا كان يقول: أنا لا أتكلم سوى عن الإخوان، وذكرياتي الشخصية التي تريد أن أتحدث عنها ليس لها قيمة بالنسبة للحديث عن الإخوان.
وظل يشارك في العمال التي كان الإخوان يقيمونها، بل كان من الوجوه الحاضرة في إفطارات الإخوان العامة حتى في أواخر أيام حياته وقد اخذ المرض بكل مجامعه إلا أنه كان حريصا على مشاركتهم هذه المناسبة.
رحيله
في حي مدينة نصر وبجوار شركة إنبى للبترول عاش المجاهد الحاج يوسف قتة بقية حياته وظل في هذا الحي يعبد ربه حتى كان يوم الثلاثاء الموافق 26 المحرم 1428 هـ، 14/2 /2007م حين انشقت الشمس على خبر وفاة الحاج يوسف قتة أحد الرعيل الأول للإخوان المسلمين - عن عمر يناهز 92 عامًا ... فاحتشد الناس من كل صوب وحدب يشيعون جثمان هذا المجاهد الذي سخر حياته لله ولدعوته ولم يبغ من ورائها مغرم وإن كان كثير من الناس لا يعرفونه إلا أن أعماله أصبحت ترجمة عملية على شخصية هذا المجاهد الذي رحل والكل يتذكر وجهه الضحوك وقد ٌأقيمت الجنازة عقب صلاة الظهر بمسجد السلام بالحي العاشر.
وداع القلوب
ما كاد خبر وفاة يوسف قتة يتطاير وسط إخوانه حتى سارع غليه كل الإخوان ليحملوا هذا الجسد الذي طالما ظل عاملا لله، وشارك في جنازته فضيلة الأستاذ محمد مهدي عاكف ، والدكتور محمود عزت أمين عام الجماعة، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والدكتور محمد بديع، والدكتور محمود حسين ، والدكتور محمود غزلان ، والدكتور عصام العريان ، والحاج علي نويتو ، والشيخ عبد الخالق الشريف ، والأستاذ جمعة أمين ، كما شهد سرادق عزاء الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام للإخوان المسلمين والدكتور زغلول النجار والدكتور عبد الستار فتح الله سعيد أستاذ التفسير بجامعة الأزهر والشيخ محمد الراوي عضو مجمع البحوث الإسلامية والدكتور عبد الحي الفرماوي أستاذ التفسير بجامعة الأزهر والشيخ حمدي إبراهيم والشيخ فرج الليثي من علماء الأزهر الشريف والدكتور محمود عزت الأمين العام لجماعة الإخوان والدكتور عبد الحميد الغزالي المستشار السياسي للمرشد العام للإخوان المسلمين والدكتور عصام العريان.
ولقد تبارى إخوانه في ترجمت مواقفه أما المعزيين فقال الدكتور محمود عزت: « أول ما تعرفت عليه كان في السجن الحربي بابتسامته التي لم تكن تفارق وجهه رغم ما كنا نتعرض له من عذاب شديد وسكينته وطمأنينته والرضا الذي يبعثه في كل من حوله.كما كان الحاج يوسف- رحمه الله- يدخر لنا من طعامه القليل "وكنا نحن شبابًا" وكان يعطيه لنا ويقول: أنتم يا شباب أحوج منا بهذا الطعام.
كما إن حاله كان يبعث فينا الأمل والقوة دون أن يتحدث وكنا دائمًا نستصغر حماسنا وهمتنا إلى جانب حماسه وهمته التي لم تفارقه إلى آخر لحظة في حياته».
وقال الدكتور عصام العريان: « كان صمته أبلغ من حديثه وكانت نظرته أقوى من أي خطبة أو بيان، مشيرًا إلى أن الهدف الحقيقي للداعية هو أن يكون وسط الناس يشقى ويتعب لهم ويكون معهم في أفراحهم وأتراحهم وهو ما كان عليه الشيخ يوسف قتة، أن الجيل الذي يمثله الشيخ يوسف قتة هو الذي علم الأجيال من بعده كيف يكون مؤمنًا حقًّا وكيف يكون عند الشدة صابرًا وعند المنحة شاكرًا، أن إخلاص رجال هذا الجيل هو السبب في عدم قدرة خصومهم على تحجيم نشاطهم ونشاط دعوتهم والتي تنتقل من نجاح إلى نجاح ومن فوز إلى فوز وتنتشر وتتسع بصدقهم وعزيمتهم ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِر﴾».