الموقع الرسمي للإخوان المسلمون

جمال فوزي

الرعيل الأول


لم تكن دعوة الإخوان دعوة دعوية فحسب، بل هى دعوة شاملة ومتنوعة ومتجددة، فترى فيها السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والمشايخ والدعاة والرياضيين والشعراء وغيرهم فهى دعوة حوت بين جنباتها العدد من الأمزجة المختلفة.

فكثير من الناس يظن أن دعوة الإخوان اهتمت بالجانب السياسي أو الدعوي فقط، غير أننا لو نظرنا لو وجدنا بها الكثيرين فكما ضمت الدكتور يوسف القرضاوي ضمت جمال فوزي وسعد سرور، وكما ضمت حسن البنا كنموذج شامل للداعية ضمت المستشار حسن الهضيبي كرجل قضاء، فاستحقت بحق أن تكون ملتقى الأشخاص.

جمال فوزي شاعراً

نشأ جمال فوزي على حب الشعر ونمت هذه الموهبة وسط دعوته فأفسحت له المجال، ومن هذه الأشعار، أثناء المحنة قوله:-

ذهبت يراود قلبها                    أمل يحقق حلمها

ومضت تفكر كيف                    تلقى غائباً عن عشها

حملته في أحشائها                    ربته في أحضانها

ودعت إله الكون                    أن يرعاه من أعماقها

وتفتحت آفاقه                    وتحققت آمالها

فإذا الوليد مجاهداً                    يرعى العهود جميعها

باع الحياة رخيصة                    لله يرجو أجرها

حتى طوته سجونهم                    دهراً وفي ظلماتها

كم ساوموه لكي يحيد                    عن العهود بأسرها

ولكي يخون كتائباً                    باعوا النفوس لربها

ولكي يشوه ما أضاء                    الكون من صفحاتها

وأبى الكريم مباهج                    الدنيا وطلق أمرها

ورأى السجون معاقل                    الأحرار رغم قيودها

وأصر أن يعلي نداء                    الحق في جنباتها

ذهبت لكي تلقاه                    يوم خروجه بحنانها

وتضمه في لهفة                    وسط الجموع بصدرها

ويضمها العملاق في                        حب يقبل رأسها

ويقول يا أماه عاد                    إلى الجهاد رجالها

أنا لن ألين ولن أخون                    أنا لن أغادر ركبها

أنا لن أهادن من بغوا                    يوماً على أبرارها

سأظل ناراً يحرق                    الأشرارَ حرُ لهيبها

سأظل حرباً تسحق                    الفجار في أرجائها

ومن شعر المحنة أيضا:

هبني مدحتك بين الناس قاطبة                   حتى جعلتك بين الناس عملاقا

هبني زعمتك قدِّيساً تُباركنا                   وقلت إنك خير الخلق أخلاقا

من ذا يصدّقني بين الأُلى عرفوا                    عنك الخِداعَ وسفَّاحاً وأفَّاقاً

كما أعلن وهو في غياهب السجن عن منهج حياته فقال:

سأظلّ حراّ ما حييت مندّدا                   بالبطش بالجبروت والطــغيان

روحي على كفّي فداء عقيدة                    في ظلّها الوافي اتخذت مكاني

ويظلّ صوتي ما حييت مجلجلا                   ذوق المهانة ليس في إمكاني

وأنشد أيضا:

إلهي قد غدوت هنا سجينا                    لأني أنشد الإسلام دينا

وحولي إخوة في الحق نادوا                   أراهم بالقيود مكبلينا

طغاة الحكم بالتعذيب قاموا                   على رهط من الأبرار فينا

فطوراً حرقوا الأجساد منا                   وطوراً بالسياط معذبينا

وطوراً يقتلون الحر جهرا                    لينطق ما يروق الظالمينا

وقد نال الشهادة في ثبات                   رجال لا يهابون المنونا

فمهلاً يا طغاة الحكم مهلاً                    فطعم السوط أحلى ما لقينا

وقال:

أتتركون كتابا فيه ذكركم                وتشترون به مسموم أفكار

مبادئ الكفر قد جرّت هزائمنا               وصيّرت عارنا نشرات أخبار

تقسّمتنا شعارات يروّجها                في شعبنا كل طاغوت وغدّار

كانت هذه بعض نماذج من شاعر الإخوان، فمن يكون؟

حياته

ولد الشاعر جمال فوزي في قرية (شنشور) التابعة لمحافظة المنوفية بمصر سنة 1910 م، وتربى على حب العلم وسط بيئة ريفية كانت قليلة العلم بسبب الفقر الذي كان غالبا سمة الشعب المصري، تلقى تعليمه الأولي في القرية، غير انه لم يكمل بسبب ظروف الفقر مما دفعه لأن يعتمد على نفسه في ثقافته وتعلم القرآن، فكوّن ثقافة وعلماً واسعاً، عمل موظفا في البريد غير أن ذلك لم يمنعه عن بحور شعره.

جمال فوزي والنظام الخاص

انتظم في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، وتربى على أيدي رجالها الفاضل وعلى يدي الإمام البنا، وبالرغم من كونه شاعر رقيق، باسم الوجه، مرح الروح، إلا أنه اختير أحد رجال النظام الخاص للإخوان المسلمين، يقول الحاج فرج النجار مسئول النظام الخاص عن وجه بحري في عهد الإمام البنا:

تكونت مجموعة مركز أشمون من الحاج جمال فوزي عبد البر وكان مديرا للشئون الاجتماعية.

        والحاج مناع خليل القطان مدير المعهد العالي.

        والمهندس لبيب دان صاحب مزرعة بالبحيرة.

        وعبد الحميد البكل ناظر مدرسة.

        والأستاذ بركات حمدان وكان موظفا بالضرائب.

        والأستاذ السيد حمدان وكان مفتشا بالتربية والتعليم.

        والمهندس عبد العال القط مدير الإصلاح الزراعي بالمنوفية.

ويضيف بقوله: واستطاع بعض الإخوان أن يختاروا أماكن جيدة في التخزين، فأذكر أن الأخ «جمال فوزي» كان يبني فيلا في بلدته "شنشور" وطلب مني أن أستخدمها في التخزين، فذهبت عنده وصممت المخزن في البدروم بطريقة لا يستطيع أحد أن يكتشفه..ولكننا لم نستمر فيها طويلا لبعد شنشور عن المواصلات، فقد كنا نتخير المكان الأقرب من المواصلات لأنه الأفضل في التخزين.

وبعد عودة الجماعة عام 1951 م بعد حلها عام 1948 م انخرط جمال فوزي في صفوف إخوانه واستكمل المسيرة في النظام الخاص، بل كان له دور قوي في إخفاء بعض الأسلحة التي استخدمت في حرب القنال فيقول الحاج فرج: وفي أثناء حرب الإخوان للإنجليز في القناة شعر ضباط الجيش بأنهم لا يقدمون مساعدة لمتطوعي الإخوان ففكروا في إعطاء الإخوان عربة نقل كبيرة ممتلئة بالأسلحة، ولكنها كانت كلها بنادق "LEN FEL" وعرضت هذه البنادق على حسن عشماوي، وحسن عشماوي قام بتوصيلها إلى بيت الأستاذ جمال فوزي بعلم من الأخ محمود عبده.

وعندما عرضت هذه الصفقة وكنت وقتها في القاهرة ودعامن الأسلحة على متطوعي الإخوان فرفضوا استلامها لأنها لا تصلح في الميدان، فذهب حسن عشماوي لعبد الناصر وأخبره برفضهم هذه الصفقة، فقال له على الفور: "خليها عندك تنفع.

دعاني الأخ جمال فوزي لأشاهد هذه الأسلحة التي أرسلها عبد الناصر وكانت حوالي 200 بندقية، كان قد وضعها الأخ جمال فوزي أسفل بئر السلم وغطاها بغطاء سميك ثم قام الأخ حسن عشماوي بعد مقابلة عبد الناصر بنقلها إلى عزبته التي كانت في إحدى قرى محافظة الشرقية.. وخزنها هناك بمعرفة عبد الناصر، الذي أمر فيما بعد عندما تولى مقاليد السلطة بمصر وشرع في التخلص من الإخوان بالقبض عليه وعلى هذه الأسلحة بتهمة استخدامها في عمل انقلاب ضد نظام الحكم.

ولم يتوقف دور جمال فوزي على ذلك فقد كان له دور أثناء تهريب المرشد العام عام 1954 م فقد طلب الأستاذ فرج النجار وقال له: الأستاذ المرشد الهضيبي يطلب منك أن تعد له مكانا يأوي إليه يستريح فيه مدة من الزمن في المنوفية، فقال له فرج: إذا كنتم جاهزين فنتحرك بعد صلاة المغرب وإلا فتحددوا أنتم الموعد، وذهب للقاء المرشد، وجاء يقول: تحضر غدا مساء، والعربة جاهزة، وحضر في الموعد المحدد بعد أن أعدد المكان لاستقبال فضيلة المرشد وقابل الأستاذ جمال فوزي الذي أخبره بأن رئيس المكتب الإداري بالقاهرة غير السفر من المنوفية إلى الأسكندرية.

غير أن الأحداث كانت أسرع من التخطيط فحدثت حادثة المنشية والتي قضت على الأخضر واليابس.

جمال فوزي والسجن

تعرض الأستاذ جمال فوزي لكثير من المحن والابتلاءات وكان مثال لصبر والرضي بقضاء الله، فقد قبض عليه مع من قبض عليهم في محنة السيارة الجيب والتي سقطت في نوفمبر 1948 م، وقدم للمحاكمة مع إخوانه ولم يخرج إلا عام 1951 م، يقول المستشار العقيل:

    «رأيت الأخ جمال فوزي وإخوانه في قفص الاتهام في محاكمة السيارة الجيب، وكان شاباً وسيماً يعتمر الطربوش، يقف بشموخ وعزة نفس ورباطة جأش، واثقاً بعدالة قضيته.

    وكنت قد رأيته قبل ذلك سنة 1949 م حين زرت السجن مع الشيخ مناع القطان أول قدومي لمصر للدراسات الجامعية، حيث كان سجناء الإخوان المسلمين في قضية السيارة الجيب يقبعون في السجون، في انتظار المحاكمات، لقاء جهادهم في فلسطين، ومقاومتهم للاستعمار والمستعمرين وأذنابهم، وقد تكررت لقاءاتي به في القاهرة وغيرها أثناء الرحلات والكتائب والمخيمات.

    ثم كانت المحنة سنة 1954 م التي غيَّبت معظم الإخوان في سجون الطاغية عبد الناصر، وكنت تخرجت وغادرت مصر، ولم ألقه إلا في سنة 1976 م في التوفيقية في مكتب المرشد العام الثالث عمر التلمساني، وفي منزله، حيث سعدت به كثيراً في كل زياراتي، ورأيت فيه الرجولة والصلابة بكل معانيها في مواجهة الطغيان، والشفافية والرقة والحب والحنان في معاملة إخوانه، وعلاقته بالناس جميعاً، والأدب الجمّ، والتواضع، والطاعة، والامتثال لقيادة الجماعة، وبخاصة الأستاذ عمر التلمساني، الذي كان يحبه ويقرّبه منه، وكنت ألحظ ما يعانيه من آلام خلّفتها أيام التعذيب في السجون، فكان يصلي على الكرسي، ولا يستطيع الانحناء أو الركوع والسجود، ورغم ذلك، كان يمارس عمله الدعوي، ونشاطه الحركي، ودروسه وأحاديثه في تجمعات الإخوان وحلقاتهم بكل نشاط وحيوية، وكنت أرى احتفاء الإخوان به».

وبعد خروجه قام بإبلاغ النائب العام بخطاب مسجل طالبا التحقيق مع كل من إبراهيم عبد الهادي وعبد الرحمن عمار ورجال البوليس السياسي وعلى رأسهم أحمد طلعت والصول مصطفى التركي والجاويش الأسود على أساس أنهم عذبوه خلال التحقيقات تعذيبا أثبته الطبيب الشرعي في تقريرين عن جملة إصابات بالجسد والعين اليسرى ومحتفظا قبلهم بالحق المدني.

قال عنه المستشار عبدالله العقيل: وقد تعرّض لتعذيب وحشي بشع، أتلف له أذنابُ السلطة وجلادوها نصف جسده طولياً إحدى عينيه، وعموده الفقري، وذراعه وخصيته ورجله وهو الرقيق النفس، الرهيف المشاعر، فكان صابراً محتسباً، وهو شاعر رقيق، باسم الوجه، مرح الروح، وذلك رغم ما يعانيه من آلام خلَّفتها على جسده الأيدي الآثمة من زبانية السلطة الظالمة.

أطلق عليه إخوانه لقب "حسّان الدعوة" لأنه من أدق من وصف الدعوة في مراحلها المتنوعة شعراً، خاصة وصفه مرحلة السجن والتعذيب أيام الطاغية عبد الناصر ، ولقد كُتبتْ عنه وعن حياته وشعره، رسائل جامعية، منها رسالة للباحث عبد الباسط مصطفى في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر سنة 1988 م.

وعندما دخلت الجماعة في محنة عام 1954 م كان جمال فوزي أحد من ابتلى بها وقضى في السجن فترة حتى خرج غير أنه سرعان ما سيق مرة أخرى على غياهب السجون في أغسطس 1965 م وكانت المحنة الأشد ضراوة، ويصفها بقوله: «دخلنا مبنى ضخما وألقى بي أحدهم في إحدى حجراته بعد أن طفنا وسط ممرات كثيرة وبعد فترة وجيزة صاح صوت من خلال مكبر صوت : أنت بالمخابرات العامة .. إما الاعتراف .. وإما الموت .. وبالطبع تبينت حقيقة المكان .. ولكن عن أي شيء أعترف ؟

ولم يطل بي تفكيري إذ دخل على زبانية المخابرات العامة ليوقعوا بالجسد المشلول المزيد من العذاب .. علقوني من ذراعي إلي أعلى وربطوها في حبال فصار جسدي معلقا ومتدليا ثم ربطوا قدميّ في اتجاهين مختلفين ثم بدأت عملية ‏الفسخ ‏بشعة .. رهيبة .. قاسية .. صرت أتمزق وأحسست آلاما فوق الآلام .. فوق طاقة البشر من صنع أناس ليسوا من البشر ..

وجرب القوم معي في المخابرات شتى صنوف التعذيب .. وضعو فوقى ما يشبه الكرسي وربطت من يدي ووسطي ثم أخذ الجهاز يدور ‏بي بسرعة مجنونة ثم يتوقف عن الدوران فجأة لتبدأ عملية المساومة ويمنحني الله قدرة على الاحتمال فأواجه المساومة بالصمت فيدار الجهاز من جديد حتى أجد نفسي مشرفا على الموت ..

ونزعوني من فوق الجهاز ثم قذفوا بي على الأرض ثم رفعوني ثانية وقذفوا بي وهكذا مع الركل بالأقدام وتهشيم جسدي بالعصي واللكمات والقيد في يدي من الخلف وعيناي معصوبتان وأحس بحارا ‏من الدم تغمر بقية ملابسي .. أمروني بالوقوف فما استطعت فقد ماتت فيّ الحركة وجاء صوت قبيح كريه تحس في نبراته غلظة وحش كاسر يقول: ضعوا ‏له الخابو..وشعرت ببقايا ملابس الممزقة تنزع وبجسم مدبب صلب يخزونني به ..

وشعرت بالتمزق .. وكان آخر ما أذكره صيحة مدوية أفلتت منى رغم تهافتي.. ثم رحت في غيبوبة تامة .. ‏وأفقت .. فوجدت نفسي في سيارة تنهب بنا الطريق وأحد الضباط يوقظني.. نزع الطاقية من فوق عيني فصرت أرى ويا لهول ما رأيت .. الدماء تسيل منى في نزيف خطير وكانت بالضابط إنسانية أو ربما كانت حالتي من السوء حتى حركت في نفسه مواطن العطف والرحمة حاول أن يعطيني جرعة ماء ..

ولم تكن بي حاجة إلى الماء فقد غمرتني الآلام وكنت أشعر لهيب نار من آثار جريمة المخابرات العامة لم تكن مياه الدنيا بأسرها لتطفئها» غير أنه صبر وتحملها حتى فرج الله كربه بموت عبد الناصر والتي بعدها أفرج السادات عن كل الإخوان غير أنه لم يكن أفضل من سابقيه ففي محنة سبتمبر 1981 منذ ساقه السادات مع كثير من الإخوان ومثقفي مصر إلى السجون مرة أخرى ولم يخرج منها إلا بعد وفاة السادات وتولى مبارك الحكم.

ومن أقواله

"إلى أرواح الشهداء الذين باعوا أرواحهم في سبيل الله..

إلى أولئك الذين عمَّقوا القرآن في قلوبهم، لتقوم دولة الإسلام على أرضهم..

إلى أولئك الذين ضمتهم سجون الطغاة، فما زادتهم إلا صقلاً وثباتاً وتمحيصاً..

إلى هؤلاء جميعاً أقدم أشعاري، تصويراً صادقاً لأحداث جسام صاغت جنوداً للحق، يضعون أرواحهم على أكفهم فداء لدعوة الحق.

قالوا عنه

يقول الأستاذ فرج النجار:

    تعرفت عليه سنة 1940 وطوال هذه المدة وأنا أرى في لقاءه الغذاء الروحي كما أرى في لقائه جذوة الحماس تشتعل ولا تنطفئ والحق يقال أنه كان فريدًا من نوعه في الحماسة والإخلاص والولاء التام لدعوة الإخوان المسلمين.

وقال الأستاذ عبد الله الطنطاوي:

    لله درّ دعوة الإخوان.. دعوة الرجل الرباني الذي لم تنجب الأمة الإسلامية مثله منذ بضعة قرون.. الإمام الشهيد حسن البنا، رضي الله عنه وأرضاه، فقد صنعت هذه الدعوة رجالاً، واكتشفت معادن رجال ما كانوا ليُعرفوا، لولا هذه الدعوة الراشدة المباركة.. من هؤلاء الرجال: الشاعر الداعية جمال فوزي ، عامل البريد، الذي عرف حقيقة هذه الدعوة، فالتصق بها، وكان من خيرة أبنائها، وعياً، وإخلاصاً، وحركة، وتضحية.. وعرفت الدعوة كنه هذا الرجل الذي قد يزدريه "الخواص" في ثيابه، وفي المكان الذي يحتلّه في السلّم الاجتماعي، موظفاً بسيطاً، يتقاضى بضعة جنيهات كل شهر.. عرفته الدعوة، وكشفت عن مخبوءات رجل أين منه الرجال.. رجل تجاوز بعطاءاته من يحسبهم الناس كباراً.

    فجّرت نفسه المتواضعة، مكوّنات العبقرية والعظمة الخاشعتين لله الواحد الأحد، الشامختين على الحطام والطواغيت والمال والجاه، وكل ما يقتتل من أجله أكثر الناس.

وقال عنه الأستاذ عمر التلمساني :

    أنت ثائر على الظلم إذا استعرضته معك..وأنت أسوان مع الحزانى إذا مرَّ بهم أمام خاطرك..وأنت غاضب على الظلم، كاره له إذا شاهدت من خلال الشعر أيديهم تعلو باللهب، وتنزل محترقة.أنت معه في كل ما أراد منك أن تكون معه فيه، وهذا هو الصدق في القول".

المستشار عبد الله العقيل يتحدث

عرفته حين حضرت إلى محاكمة الإخوان المسلمين في قضية السيارة الجيب سنة 1951 م برفقة أستاذنا أبي الحسن علي الحسني الندوي الذي كان يزور مصر آنذاك، وكنت وإخواني نرافقه في الكثير من زياراته ومحاضراته ومقابلاته، ومنها هذه المحاكمة التي كان من أبرع المحامين فيها، الشابُّ سعيد رمضان.

فرأيت الأخ جمال فوزي وإخوانه في قفص الاتهام، وكان شاباً وسيماً يعتمر الطربوش، يقف بشموخ وعزة نفس ورباطة جأش، واثقاً بعدالة قضيته. وكنت قد رأيته قبل ذلك سنة 1949 م حين زرت السجن مع الشيخ مناع القطان أول قدومي لمصر للدراسات الجامعية، حيث كان سجناء الإخوان المسلمين في قضية السيارة الجيب يقبعون في السجون، في انتظار المحاكمات، لقاء جهادهم في فلسطين، ومقاومتهم للاستعمار والمستعمرين وأذنابهم.

وقد تكررت لقاءاتي به في القاهرة وغيرها أثناء الرحلات والكتائب والمخيمات، ثم كانت المحنة سنة 1954 م التي غيَّبت معظم الإخوان في سجون الطاغية عبد الناصر، وكنت تخرجت وغادرت مصر، ولم ألقه إلا في سنة 1976 م في التوفيقية في مكتب المرشد العام الثالث عمر التلمساني ، وفي منزله، حيث سعدت به كثيراً في كل زياراتي، ورأيت فيه الرجولة والصلابة بكل معانيها في مواجهة الطغيان، والشفافية والرقة والحب والحنان في معاملة إخوانه، وعلاقته بالناس جميعاً، والأدب الجمّ، والتواضع، والطاعة، والامتثال لقيادة الجماعة، وبخاصة الأستاذ عمر التلمساني ، الذي كان يحبه ويقرّبه منه.

وكنت ألحظ ما يعانيه من آلام خلّفتها أيام التعذيب في السجون، فكان يصلي على الكرسي، ولا يستطيع الانحناء أو الركوع والسجود، ورغم ذلك، كان يمارس عمله الدعوي، ونشاطه الحركي، ودروسه وأحاديثه في تجمعات الإخوان وحلقاتهم بكل نشاط وحيوية، وكنت أرى احتفاء الإخوان به، خاصة الأخ جابر رزق الذي يذكر الكثير من مواقفه وثباته في المحن المتتابعة على الحركة الإسلامية المعاصرة.

ولقد سعدت وإخواني بقصائده التي نشر معظمها في ديوانه: "الصبر والثبات"، و"الصبر والجهاد"، ولقد سبق أن قمت باختيار بعضها ونشرها في مجلة المجتمع الكويتية الغرّاء.

كما قام الأخ الأستاذ حسني أدهم جرار، والأخ الأستاذ أحمد الجدع بنشرهما فيما أصدراه من كتب ودواوين وأناشيد.

رحيله

انتقل إلى رحمة الله تعالى في الرابع من مارس سنة 1986 م، الموافق 22 جمادى آخر 1406 هجريا حيث شيعه إخوانه في موكب مهيب.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، والحمد لله رب العالمين.